" المؤمن بين الحداثة و الأصالة " عنوان المجلس الحسيني ليلة الثالث عشر من شهر رمضان لعام 1440 هـ ، و قد ابتدأ سماحته بحديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام " ما هدم الدين مثل البدع، ولا أفسد الرجل مثل الطمع، إياك والأماني فإنها بضائع النوكى " ، الإمام أمير المؤمنين في مقام بيان خطورة الإبتداع على الدين ، الدين مصدره السماء ، و بعث عز وجل الكتب و الأنبياء من أجل قيادة الإنسان الى سعادته و كماله ، و قد صاغته يد متقنة و ارادة حكيمة ، ارادة تنطلق من صفات ذاتية لله أولها العلم ، اذا شرّع الله شيئًا ، فانه ينطلق من علم مطلق ما كان و ما سيكون ، لهذا الزمن و للأزمان المقبلة .
علم يتوافق مع مصالح العباد و يوصلهم لكماله و سعادتهم ، علم ليس محدود في ادراكه ، الله العالم بالعلم المطلق ، متى ما شرع حكمًا فانه سيصلح لكل زمان و مكان ، الصفة الثانية الحكمة ، الله من صفاته الذاتية انه حكيم ، و الحكمة تقتضي الإتقان ، كل شيء خلقه الله يتوافق مع قدرة وامكانية الإنسان ، الحكيم الذي اذا فعل لم يفعل عبثًا ، وكل اوامر الله من أجل غايات مرصودة من السماء ، الصفة الثالثة لله هي القدرة ، لله يتسم بالقدرة المطلقة على كل شيء ، عندما ينطلق الدين من ضوابطه و تشريعاته من ارادة ربانية ااسم بتلك الصفات و نضم لها صفة رابعة وهي الرحمة ، الله عز وجل و ان شرع الأحكام ، فانه وسم نفسه بالرحمة ، كل حكم ضرري و حرجي يسقط ، و نأتي بالحكم الثانوي و البديل ، هذا الدين دستور سعادة الإنسان ، أكبر نعم الله على الإنسان هو الدين ، و أعظم مصائب الإنسان اذا كانت مصيبته الدين . ان من اخطر النوائب و البلائات التي يتعرض لها الدين ، الإبتداع و هو ادخال في الدين ما ليس فيه ، نحن المسلمون ننطلق من قاعدة رصينة ألا وهي توقيفية الأحكام و العبادة ، ان ما شرّعه الله على عباده ، يجب العمل به من دون زيادة او نقصان ، و لا يحق لك حتى من الدوافع الخيرة ، - أن تحول صلاة الصبح الى أربعة مثلًا - ، فلا يجوز ذلك ، عندما تنطلق كلمة الإمام علي ( ع ) عن البدع لأنها خطيرة ، فهي حالة افساد تُلبس ثوب الدين و الحق لكنها تنخر في الدين ، فتراها دينًا و ليست بدين ، فتتهاوى القيم الثابتة ، عنه ( ص ) " أهل البدع كلاب اهل النار " ، لابد من الحفاظ و الدفاع عن ديننا ، دفاعًا مستميتًا و لو نقدّم أرواحنا و أبداننا و أعز ما نملك من اجل دين الله . الفكر الحداثوي من أخطر الامور ، عندما نتطلع على حقيقتها ودوافعها و أهدافها و كيف يمكن أن تسبب الحداثة أخطارًا فادحة على مستوى الدين و العقيدة و القيم ، الدين لا يقف أمام التجدد ، و لا أمام الإبداع ، ولا أمام التغيير المستمر " من تساوى يوماه فهو مغبون " حدث من حياتك يومًا بعد يوم ، ولكن بوصلة التغيير يجب أن تكون مُحكمة و متقنة ، و يجب أن نحدد ما يجوز تغييره و ما لا يجوز تغييره ، ما هو الثابت و ما هو المتغير .
تحيّر العلماء في مفهوم الحداثة ، حيث انه ليس مفهومًا ، بل هو نمط من أنماط التفكير ، نمط تفكير للبحث عن الجديد ، و الهجر للقديم و الماضي ، وقال بعضهم بأن الحداثة هو الشيء الجديد و الذي يعاكس الشيء القديم ، و الإنتقال من حالة قديمة الى حالة جديدة ، بالعودة الى تاريخ الحداثة الفيلسوف هيجل أول من أسس للحداثة و دعى اليه وابتدأ بالمجال العلمي و الفني و الادبي ، ثم أخذت نطاقًا واسعًا على مستويات عدة ، من الذي دعوا للحداثة رويد ، و كارل ماركس ، و فريدريش فيلهيلم نيتشه ، و دارون ، وهؤلاء يعتبرون من دعاة و مؤسسي الحداثة ، ليعيد الناس النظر في معتقداتهم و ما يؤمنون به ، و يحكموا العقل و العقلانية في كل ما يؤمنون به ، وهذا ولّد نمطًا اجتماعياً في حركة التاريخ ، و أطلق عليه العلماء عصر التنوير و سمي بعصر النهضة و عصر الإبداع ، كلها أسماء براقة و رنانة .
مجالات الحداثة ثلاثة ، أولًا المجال الإقتصادي ، سعوا نحو ايجاد نهضة اقتصادية غيرت المجتمع الاوروبي ، هجر ادوات الإنتاج القديمة و ابتكار وسائل حديثة ، وهو لا يصطدم مع الدين ، بشرط أن يكون متوافقًا مع الأسس و المبادئ ، ثانيًا المجال السياسي ، أسست الحداثة الى أنظمة سياسية معاصرة وهجرت انظكة دكتاتورية جائرة و أوجدت الديموقراطية ، و الأنظمة المعاصرة نجد ان أفواه الناس تسير لعابًا على ان النظام الديموقراطي هو أفضل الأنظمة ، هو ليس الأكمل و الصيغة الأفضل من نظم السماء ولكنه أفضل خيار مطروح في اليد ، ثالثُا المجال الفكري وهنا تكمن الخطورة ، الحداثة لها انطلاقات واسعة تؤمن بحرية الرأي و التعبير و الإنتماء و الاديان ، لا يوجد دين الهي يؤمن و يًلتزم به ، تؤمن الحداثة بتغيير الدين و هجران القديم . من افرازات الحداثة كفكر وكفلسفة و كنظم أسس لها و دعا اليها جمع من الفلاسفة في الغرب ، من ضمن تلك الإفرازات علمانية الدولة ، لا بالدولة الدينية ، الدولة الدينية لا يُمكن للحداثة أن تؤمن بها أو يُقبل بها ، - كيفما اتفق الدين اسلاميًا او مسيحيًا او بوذيًا أو غير ذلك - ، أفرزت الحداثة الرؤية الديموقراطية ، حرية الإختيار و تحديد المصير لدى الشعوب ، أيضًا أوجدت المنظمات الحقوقية للإنسان ، من محاور الحداثة أن الإنسان يعتبر واحد من الركائز ، فلابد أن يُحفظ عقله و نفسه ، فوُجد تبعًا لذلك الأنظمة التي تحفظ حقوقه ، و أفرزت لنا مجتمعًا مدنيًا ، و أفرزت مطالب الحرية الشخصية عند الفرد فله الحرية المطلقة حتى على مستوى الدين . فالاديان من مقيدات التغيير وهنا تكمن الخطورة .
الفكر الحداثوي بدأ يتسلل الى كثير من عقول المثقفين فأثر في تدينهم و رؤيتهم للدين و العلم و العلماء ، فتسلل التشكيك في نفوس بعضهم ، الفكر الحداثوي تسلل بأساليب جميلة و من خلال الحرب الأيدلوجية ، التي من شانها أن تغسل أدمغة الكثير ، في الشريعة الإسلامية من منطلق قواعد الدين الثابت ، من المحرمات قراءة كتب الضلال ، فيجوز لمن يملك القدرة في الرد على تلك الدعاوى فقط ، اذا لم تكن تملك مناعة فكرية و روحية وقعت في شركها ، أول ركائز الحداثنويين هي ركيزة العقلانية وهي إخضاع الوجود و الكون وكل شيء الى الفكر العقلائي ، يُوازن بالعقلانية ، هذا فيه جانبٌ إيجابي و جانبٌ سلب ، لوازم ذلك ، حتى يعمل العقل ، رأى الحداثويين ضرورة رفع الوصايا عن العقل ، دع العقل حُرًّا ، ولا يوجد قيدٌ يقيده و لا حكمٌ يحكمه ، وهذا وليد ما جرى في القرون الوسطى ، حيث كانت الكنسية تقف أمام العقل الإبداعي ، لكن الإسلام يدفع بالعلماء و المبدعين للإنتاج ، فهذا العقل له مهمة عظيمة ، و لكن الحداثة يرفع الوصايا عن العقل ، بان ينتج ما يشاء ، يرون بأن العقل سيكون سجين الخبرة و التجربة الحسية ، و كل ما في الكون له أسباب و مسببات ، فذهبوا للمذهب التجريبي ، و ما لا يمكن أن تُقام عليه التجربة لا يؤمن به ، و هنات تترتب خطورة عندما نؤمن بالعقلانة الحسية لدى الغرب ، حيث أنكروا البعد اللاهوتي ، وهذه ضربة حتى للفكر المسيحي ، فهم يؤمنون باللاهوت و الناسوت ، اللاهوت هو المسائل الإلهية ما يعادل عندنا نحن المسلمون علم الكلام ، و هو علم المسائل العقائدية التي تدور حول الصفات الذاتية ، علم الناسوت علم الطبيعة المادية الحسية ، وهؤلاء لانهم يؤمنون بأن كل شيء في الواقع له أسباب خارجية ، فأصبحوا يبحثوا عن البُعد التجريبي .
من الخطورة انكار وجود الله و ما وراء الطبيعة ، و الملائكة و الروح و عالم البرزخ ، المنهج التجريبي انما يصلح للامور التجريبية ، بينما الوجود الالهي و الملائكة فان المنهج العقلي الإسلامي قادر على ذلك ولكن العقل الغربي الحداثوي لا يمكنه أن يُدرك ذلك ، المحور الثاني للحداثة التطورية أنهم يؤمنون بضرورة التطور المستمر الذي لا يقف عند نقطة ، كل شيء ماضي ، لا يؤمنون بتقديس السلف ، لأن الماضي كان ارهاصُا تراكميًا ليوجد الحاضر ، و الحاضر بما هو فيه يمثل ارهاصًا ليوجد المستقبل ، لا يوجد للأسس العقدية الثابتة أي قيمة ، بل يجب ان تجعلها تراكمًا لتولّد فكرًا جديدًا ، اذا اعتقدنا كما يعتقد فريدريش فيلهيلم نيتشه في نظريته موت الإله و العدمية ، سيبدأ الناس ينطلقون في مختلف الأفكار و الأبعاد ، من أبرز سمات الفكر الحداثوي البعد الإقتصادي ، الذي اخذ حيزًا واسعًا على مستوى الرفاه المادي ، الإنتاج و التكنولوجيا و التطور العسكري ، هو من اوجد فارقًا على مستوى دول العالم ، الحداثة لا تؤمن بقداسة الثابت ، لابد من حركة تجديدية ، فالحداثة ترتطم بالاديان ، تيتشيه له نظرية " ملزمين باعلان موت الله الخالق " ، لخلق اله جديد ، وهذه حرب خطيرة في المنظومة الدينية ، وفي رأي نيتشيه علة ذلك " أن يكون كل انسان ملزم أن يكون لنفسه منظومة أخلاقية " ، الركيزة الأحيرة هي مركزية الإنسان ، قائد عجلة التغيير في الكون هو الإنسان ، وهو من يملك على الصنع و التغيير ، فصاروا يمجدون عقل الإنسان الذي يسيطر على الطبيعة و مقدراتها وايجاد على ما لا يقوى الآخرون على فعله . وهذا أفرز الفكر العلماني . الإسلام المعتدل ليس كالفكر السلفي الذي وقف وقفة من حديد ، ديننا يؤمن بضرورة الإنفتاح و أخذ كل ما ينفع المسلمين ، الحكمة ضالة المؤمن ، فلتأخذ ما ينفعك و تسلح بالعلم .
نظرة الإسلام للحداثة ، هناك ثلاث مصطلحات ، الدين و التراث و التحريف ، الدين كل ما ثبت بالدليل القطعي الثابت ، و هو القرآن و السنة القطعية ، و الدين مُقدّس ، فلا يُحتمل فيه الخطأ ، و التجديد و التغيير هو فرع احتمال الخطأ ، المعصوم و ما جاء منه من حكم ثابت و القرآن من الدين ، لأن الدين صواب محض وهو فوق الخطأ ، الدين هو ثابت و مقدم و لا يجوز المساس به ، التراث هو عبارة عن الإجتهاد البشري لفهم الدين ، الذي يستند الى القواعد العلمية ، الإجتهادات العلمية المستندة للشرائط و القواعد العلمية للإستنباط محترمة و ليست مقدسة لإحتمالية الخطأ فيها ، فلا تعجب ان يغير أحد العلماء رأيه ، التحريف هي الآراء التي لا تستوفي الشروط للإستنباط و القواعد العلمية ، فمن يدّعي الآراء من دون الإستناد الى القواعد العلمية وما ينتج عنه هو تحريفًا و ليس تراثُا ، اذا اتضحت فالنظرية الحداثوية ستضرب بالاديان عرض الجدار ، لأنك يجب أن تكون منطلقًا ولست مقيدًا فأنت المركز و أن يتحرر عقلك في الإبداع و لذلك حذر عليه السلام من هذا الخطر ، العلم هو الحجة في قبول شيء من عدم قبوله
التعليقات (0)