شارك هذا الموضوع

الصفا ليلة الثاني من شهر رمضان لعام 1440 هــ

أكمل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة مجالسه الرمضانية وذلك لليلة الثانية من شهر رمضان لعام 1440 هـ ، و تحت عنوان " معوقات العروج الروحي " ابتدأ سماحته بحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام " ما تقرّب متقرّب بمثل عبادة الله " ، المتدبّر لآيات القرآن الكريم يجد الآيات و بكل وضوح واضحة الدلالة في بيان فلسفة خلق الإنسان ، الله عز وجل في خلق الإنسان ، تنحصر غايته في أمرين ، الأول أن يكون خلق الإنسان من دون هدف ومن دون غاية و ارادة جادة من الله عز وجل ، فيلزم من ذلك نسبة العبثية لله وهو باطل ؛ لأن الله صرح في كتابه ، من سورة المؤمنون " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ " . العبثية لازمُها صدور الفعل من الإنسان من دون غاية أمّا المولى التي اجتمعت فيه القدرة و العلم و الحكمة وهي من الصفات الذاتية لله عز وجل ، فيستحيل أن يصدر من ربنا عز وجل فعلٌ عبثي ، اذن تنحصر الحالة الثانية أن الله خلق الخلق لغاية ، من سورة الذاريات " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " و افترض عليهم طاعته و أمرهم بالإخلاص في عبادته عز وجل ، من سورة البينة " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " وتكون العبادة مجردة من الإنية و الغيرية كما ذكرنا في الليلة السابقة ، هنا تكمن قمة الإخلاص ، العبادة أفضل سلالم الرقي الى الله ، فالحديث الذي تصدر المجلس ، نجد فيه أن الإنسان يتأرجح بين البعد و القرب ، أما الذات الالهية قريبة دائما من العباد - مطلق العباد - العابد و الجاهل ، على حدٍّ سواء ، الإنسان بذنوبه هو الذي يبتعد ، من شدة قرب الله فانه يحول بين المرء و قلبه .

أفضل الوسائل المقربة لله هي العبادة ، العبادة أمرٌ توقيفي ، لا يجوز للإنسان أن يخترع من ذاته طقوس و عبادات ، يجعلها السبيل للقرب من الله ، نسلم فقهًا و عبادةً بأن الفقه أمر توقيفي ، العبادة هي سلم القربى اليه و الطريق الذي يعرج به العبد ، العبادة بعنوانها الكلي ، يندرج منه عدة مصاديق ، الصوم والزكاة و الحج ، و أقربها الصلاة وتتكون من أجزاء ، تشهدٌ و تسليمٌ و ركوعٌ و سجود ، و أقرب جزء هو السجود ، يكون العبد أقرب الى الله في حالة السجود ، السجدة اليونسية من أقرب السجدات الى الله ، حينما كان في بطن الحوت من سورة الأنبياء " وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ " ضُمّ هذا الذكر الى سجودِك ، فيه تحليق روحي لا يعرفه الا الله ، متى ما اشتدت بك شدة و عرضت لك حاجة ، القرآن الكريم في الآية التي فُرضت فيها السجود ، الآية التاسعة عشر من سورة العلق " كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ " هذا الشق واضح الدلالة ، لم يستعمل الله حرف ثم لدلالته على التراخي ، استعمال الواو يعني مجرد السجود ، تمتد له يد الله فتختطف الى ملكوت القُرب ، الصلاة معراج المؤمن ، العروج ليس زمانيًا و لا مكانيًا ، التقرب الى الله ليس تقرب مكاني ، القرب و البعد المكاني و الزماني مؤشر الجسمية ولا يجوز ذلك في ذات الله ، المقصود هو القرب الرتبي و المقامي .

عروجنا لله يعترضه موانعٌ و عوارض تحول بين الإنسان و بين اقترابه من ربه ، أولها انعدام المعرفة بالله عز وجل ، و ابتلاء الإنسان بالشكوك و الظنون ، لا شك أن الأمور العبادة لبّها و عصبها و روحها هو النية ، و النية قوامها التقرب لله ، من لم يعرف الله ، أنّى له التقرّب اليه ؟ ، من يصلّي بروح متزلزلة و جاهل بالله و لا يعرفه ، لا تستقيم منه العبادة و هذا أمرٌ مهم ، من الأبحاث العقدية الفقهية دار فيها مضمار علمي ، هل أن غير المسلم مُخاطب بالفروع او ليس مخاطبًا ؟ يُجمع العلماء بأن غير المسلم مخاطب بالأصول ، العدل و الإمامة و التوحيد ، فهو مسؤول عنها ، بينما انقسم العلماء في الفروع الى قسمين ، قسم يقول بان غير المسلم مخاطب بالفروع ، و قسم يرى بأن غير المسلم غير مخاطب بالفروع لجهله بالأصول . الجهل بالمعبود و ابتلاء الناس بالشكوك هي من العوارض المهمة ، عنه عليه السلام " نوم على يقين خير من عبادة في شك " من المهم أن نؤسس في مقام العبادة الحقيقية ان نعرف الله و نعرف أولياءه .

الأمر الثاني الذي يكون سببًا من أسباب القطع الروحي هو انعدام الكمال العبادي ، العبادة توصف بوصفين ، عبادة صحيحة ، و عبادة كاملة ، اذا اجتمعت في العبادة شرائط الصحة التي ذكرها الفقهاء في الرسائل العملية يُطلق عليها عبادة صحيحة ، اما اذا اجتمعت فيها الآداب التي نُصّ عليها ، الآداب الداخلية و الخارجية ، القلبية و القالبية عبادة كاملة ، الصلاة بلا حضور قلب صحيحة لكنها لا تحقق العروج ، فقط تُبرّا ذمة العبد ، و لا تكون سببًا لتغيير مقامه عند الله ، فان ذاك مشروط بحضور القلب ، و كذلك صلاة المؤمن في البيت ، حيث لا صلاة لجار المسجد ، النهي هنا ليس نهي تحريم ، انما لا صلاة ( كاملة ) ، وعروجها يكون ضعيفُا ، وآثارها قليلة و أجرها قليل ، اشتمال الصلاة على المكروهات تذهب بوجه جمالتها ، و تكون ضعيفة في حركتها نحو الله ، كالصلاة و على الثياب صورة ذوات الأرواح أينما كان ، و الصلاة و بين يديدك رجلٌ يقابلك ، و الصلاة وفي الغرفة دمًى و ألعبا لذوات الأرواح ، و الصلاة أمام مرآة عاكسة و الصلاة أمام بابٍ يُفتح ، و غيرها من المكروهات .

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا أَحْسَنَ الرَّجُلُ الصَّلاةَ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا ، قَالَتِ الصَّلاةُ : حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي ، فَتُرْفَعُ ، وَإِذَا أَسَاءَ الصَّلاةَ فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا ، قَالَتِ الصَّلاةُ : ضَيَّعَكَ اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي ، فَتُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلَقُ ، فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُهُ " . نحن نريد بأن تكون الصلاة معراجًا ، علينا ان نجرد عبادتنا من المحرمات ، حيث من الممكن أن يجتمع المحرّم و الواجب ، كنظر الريبة أثناء الصلاة ، و السرقة أثناء الصلاة ، فالصلاة صحيحة و لكنها تذهب بوجه الصلاة و يؤثم على فعله . من الموانع أن نتعبّد من دون تفقه ، وهي أخطر ما تبتلى به الأمم ، من لا يملك وعيًا فقهيًا يبتلى بالبدع و الترهات و يُدخل في الدين ما لا فيه ، عبادة بلا تفقه لا تغير مقام العبد ، قال أمير المؤمنين (ع): " المتعبد على غير فقه كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح، وركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل لان العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه، وتأتي الجاهل فتنسفه نسفا، وقليل العمل مع كثير العلم خير من كثير العمل مع قليل العلم والشك والشبهة " ، الفقهاء الأجلاء اشترطوا التقليد في قبول العبادة ، اما ان تكون مجتهدًا أو مُحتاطًا أو مقلِّد . من عمل بدون تقليد فعبادته بحكم الباطل . كلما أردنا أن نقترب من الله ، فعلينا بالمعرفة .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع