" الحكام وحاجات الشعوب " عنوان المجلس الرمضاني ليلة الثاني عشر من شهر رمضان المبارك لعام 1440 هـ ، ابتدأ سماحته بالآيات الشريفة من سورة الكهف " وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) " ، المتأمل في كتاب الله وبالتحديد في هذه الآيات التي تحدثن عن ذي القرنين ، ساق المولى عز وجل ما يعادل ستة عشرآية تتحدث عن ذي القرنين و الحديث يتشعب الى شعبيتن ، الأولى ذكر ذي القرنين في كتاب الله لهو من دلائل إعجاز القرآن ، على اعتبار ان كتاب الله ، يُعتبر كتابًا اعجازياً ، ومن مظاهر الإعجاز البلاغة ، الا أن البلاغة في زماننا أصبحت غير متذوقة و لا قيمة لها ، لا يدرك البعض منا الجنبة الإعجازية الا اذا كان متخصصًا في علم البلاغة و اللغة ، تحدّث القرآن بأسرار لا يدركها عقل الإنسان ، وتحدث حول حقائي و ظواهر أصبح العلم المعاصر يكتشف بعضها ، و قد تحدّث القرآن عن قصص الماضين .
ذو القرنين أول الملوك بعد نبي الله نوح ، وتاريخه ضارب في عمق التاريخ البشري ، والقرآن الكريم ذكر الحديث حوله ، مجموعة من الدروس و العبر ساقها القرآن الكريم للحكّام و القادة من جانب ، وللشعوب من جانبٍ آخر ، الآيات التي تحدثت عن ذي القرنين ، تتحدث عن ملكٌ عادلٌ حاكمٌ ، و شعوب مختلفة الأزمات ، ثلاثة أصناف من الشعوب و كل شعب له أزمة ، وقد عالج ذي القرنين تلك الأزمات . اُختلف في تعريف ذي القرنين هل هو نبي مبعوث أم عبد صالح ، فالروايات على قسمين ، قسم يرى حاله كطالوت حيث أنه كان ملكًا ، وقسم يؤمن بنبوته ، هذا برأينا الإمامية ، أما التاريخيون ، فلهم ثلاث نظريات ، النظرية الأولى ذي القرنين هو حاكم عادل وملك صالح انبسطت يده على الأرض ومكنه الله على البلاد و العباد وقالوا بأنه الإسكندر المقدوني ، حيث استطاع أن يبسط يده على الروم و الفرس و دخل الى مصر وسميت الإسكندرية نسبة له ، ثم امتدّت سلطته الى الصين و الهند و فارس والعراق و توفي في مدينة زور بالعراق ، النظرية الثانية أن ذي القرنين هو ملك من ملوك اليمن ، أعطاه الله سلطة و أعطاه خصال للقيادة و المُلك و كان عبدًا صالحًا ، و قد ذهب جمع من المؤرخين مثل ابن هشام في تاريخه سيرة ابن هشام ، النظرية الثالثة لأحد المفكرين الهنود وهو أبو الكلام آزاد - وزير الثقافة - وهو مسلم و ألّف كتاب حول ذي القرنين ، حيث وسمه بخصال كالعلم و رجاحة العقل و الإرادة القوية و القوة المادية و القوة البشرية .
سرّ تسميته بذي القرنين لها رويات مختلفة ، الأولى لأن له ظفيرتان طويلتان، ما نسميه نحن جدنتان ، و الثانية لأنه بسط يده على المشرق و المغرب ، وكان العرب يسمون المشرق و المغرب بالقرنين ، و صنف آخر بسبب أنه له انتفاخ في جمجمة الرأس ، و رأي أخير أنه خاطب أحد الطغاة فضرب على جبينه ( قرنه ) الأيمن ، فغاب عنهم زمنًا طويل و عاد اليهم فضرب على قرنه الآخر ، أبرز خصال ذي القرنين الذي جعلت منه نافذًا في البلاد و العباد هي العلم ، لا شك في أن العلم قُرن بالبصر ، و الجهل قُرن بالعمى ، فالعلم نور و العالم بصير ، الصفة الثانية العقل ، والعقل من أكبر النعم ، فهو معيار الموازنة بين الخير و الشر ، من سورة البقرة " اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " ، فالتعقل قرين العلم و العلم بلا تعقّل لا خير فيه ، ثالثًا الإرادة ، قد يكون عالمًا و عاقلاًا لكن إرادته مسحوقة ، فهؤلاء الملوك لا يحركون الشعوب ، أصحاب الإرادات الثابتة يغيرون شعبهم من حال لحال أفضل ومن شأن لشأن أفضل ، رابعًا القوة المادية و القوة العسكرية ، نعني بها قوة الشعوب ، فلو وجدت قيادة بمال دون شعب ، أو مالًا دون شعبًا ، فهاتان قيادتان ضعيفتان ، وهذه الحقائق كلها توافرت في ذي القرنين ، عالمٌ ، عاقلٌ ، ذو إرادة ، و قوة مادية .
ذو القرنين تحرّك في مسيرةٍ سجّلها القرآن الكريم للإعتبار ، فمر على ثلاثة أصناف من الشعوب ، وكل صنف يعاني من أزمة ، هناك أزمة عقائدية دينية وحلّها ذي القرنين ، ثم مر بشعب يعيش أزمة إقتصادية و اسكانية و حلها ذي القرنين ، ثم مر بشعب ثالث يعيش أزمة أمنية و حلها ذي القرنين ، كيف لا وهو العالم العاقل المريد ، و يملك القدرة في ذلك ، الشعب الأول : " حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا " ، فردّ عليهم ذي القرنين " قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) " هؤلاء شعب كفروا بالله عز وجل ولديهم انحراف ليس أخلاقي بل عقائدي ، الحاد و انكار لله عز وجل و ابتلي هذا الشعب بالكفر ، و الكفر لغة أي سَتَر ، أن تأتي بمعنى الستر أو الجحد ، فجاء ذي القرنين من أجل رفع غطاء الكفر ليصل نور الإيمان ، فلما وصل كان بخيارين أن يقاتلهم أو يعرض عليهم الإيمان ، الظالم منهم يعاقب و المؤمن يُجازى ، الله يطلق على الشرك بالظلم في سورة لقمان " إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " . العلم و الحكمة أساس التغيير في كل شيء ، فكان قادرًا على تغيير عقائد الناس ( والعقيدة تُعادل الهوية ) ، تغيير المعتقد لا يكون الا عن طريقين ، الدليل و البرهان ، الكلام اللين اللطيف يذهب للعقل، و الدعاة لله يستعملون هذه الأساليب ، و ان مثل ذي القرنين يستعمل هذه الأساليب ، و قد انصرف ذي القرنين من تلك البلدة و قد أحسن إيمانهم و أصلح عقيدتهم .باستعمال الأساليب الأكثر تأثيرًا و الأقصر طريقًا .
قال ( ع ) في وثيقته الى الأشتر ، أعطاه وثيقة فيها دستور ، أن يقسم الناس الى مسيء و محسن ، و لا يمكن أن يتساوون ، " ولا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإحْسَانِ فِي الإحْسَانِ ، وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإسَاءَةِ عَلَى الإسَاءَةِ " فلو تساوى المحسن مع المسيء فلا قيمة للقانون ، وهذا ما فعله ذي القرنين ، وهذا عين الحكمة في مقام المكافأة و المجازاة ، الشعب الثاني ، " ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا " العلماء و المفسرون و ظاهر النص القرأني ، هناك احتمالين ، إما أن ذلك الشعب لديه أزمة اقتصادية لدرجة لا يملك سترًا و غطاءً عن الشمس فتسلخ أجسادهم من الفقر ، فهم عراة مسحوقون ، و الرأي الثاني لا يملكون بيوت ، أي أزمة اسكانية ، شعب بلا مسكن يظلّه ، فجاء ذي القرنين ، وقف إما ليحلّ وطأة الفقر ، او نحو أزمة المسكن ، ملكٌ كذي القرنين يعلم خطورة الفقر ، الفقر يمثل سياسة التجويع في الشعوب ، وهذا ما تسعى اليه القوى الكبرى من أجل الهيمنة على أعناق الشعوب و مقدراته ، قال أبوذر الغفاري في رواية " عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه " . كان عليٌ حاكم عادل عاقل و قال " لو تمثل لي الفقر رجلًا لقتلته " يعلم بأن الفقر يجر الى الضياع و الجريمة و الإنحراف .
الشعب الثالث يعاني من أزمة أمنية ، و يعيش حالة من الخوف و الإستقرار " ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) " الرحلة الأولى عند مستنقعات و مياه ، الرحلة الثانية صحراء ، الرحلة الثالثة جبال ، " قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) " إما أن لغتهم ليست كلغة ذي القرنين ، و إما أن أدراكهم العقلي ضعيف ، وهذا الشعب كان غنيًا و يملك الموارد الإقتصادية القوية ، لكن لا يملك الوعي و المعرفة ، و هذه أزمة العرب ، لكننا لا نملك الخبرة العلمية ، و نحتاج الى تطوير ، ياجوج و مأجوج هو مصدر الإرهاب ، وهما قبيلتان غوغائية ، تقتل و تنهب و تسلم وكانت تهجم على هذا الشعب ، هنا نكات علمية ، النكتة الاولى ، ان ذي القرنين يملك قدرة علمية متقدمة أذهلت علماء الحاضر ، " آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) " ، الحديد عندما يضاف اليه النحاس ، تتضاعف قوته ، القطر هو النحاس ، فصنع لهم سدًا منيعًا ، ثم أمرهم و علّمهم كيف يبنون البيوت فبنوا لأنفسهم ، و هو من يدير العملية ، لم يصنع لهم السد من الصخر لأنه يعرف قوة يأجوج و مأجوج ، " فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) " ، في الختام أخذ عقولهم للآخرة ، " قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا " كله سيزول و ينتهي امام قوة الله . الملوك و الزعماء الذين ينطلقون من منطلقات إلهية عينهم على الله ، اذا تحركوا في الأرض تحركوا بمنهج الإصلاح و لا يعرفون الفساد .
التعليقات (0)