حين اشتغالي بدراسة ونقد المسرحيات التي تقدم في شهر محرم كان يلح علي سؤال هل ما يقدم في موسم محرم من مسرحيات نوع واحد، يمكن الحكم عليه وتقيمه بمعايير واحدة أم أنواع مختلفة، ومن خلال مسح وتصنيف وتوصيف سريع لأهم المسرحيات الحسينية التي قدمت في شهر محرم في التسعينات وما بعدها وجدتني أقوم بالإجابة على هذا السؤال.
إذ وجدت أن المسرح الحسيني الذي يقدم في شهر محرم يمكن قسمته إلى خمسة أنواع مسرح احتفالي، ومسرح القصيدة الموكبية، ومسرح شعبي ومسرح تسجيلي، ومسرح إبداعي.
أولا: المسرح الاحتفالي:
على رغم أن كل ما يقدم في شهر محرم من خطابة وأشعار ورسوم وخطوط ومشاهد وتجمهر تحت مسمى التعازي الحسينية يمكن تسميته بمسرح احتفالي إلا أن الخصوصية المشهدية لظاهرة المواكب الحسينية السيارة التي تجوب أنحاء العاصمة والقرى والتي تتكرر في شهر محرم من كل عام تمثل حالة مسرح احتفالي كاملة إذ في هذا النوع من المسرح يكون الناس ممثلين ومشاهدين في نفس الوقت متفاعلين ومنفعلين بالحدث وذلك حين يحتفون بثورة الإمام الحسين فالمشاهدون هم المعزون وهم الذين يتمثلون في خروجهم لهذه الظاهرة حركة أنصار الحسين ومجموعة الموكب حين يتجمعون في حلقات ويطوفون في أنحاء القرية وهم يرددون القصائد والأشعار الحاملة للقيم الحسينية المتعالقة مع الواقع إنما يتمثلون الحركات الثائرة المستلهمة لخط الحسين كالتوابين وغيرهم وأولئك الذين يحملون النعوش والأجساد المضمخة بالدماء إنما يحتفون بالشهيد ليقولوا أن حق الجثث التي سقطت على التراب من أجل حرية الإنسان أن ترتفع فوق الرقاب، وكذلك مشاهد الخيول التي تمثل عتاد المعركة، وكذلك مشاهد الأطفال الذين يحملون أواني الماء الصغيرة في صرخات بريئة قائلين: "العطش العطش يا حسين" وكذلك الجمال التي تمثل مسيرة الأسرى والنساء من أهل البيت وكأنهم سجناء وضحايا الرأي والموقف حين يقولون كلمتهم الشاهدة على العصر، إن هذه المشاهد المستقطعة من الحدث والتي تتمثل واقعة كربلاء وما بعدها وهي تتكرر في كل مواكب البحرين لتعمق البعد الاحتفالي في هذه الظاهرة حين النظر إليها مسرحيا، ويكفي في هذا المجال أن ما يقدمه الشيعة منذ قرون من تمثيل واقعة كربلاء بهذا الشكل وغيره يعد أبعد نقطة لتأصيل المسرح العربي.
ثانيا: مسرح القصيدة الموكبية
وهذا النوع من المسرح هو أشبه شيء بالمسرح الشعري حيث تكون القصيدة المعدة للموكب السيار أحيانا قصيدة حوارية يقدمها رادودان من رواديد الموكب الحسيني ثم اتجه البعض لتطوير هذه القصيدة الحوارية من خلال مسرحتها بإضافة شخصيات أخرى حيث يقوم الموكب الذي يطوف في أنحاء القرية بالتوقف في مكان أعد سابقاً كمنصة مسرحية أو ساحة محددة ويتم فيها تشخيص الحوار من خلال ممثلين يقدمون أحد المشاهد المؤثرة التي تزيد من التفاعل مع قصيدة الموكب وتعطيها بعداً أعمق مع حوارت شعرية تابعة للقصيدة من نسج الشاعر أو حوارات نثرية مستمدة من كتب المقتل الحسيني ويتخلل هذه المشاهد عادة أبيات من قصائد الرثاء الحسينية المعروفة وهذه المشاهد لا تتعدى النصف ساعة كما لا تخرج عن أطار السيرة الحسينية وشخوصها إذ أنها تقدم في ليلة المناسبة ويمعن الإخراج في صنع الموقف المؤثر الذي يستدعي التفاعل والبكاء وعادة تخصص له ليلة العاشر أو الأربعين ويكاد الموكب في تلك الليلة أن يتحول إلى مسرح متحرك في يؤديه الرادود والممثلين والجمهور من الأطفال إلى الكبار ومن الأمثلة على هذا النوع من المسرح المسرحيات التي قدمت في ليالي العاشر من محرم الحرام كمسرحية عودة الفرس 2002م والفاجعة 2003م وسيد الفرات 2004م في السنابس.
ثالثا: المسرح الشعبي:
وسمت النوع الثاني من المسرح الحسيني بصفة الشعبي لما يكتنف عرضها من حالة شعبية حيث تقدم في نفس يوم أو ليلة المناسبة في الساحات الواسعة في القرى وأحيائها ويكون الجمهور والممثلون عادة من نفس القرية ويكون نصها الأساسي مستمد عادة من الصورة الشعبية المتخيلة لكربلاء ومما يحفظه الناس من السيرة الحسينية وكثيرا ما تحس أن هذه المسرحيات تكاد أن تتحول إلى مجالس تعزية حيث يكثر الاستشهاد بالأبيات الحسينية الشعبية وذلك ليس غريبا إذ أن الكثير من مشاهدها مستمد من ذاكرة الأبيات الحسينية ذات اللهجة الدارجة، ويكفي أن ترتدي مجموعة من الممثلين اللون الأخضر حتى يدرك المشاهد أنهم من أصحاب الحسين وترتدي المجموعة الأخرى اللون الأحمر حتى يفهم المشاهد أنهم في الصف الثاني ومن أصحاب يزيد، ومن أمثلة المسرح الحسيني الشعبي تك المسرحيات شبه الناجزة والمشاهد التي تمثل في يوم العاشر من محرم مثل مشاهد مسرحية حرق الخيام في بني جمرة ومسرحية مأساة كربلاء وكذلك عزاء بني أسد والمشهد المتخيل لعرس القاسم وكذلك مشهد علي الأكبر وأمه ليلى.
رابعا المسرح التسجيلي التاريخي:
وهي مسرحيات تسجيلية توثيقية لما حدث في كربلاء وهي المسرحيات الحسينية التي تستمد مادتها من التاريخ معتمدة على عنصر التوثيق ما أمكنها مبتعدة عن الصورة المتخيلة شعبيا للمعركة وشخوصها ومبتعدة كذلك عن نسج الخيال الإبداعي معتمدة على كتب السيرة الحسينية وكتب المقاتل وكتب التاريخ حيث تروي في أحداثها سيرة الشخصيات المتعلقة بكربلاء وتوثق لأهم الأحداث الممهدة للمعركة والثورة، ومن العادة أن تمثل هذه المسرحيات في صالات المآتم أو خارجها حيث يتم إعداد خشبة خاصة بذلك، وتكون اللغة العربية الفصحى هي وسيلتها للتعبير مع الاجتهاد في استخدام التقنيات الإخراجية الحديثة من مؤثرات صوتية إضاءة، وفي الوقت الذي تتلقى هذه المسرحيات بالاحتفاء والتقدير من أصحاب المآتم الجمهور كونها طريقة جديدة لإحياء المناسبة فإنه يلحظ على هذه المسرحيات التلقي السلبي نقديا إذا لم تجدد في محتواها المقدم للناس ولذلك عليها أن تحاول التخلص من إقحام الأبيات الحسينية في وسطها إلا ما كان يعمق الحدث حتى لا تستلب الأبيات الألق المطلوب من حالة التمثيل ومحاولة التجديد في طرق التأثير، وكذلك تحاول أن تجتهد في البحث عن الأحداث غير المطروقة والمعروفة سلفا عند الناس حتى لا تفتقد عنصر التشويق والتميز والإضافة، كما تحاول أن تقدم الحدث التاريخي بشيء من الإبداع والتجديد في الربط بين الأحداث بما يعمق من القدرة على الكشف عن الأبعاد العميقة التي صنعت كربلاء وشخوصها وأحداثها، ومن الأمثلة على هذا النوع من المسرح الحسيني التسجيلي مسرحية نكث العهود 2002م وموت عز 2004م وقد عرضتا في السنابس وباربار وسترة والنعيم.
خامسا: المسرح الحسيني الإبداعي:
أما النوع الخامس فمسرح إبداعي حيث يتخذ من الحادثة ومضامينها مجرد منطلق ليقول ما يريد متجردا من عنصري الزمان والمكان إذ ينطلق في الماضي والحاضر والمستقبل ويحلق في قيم كربلاء ومعانيها من غير أن يلتزم بالصبغة التاريخية الموثقة أو الصورة الشعبية المتخيلة من خلال مسرحيات التي تحاول أن توظف القيم التي ثار من أجلها الإمام الحسين في شكل مسرحي مختلف وقد وسمت هذا النوع بالإبداعي لأنها مسرحيات تحاول أن تتخلص من الأطر السابقة التاريخية أو الشعبية، فلا تعتمد على التاريخ كأساس للحكاية المسرحية ولا على الأبيات كأسلوب مؤثر ولا على مجلس التعزية أو الموكب وإنما تحاول أن توظف التراث الحسيني ما أمكنها لتقدم رؤية للقيم الحسينية في شكل مسرحي أبداعي محاولة أن تتواصل مع أفضل الأطر المسرحية لاجئة للإمكانات التقنية المختلفة للإخراج مبتعدة عن التقليدية ما أمكن متخلصة من الإخراج الجماعي المعتاد في الأنواع السابقة، ومن الأمثلة على هذا النوع من المسرح الحسيني مسرحية صرخة الحسين في القدس 2000م والتي قدمت في أرض المعرض، ومسرحية الملحمة الحسينية الخالدة 2004م والتي قدمت على صالة النادي الأهلي.
وفي الختام لا أراني أتجه لرفع نوع من الأنواع المسرحية السابقة على آخر بقدر ما أدعو لتطوير الإمكانات التي يتمثلها المسرح الحسيني والاتجاه إلى الإتقان على مستوى الأداء التمثيلي والإخراجي وامتلاك الأدوات المسرحية الحقيقية للتمكن من الرسالة المراد توصيلها بفاعلية، مع الإشارة إلى أن ما قدمته مجرد اجتهاد في التصنيف والتوصيف مع شدة توقي وانتظاري لمن سيضيف إلى هذه الرؤية ما يثريها ويزيد من فعاليتها.
التعليقات (0)