شارك هذا الموضوع

الصفا ليلة الثالث من شهر رمضان لعام 1440 هــ

" دور العبادة في صقل الإرادة " عنوان المجلس الرمضاني لليلة الثالثة من شهر رمضان المبارك لعام 1440 هـ ، حيث استهل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته بآية من سورة المزمّل : " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) " القرآن الكريم يحدثنا عن دور العبادة في صناعة الإرادة و نحن في واقع الحياة عندما نتأمل حياة العظماء الذين بلغوا مراتب العظمة و الإنجاز في حياتهم ، نجد انما وصلوا الى ما وصلوا اليه من خلال سلّم الإرادة ، الإرادة التي يتمتّع بها العظماء هي السبيل للوصول الى طموحاتهم و أهدافهم ، من أراد مرتبةً عظيمةً عند الله ، لن يستطيع الا بالارادة ، الله أبان بأن هذا الطريق هو طريق الكدح " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ " الكدح لا يمكن أن نتجاوزه الا بالارادة الصلبة ، ولننظر للأنبياء و الرسل ، كيف استطاعوا تحقيق أهداف السماء في الأرض بالإرادة ، فنبينا ( ص ) الذي صنع مجد الأمة الإسلامية و أبقى تاريخها شامخًا و زلزل أركان الكفر و الإلحاد في الأرض و جعل كلمةَ الله هي العليا كان يتمتع بإرادةٍ صلبة ، حيثُ أرسلوا اليه عمّه أبو طالب عارضين عليه الملك و الزوجة و المال ، على أن يتنازل عن دعوته التي جاء بها فقال ( ص ) "يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أن أُقتل دونه " .

البعض يملكُ ارادةً لا حُدود لها ، فيصل الى ما يصبو اليه ويُنجز ، و البعض يملك ارادة ضعيفة وهنة مُتعبة ، تخذله في منتصف الطريق و البعض مسحوق لا ارادة له ، الإرادة لها مدخلية في حركة الإنسان في الحياة ، مدخلية العبادة في صناعة الإرادة تدور حول محورين ، التعريف العلمي للإرادي ، و كيف يمكن للعبادة أن تفجر الإرادة في قلوب الناس ، يختلف تعريف العبادة علميًا باختلاف نوع العلم ، الإرادة في علم الأصول و الفقه شيء و في علم الفلسفة شيء و في علم الإجتماع شيءٌ آخر ، في النتيجة لابد ان نتعرف على حقيقة و كُنهِ الإرادة لما لها من فائدة في تقدم الإنسان و تأخره ، في انحداره و في قربه ، عند الأصوليين و علماؤنا ، يُقسِم علم الأصولِ عالمَ التشريع الى قسمين ، عالم جعلي ، هو عالم الأحكام التي يُشرعها الله عز وجل لكنها ليست فعلية ، و عالم مجعول تكون الأحكام فيه فعلية ، قبل أربعة عشر قرن ، " فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ " الحج واجب في عالم الجعل فقط لو كان الناس كلهم فقراء ، اما لو كان الناس كلهم مستطيعون بكل أنواعها تحول وجوب الحج من قوة ( عالم الجعل ) الى فِعل ( عالم المجعول ) ، ويبعث حركية الإمتثال ، عالم الجعل يقول فيه العلماء يتكون من ركائز ثلاثة ، الملاك و الإرادة و الإعتبار ، ما اوجب الله شيئًا الا ومن وراءه مصلحة كبيرة ، و ما حرّم عز وجل شيءٌ الا ومن وراءه مفسدة كبيرة ، واذا كان مكروهًا من وراءه مفسدة صغيرة ، و اذا كان مستحبًا من وراءة مصلحة صغيرة ، المصالح و المفاسد هي ملاكات الحُكم و هي التي تُفعّل الإرادة ، اذا وُجدت مصلحة كبيرة تُولّد ارادة قوية بالفعل ، واذا وُجد أمرٌ محرّم فان من ورائها ارادة بالترك ، الإرادة في عالم التشريع فرع المصالح و المفاسد ، اما الإرادة إمّا دافعة ( الواجبات ) أو مانعة ( المحرّمات ) .

أما في علم الإجتماع ، هو علم اختصاصي ، العلماء تحدثوا عنه و كما نقل عن الفيلسوف الألماني ( فيلتريك انجلرز ) يعرف الإرادة : هي المقدرة على اتخاذ القرارات من تلقاء نفسه ، أن تفعل او لا تفعل ، أن تُقدم أو تُحجم ، حياة الإنسان تحتاج الى قرارات ، اذا كنت قادرًا على اتخاذه من تلقاء نفسك فإنك إنسان مُريد ، و اِن تدخّل الناس فلا إرادة لَك ، علماء الفلسفة تكلموا بأنها قوة يُقصد بها شيء دون آخر ، هناك عملية تفاضل و اختيار بين أمرين و يملك الإنسان الإختيار ، علماؤنا الأجلاء في مقام علم الفلسفة يقولون بأن الإرادة تمرّ بمراحل ، أولًا معرفة قواعد الخير و الشر ، ان كان الشيء محبوب و حسنٌ وبه كمال ، يُبعث في النفس شوقٌ وميل في اتجاه ما كان خيرًا ، الإرادة يسبقها ميل و شوق و الميل يتولّد من معرفة الخير ، بشكل مُبسط الكون فيه خير و فيه شر ، تنبعث ارادتك تجاه فعل الخير و الكمال و يكون جليًا وواضحًا و يكون قهريًا وليس اراديًا ولكن ارادتك اختيارية ، الحيوان أيضًا ينبع فيه الميل الفطري و الشوق الفطري ، فلو رأينا الخير و الجمال ، الميل فطري ؛ لأن توليد الإرادة ترجع الى حاكمية العقل ، من سورة يوسف " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ " التفاسير تقول بأن يوسف همّ بقتلها ، و لكن تفسيريًا ميل يوسف كان فطريًا ، و هذا سرّ الفرق بين الإنسان و الحيوان ، " وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " هل هو من منطلق مشيئتي او مشيئة الله ، أنت ترى خيريته فيتولد الميل ، اذا خرج من ارادتك يدخل في ارادة الله ، أنت تتحمل الإرادة ، تفعل او لا تفعل ، المصالح و المفاسد ، المكاسب و الخسائر ، العقل هو الذي يُوازن تلك الإرادة بالفعل و عدم الفعل .

الإرادة تمثل قوة نفسانية باعثة للإنسان و هي سرّ الإنجاز ، القرآن الكريم في قوله " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا " الله يخاطب نبيه بقيام الليل ، و قيام الليل له مدخلية في صنع الإرادة ، فكيف يمكن للعبادة أن تولّد الإرادة ، و لنربط بين المقدمة و النتيجة ، العلاقة بين المسؤوليات الجسام و الوظائف الرسالية الكبرى و اصلاح الأمة و بين العبادة ، من كان قادرًا على أن ينجح في مضمار العبادة لهو ناجح في مضمار الرسالة ، العبادة تحتاج الى ترويض النفس ، من نجح في ترويض نفسه كان قادرًا على الإرادة ، كان ( ص ) يقوم الليل حتى تورّمت قدماه ، يمكن صنع الإرادة من عدة أمور ، أن العبادة قائمة على أساس مخالفة الهوى ، و من كان قادرًا على مُخالفة هواه ، فإنه يملك إرادة ، هذا الهوى الذي يضعف الكثيرون بين يديه ، في قبال ذلك الذين يخالفون أهوائهم هم أقوى ارادة ، " كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " ، كلنا يعيش صراع ، و يبدأ من مرحلة التكليف و ينتهي عند الموت ، الإمام علي عليه السلام " سياسة النفس أفضل السياستين " السياسة بمعنى اتقان الإدارة ، مخطئٌ من يظن بأنه يريد أن يقضي على الشهوة ، فلولا الشهوة لما أكلت وشربت ، ولولا الشهوة لما أنجبت الأولاد و الذرية و النسل ، و لا تستطيع أن تقضي على الغضب ، القوة الغضبية سرّ الجهاد ، والجهاد في سبيل الله و التنكيل في أعداء الله لا يأتي الا بالغضب ، الإنسان يجب أن يغضب عندما يتعرض له في دينه أو في عرضه ، هذا غضب ممدوح و ليس غضب مذموم ، ليس الغرضُ هو الغاء الغضب فإن وجوده خلافُ حِكمة الله و خلل في الصُنع ، ما أودع الله القوة الغضبية و الشهوية الا لضرورة وجودها ، الحق أن تجعل القوة العاقلة هي الحاكمة و المهيمنة . العبادة مضمار لمكافحة الشهوة ، شهوة النوم و الرغبات النفسانية التي تدفع الإنسان للسقوط و التهاوي ، فلا يصل الى المراتب العالية الا بمخالفة الهوى . " لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ "

الأمر الثاني من أسباب توليد العبادة للإرادة ، الإرادة من لوازمها معرفة المعبود ، هناك ثلاث ركائز للعبادة ، معبود و عابد و عبادة من حج و زكاة وصيام ، فاذا عرف العبدُ المعبود ( الله ) بصفات جلاله و صفات كماله وصفات جماله ، وتجلّت عظمة الله في سلطانه بين يديّ العبد ، فان العبد يستند الى قوة لا مثيل لها ، فيصير الإنسان قوي بقوة ربه و عزيز بعزة ربه ، فيكون مثل الله ، يعطيه من عظمته عظمة ، بشرط أن تعرف المعبود ، اذا عرفت الله أيقنت بأن الحاكم و المؤثر في الوجود هو الله ، من لوازم معرفة الله التسليم بالتوحيد الأفعالي ، أي أن تصل الى مستوى القطع و الجزم أن لا فاعل في الكون الا الله ، و كل فاعل يفعل باذن الله ، التوحيد أربعة ، توحيد الذات و الصفات و العبادة و الأفعال ، لا شك في أن ارادتك تقوى ، لا تخشى الشدائد ، " قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ " المتصرّف هو الله ، و لن يُصيبك الا ما قدّره لك ربك ، هذا السر الذي مشى عليه الأنبياء ، فقد عجر النمرود من حرق ابراهيم و لم يكن ابراهيم مضطربًا أبدًا ، علمه بحاله أغنى من سؤاله الى العبد ، يخرج موسى بقومه فيصل الى حافة البحر و العدو من خلفه ، في نظر الجهلة و ضعاف الإيمان قالوا أنه ضيعهم موسى و قد غرّ بهم و لكن موسى كان في غاية الإطمئنان و السكينة ، لعلمه بان مدبّر الامور ومدير الوجود و رب الوجود هو الله .

نؤمن عقائديًا بأن لله وظيفتان مهمتان ، الوظيفة الأولى إيجاد الخلق من حيز العدم الى الوجود ، و الوظيفة الثانية هي ادارة الوجود الى ما لا نهائية ، وهذه اشارة الى أن الإلحاد الربوبي - الذي يُبتلى به البعض في هذه الأيام بسبب الوهن العقائدي و الفكري - نوعان ، ربوبي وهؤلاء ملحدون لا على مستوى الذات ، يؤمنون بأن هناك علة فاعلة أخرجت الكون من حيز العدم الى حيز الوجود ولكن هذه العلة ليس لها ربوبية على الكون ، ولا يؤمنون بالأنبياء و الرسل و لا الكتب السماوية فأنكروا الرسالات . نحن نؤمن بأن الله هو المدبر و الخالق فلهاذا الإرادة تكون صُلبة عند الإنسان ، آخر العناصر الأساسية ان بالعبادة تقوي النفس ، تمر النفس بمرحلة من القوة و بمرحلة من الوهن ، اذا اتصل العبد بالله كان قويًا بقوة الله ، الإتصال بالله هو مكمن القوة عند العلماء الربانيين .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع