استهل سماحة الشيخ محمود طاهري مجالسه الحسينية بحسينية الحاج احمد بن خميس وذلك في الليلة الأولى من شهر محرم لعام 1441 هـ ، وتحت عنوان " روايات البكاء على الحسين جدليات و إشكاليات نقدية " بدأ سماحته برواية عن الإمام الرضا عليه السلام : " ان بكيت على الحسين (عليه السلام) حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته، صغيرا كان أو كبيرا، قليلا كان أو كثيرا " ، هذه الرواية التي ينقلها الشيخ الصدوق ، من الروايات التي تستدعي الوقوف عليها ، هناك جملة من الكتاب و المعاصرين ممن شككوا في رواية البكاء على الحسين عليه السلام ، هناك جملة من الإشكالات التي سنطرحها وصولًا الى كيف أن البكاء على الحسين يغفر الذنب العظيم ، هناك اجماع من المسلمين على أن المُحقق للاستغفار هو التوبة ، بينما هذه الروايات تبين أن البكاء على الحسين تعطي ما يعطيه الاستغفار ، فهل البكاء طريقًا تشريعيًا وكيف ؟
هناك جملة من الإعتراضات و الإشكالات ، الإعتراض الأول تبناه بعض الكتاب بأن روايات البكاء على الإمام الحسين روايات غير معتبرة و لا يمكن الأخذ بها و السبب هو عدم معقولية أن يؤخذ بالبكاء - حيث لا صعوبة فيه - بأن يعطي نتيجة كبيرة ، أي لا سنخية بين البكاء و بين نتيجة البكاء ، و أن البكاء عمل ضئيل و نتيجته كبيرة ، حيث توقفوا في روايات البكاء و أضافوا بأنه لو قبلنا بروايات البكاء فإن ذلك يفتح بابًا للذنوب و المعاصي ، حيث متى ما وقع الشخص على ذنب سيعرف أن البكاء على الحسين سهل وبسيط . الإشكال الثاني في أن روايات البكاء صادرة عن الأئمة عليهم السلام و لا نتمكن من توظيفها في زماننا المعاصر حيث أن البكاء على الحسين في زمن الأئمة كان يمثل عنصر المواجهة مع الأعداء ، البكاء في زمن الحسين لم يكن لبيان مقام البعد العاطفي بل من مصاديق التحدي مع السلطة آنذاك ، فاذا كانت تلك الظروف الحاكمة في ذلك الظرف الزماني و لا نراها مهيئة في هذا الزمان ، و بالتالي لا يكون البكاء على الحسين من مصاديق الإستغفار أي أن الروايات مؤقتة بزمن الأئمة .
الإشكال الثالث وهو ليس من مصاديق الإشكال العلمي ، العلامة الطهراني ينقل عن أستاذه السيد هاشم الحداد - الذي كان معروفًا من أهل السير و السلوك - ينقل أنه كان استاذنا في يوم العاشر لا يظهر الحزن و البكاء بل يظهر الفرح ، ويعلل ذلك بان الحسين وصل لمراتب الملكوت و الرضوان ، و هل يُبكى على مثل الحسين ، هذا السلوك لقائل أن يقول أن سلوك الفرح قد يدخل في قول الإمام الباقر " وَهذا يَوْمٌ فَرِحَتْ بِهِ آلُ زِيادٍ وَآلُ مَرْوانَ بِقَتْلِهِمُ الْحُسَيْنَ " وهو مشابه لسلوك قتلة الحسين ، اذا كان من باب التشفي و الإنتقام فهذا سلوكهم ، اما اذا كان من غير باب التشفي كان هناك مجال للحديث بهذا السلوك حيث لا يدخل في نطاق قول الإمام لأن فرحه يختلف عن ذاك .كيف أن البكاء يحط الذنوب العظام ، أي هل البكاء يغني عن الإستغار ، هناك روايات كثيرة تبين أن البكاء يعطي هذا الأثر ونحن نعلم أن الشارع المقدس أعطى طريقًا للتوبة و هو الإستغفار ، فهل يتساوون في مقام الرتبة ، الإشكال الأول يقول بأن البكاء على الحسين أمر ضئيل لا صعوبة فيه ، وقبل أن نجيب على ذلك نأتي بمقدمتين .
المقدمة الأولى : البكاء سلوك فطري عند الإنسان و الحيوان ، بكاء الإنسان ينشأ من الإدراك و المعرفة بينما بكاء الحيوان هو بُعد غريزي ، مناقشة السلوك العاطفي لأنه سلوك صادر عن الإنسان وبذلك يعتريه الفهم و الإدراك ، التعاطف بالبعد الإنساني ، البكاء ليس سلوك ديني محض ، روايات التشريع الديني هذبت البكاء ، والا فان روايات البكاء فطرية ، فيها جانب عاطفي ممزوج بجانب ادراكي ، حيث خسرت الأمة فيضًا من فيوضات الله ، و خسرت كمالًا من كمالات الله وهذا أمر لا عاطفة فيه ، و في عرض ذلك نتعاطف مع الحسين ، فلا يُلحظ دائمًا بلحاظ عاطفي فكري ، بل أن هناك جوانب فطرية ، لما قُتل الحسين نادى الملك من بطن العرش " أيتها الأمة الظالمة القاتلة عترة نبيها لا وفقكم الله لفطر ولا أضحى ." و قد سلب الخير الكثير من الأمة ، لا يوجد في روايات أهل البيت بيان و ارشاد الى البكاء العلمي و الإدراكي ، كل الروايات تشير الى الجنبة العاطفية ، من خلال سلوك المعصوم او الروايات التعليمية .
المقدمة الثانية ما هو ميزان روايات البكاء عند علماء الجرح و التعديل ، في الأمور الفقهية نلحظ صدور الروايات ، حيث هناك روايات مكذوبة ، و روايات موضوعة وهو أمر ممكن ، ابن عساكر في سلسلة كتبه تاريخ مدينة دمشق ، يقول عندنا أكثر من ثلاثمائة رواية ذكرت ان النبي بكى على الحسين قبل مقتله ، وهذه تفيد التواتر و القطع و اليقين ، مما يعني أن هذه الروايات صدرت عنهم عليهم السلام ، بلحاظ صدور الروايات لا يوجد اشكال ، لكن اذا تمكنا من اثبات صدور تلك الروايات فسنثبت مشروعية اقامة المأتم على الإمام الحسين ، حيث البعض يعتبرها من مصاديق البدعة ، نقول هناك طريق لإثبات مشروعية اقامة المأتم من خلال روايات البكاء على الحسين ، البعض يتصور بأن مفردة المأتم لابد أن تحتوي على عناصر هذا التجمع وهذا خطأ ، المأتم في العرف و الإصطلاح يُصدق على أقل عدد لو أقاموا الندبة على شيء ، اذا جئنا على البكاء و مفردة البكاء فهو مظروفٌ ، أي حالة معينة ، اذا ثبت المظروف يثبت الظرف وهو المكان الذي يُقام فيها العزاء
هناك عدة وجوه للرد على الإشكال الأول ، الوجه الأول : أن التشريع الإسلامي لا يعتني دائمًا في العمل على بعد الكم ، الملازمة في العمل و الثواب خاطئة و لا وجود لها ، وما ينقض ذلك في تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام ، عن الإمام الصادق " تسبيح فاطمة أحب الي من ألف ركعة " ، في المقاييس الألف ركعة تأخذ وقتًا أكثر بلحاظ البُعد المادي ، هذه دلالة على أن الأعمال تُلحظ بلحاظ ملاكاتها ، الشارع المقدس إذا أوجب أو حرم شيئًا فذلك لمصلحة ، تجعل المُشرع ينطلق لتشريع الحكم ، لو تتبعنا في الروايات نجد بأن هناك أعمال قد توصف بأنها ضئيلة ولكن ثوابها عظيم ، الوجه الثاني : استفسار لصاحب الإشكال على روايات البكاء ، هل هو بخصوص الإمام الحسين أم بمطلق البكاء ؟ حيث هناك روايات في البكاء من خشية الله ، عن أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " ما من شئ إلا وله كيل ووزن إلا الدموع، فإن القطرة منها تطفئ بحارا من النار فإذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، فإذا فاضت حرمه الله على النار ولو أن باكيا بكى في أمة لرحموا. " نحن نقول بأن البكاء على الحسين في عرض البكاء من خشية الله ، الفقهاء في بحث مبطلات الصلاة ، من مصاديق الأمور المبطلة للصلاة هو البكاء في أمر دنيوي ما عدا البكاء على الإمام الحسين فانه يخرج من نطاق البعد الدنيوي . الحسين مقدمة موصلة لله عز وجل ، وهي شخصية معنوية ، البكاء على الحسين ليس بالأمر السهل و الهيّن ، و يحتاج البكاء الى مقدمات و تطهير للقلب ، اذا كان الإنسان عاقًا لوالديه كان القلب ملوث فكيف تنذرف الدموع . من هناك جائت الروايات " فان لم تتمكن من البكاء فعليك بالتباكي " لأن هذه العملية التصنعية هي عملية تلقينية للنفس ، فاذا لقّن الإنسان نفسه بسلوك ايجابي فقد يصل للسلوك الواقعي .
التعليقات (0)