شارك هذا الموضوع

الصفا ليلة الحادي من شهر رمضان لعام 1440 هـ

تابع سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس و ذلك في ليلة الحادي من شهر رمضان المبارك لعام 1440 هـ ، وتحت عنوان " من أسرار الصيام - الجزء الثاني - " ، استهل سماحته بحديث لامير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام " نومُ الصائمِ عبادة، وصمتُه تسبيح، ودعاؤه مُستجاب، وعملُهُ مُضاعف، إن للصائم عند إفطاره دعوةً لا تُرد" ، الحديث حول الصيام و بركاته ، من أراد أن يتبع أجر الصائمين و ما ادخره الله من أجر جسيم فان النصوص و الروايات لا عدّ لها ، التي تحدثت عن آثار الصيام ، ويكفينا في تبيان عظمة ثوابه ما ورد عنه ( ص ) عن الله : " الصوم لي ، و أنا أجزي به " ، كثيرٌ من العبادات ذُكر أجرها و ثوابها ، الا الصيام ، فان المتكفل بأجره و تحديد مقداره هو الله تبارك وتعالى ، ان دلّ ذلك على شيء ، فانه يدل على عظمة العبادة ، في منطلق صيامنا لله عز وجل وتدبرنا لمقولته عليه السلام ، نقف اكبارًا وتعظيمًا واجلالًا لله عز وجل على ما منّه من هبات و ألطاف ، أراد أن ينتشل عباده من مستنقع الوحل و المعاصي و قيود معصيته ليرتقي بهم الى سلالم قربه بهبات و عطايا مجانية ، يتفضّل بها عليه .

الله جعل لك الخيار في سائر الأوقات الا في شهر رمضان ، متى ما نمت فأجرك أجر المتعبد دون غيره من الشهور ، لأن الله يُريد منك أن تكون من المستثمرين في هذا الزمن المقدّس حين يقظتك ، اذا صمت العبد ، كتبت الملائكة له بأنه يسبح ، هذا النفس يُعادل قولك سبحان الله و الحمد لله و لا اله الا الله ، الدعاء يُقبل او لا يُقبل ، و لكن تحت هذا الظرف الزماني ، فهي مُستجابة ، يُستثنى منه الدعاء بمعصية الله او بسوء للمسلمين ، اذن اغتنم هذه الدعوة و هذا الظرف الزمني الخاص ، عندما تضع أول لقمة في جوفك ، ادع الله ، وهذا يعني انك لست من الغافلين و لا شك بأن الله لا يردّ دعوتك ، ان العطايا في هذا الشهر لا تُعدّ و لا تُحصى ، ألبسنا الله ثوب التكريم و افاض علينا من عطاءه ، الحضور في صلوات الجماعة ، هذه السلوكيات انما تدل على استجابة الدعوة فهنيئًا لمن لبّى ، بالأمس تحدثنا عن علة تشريع الصيام ، و ذكرنا أن الله الذي اجتمعت فيه صفات الذات وهي العلم و الحياة و القدرة و الحكمة ، لا يصدرُ منه تشريعٌ الا ومن وراءه علة او حكمة ، اراد الله ايصالها الى عباده ، ونحن بصدد اكمال البحث حول علل تشريع الصيام أو ما هي الحكمة التي يُمكن أن يستلهمها المؤمن من هذه العبادة .

التتبع لنصوص أهل البيت ، نجد فيها آثارًا عظيمة لهذا الصيام ، اولها كبح جماح الشيطان ، وهو أثرٌ معنوي خطيرٌ ومهم ، حيث أن الإنسان في حرب ضروس تبدأ من لحظة تكليفه و لا تضع أوزارها حتى يأخذ الله أمانته ، هذه الحرب بينك - أيها المؤمن - و بين الشيطان ، عداوة ضاربة منذ عمق التاريخ ، تحدّث القرآن عنها و حذر منها الله ، بين مخلوق تمرّد على حكم الله وكنّ في نفسه عداوة لمخلوق الله المفضّل و هو آدم عليه السلام حيث جعله الله خليفة و استخلف الله الإنسان في أرضه ، وقد خلق الله الشيطان قبل آدم بستة آلاف عام ، لما خلق الله آدم من أديم الأرض أي بطن الأرض ، و بعد التحولات في تكوينه حتى صار من صلصال ، و الصلصال هو الصوت الصادر منه الصلصلة ، وهو الصوت الصادر من الطين اليابس ، وابليس كان موجودًا ، يدخل من فمه و يخرج من دبره ، و يدخل من منخريه و يخرج من اذنيه ، ابليس من نار ووجوده لطيف حيث كان يرفس آدم برجله - قبل أن ينفخ الله فيه الروح - ، وهو يقول و الله لإن وُلّيت عليكَ لأُشقيك ، و ان وُلّيتَ عليًّ لأَعصيك ، و بدأت العداوة في ابليس و ذريته ، وجاء التحذير الالهي ، هذه الحرب التي يشنها الشيطان من اجل ايقاع عباده ، و يقوى الإنسان في هذه الحرب في شهر رمضان و يضعف كيد الشيطان ، قال ( ص ) : " الشياطين فيه مغلولة " والشياطين شياطين الإنس و الجن " كل انسان فيه جانب من الشيطنة تكمن في ذاته بالقوة ، اذا ما انفتح الإنسان على أسباب الشيطنة ، صار شيطانًا بالفعل ، و الشيطان هو من يصدر منه الشر ، ان تحول صفة الشر عنده ملكة ، يُسمّى شيطانًا ، و أمثال ذلك في الإنس و الشرّ كُثر .

على الإنسان ان يعلم بان ذلك الشيطان ضعيف و هذه فرصة ليتقوى المؤمن و أن يأخذ الجرعات لدحر الشيطان ، عنه ( ص ) " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات و الأرض " ، من سورة الحج " كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ " على الإنسان المؤمن أن يستعين بالله و أن يستعيذ ، من سورة الأعراف " وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ " مريم عندما وجدت سببًا مُخيفًا قد يؤدي بها للوقوع في الخطر ، من سورة مريم " قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) " الرجوع الى الله ، عندما تنفتح أبواب الشياطين ، فلنعترف بأننا ضعاف ، الشياطين يدفعون و يأزّون بالإنسان نحو المعصية ، من سورة يوسف " وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ " معاذ الله ، أي ألوذ بالله ، و ألجأ اليه ، عندما يدفعك شيء للنظر الحرام او السمع الحرام او اسقاط أحد من المؤمنين فاستعذ بالله ، الإستعاذة من سنخ الفعل وليس فقط القول ، الفرار فرار الشجعان و ليس الجبناء ، الجبان مقدامٌ في معصية الله لكنه فرار عند طاعة الله بينما التّقي خويف في معصية الله من سورة الرحمن " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ " ، عليك أن نصاحب في شهر رمضان من يعينك على الطاعة ، اترك مجالس البطالين و ابحث عن مجالس الذكر و العبادة ، حيث مجالس البطالين يُطرد الإنسان فيها من ساحة رحمة الله و يُحرم

" إلهي مالي كلما قلت : قد تهيأت وتعبأت وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك ، ألقيت علي نعاسا إذا أنا صليت ، وسلبتني مناجاتك إذا انا ناجيتك " .. " أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني ، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني ، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني " ، هذا احد الآثار فمجالس الشيطان أحد تلك الأسباب ، ان الشياطين في هذا الشهر مغللة ، فيجب أن نسأل الله أن لا يطلقها علينا ، هناك قابلية لا شك اذا ما استدعاها العبد ، الأثر الثاني هو التوقد و النشاط العبادي ، الصائم ينشط عباديًا ، مآتمنا و مساجدنا تكون عامرة بالمؤمنين ، أن تحضر منابر العلم و مجلس الحسين من أعظم ما يتقرّب به الإنسان ، كيف أن البيوت تصدح بقراءة القرآن ، تسكن فورة الشيطان من نفوسنا فنترفع عن المعاصي و يكون عالمنا نقاءً ، نحن في ضيافة الله ، قد نتمرّد بعد هذا الشهر ، ولكن هذا الشهر هو من نتقوى به ، فهو رأس السنة السلوكية و الروحية عند أولياء الله ، بدء سنة الترويض ، فيأخذ من العبادة في هذا الشهر ما يعينه طوال أيامه من قوة إيمانية و ثبات في الموقف و جرأة على الشيطان ، النشاط العبادي يتوقّد ، و من بركات الصوم أنه يبعث في النفس طاقة ، هذا الجوع ليس مُستهانًا ، الجوع له آثار و الشبع له آثار ، من سورة النساء " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا " ومن أكثر الأكل أكثر النوم و من أكثر النوم أقل الصلاة ، و من أقل الصلاة كُتب من الغافلين

الذاكرون لا تلهيهم التجارة ، من سورة النور " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ " ، و من سورة الجمعة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " ليست قضية خيال ، بل قضية واقعية ، عندما كان النبي يخطب ، و بدأ الناس ينسحبون من المصلى حين قرع التجار الطبول معلنين وصول البضاعة ، هناك صنف هو في السوق قلبه مع الله و قلبه محراب ، و هناك صنف من الناس هو في الصلاة و قلبه في السوق ، العكس بالعكس ، ينبغي الإبتفات بأن قلة الأكل باعثة على النشاط العبادي ، واعطاء الإنسان دافعًا و حيوية ، عن علي عليه السلام " كثرة الطعام تميت القلب " المعيار يدور مدار اقبال العبد بقلبه ، وهذا ابتلاء وعلاجه جميل لكننا نكسل عنه ، كثير من الناس يُبتلى بالتخيل في صلاته و أجر الصلاة على قدر حضور القلب ، يقرأ و يذكر و يسجد لكن قلبه يحلّق من مكان لمكان ، النتيجة يُعطى رتبة صحة الصلاة ولا يُعطى رتبة قبول الصلاة ، هناك معالجة جميلة ، ان تصلي صلاة جماعة خصوصا لمن يُبتلى بطائر الخيال ، " من صلى جماعةً و كان فيهم رجلٌ واحد قد حضر قلبه ، قُبلت صلاة الجميع " . الصيام امتناع عن الطعام و الشراب به دافع عبادي ، المنطوق : " كثرة الطعام تميت القلب " و المفهوم قلة الأكل تحيي القلب و هذا ما أراده الله .

الأثر الثالث من آثار الصوم هو تحقيق الطهارة الداخلية ، النور الباطني و النقاء الداخلي ، يتحقق ببركات الصوم ، لاسيما عندما نتأمل في رواية المصطفى عندما سأله اليهود عن علة الصيام ثلاثين يومًا ، فأجابهم بأنه بقي أثر الطعام في آدم ثلاثين يومًا لمّا أكل من الشجرة التفاحة ، فأمره الله بالصيام ، و كذلك في الحيوانات ، يختلف بعضها عن بعض في حليته بعد أكله المُحرّم - فقهياً - ، و كذلك شارب الخمر، فان الصلاة لا تقبل منه ، وتجب عليه الصلاة لكنه يُحرم من الثواب و الأجر أربعين يومًا ، بعد ذلك يعطى الأجر و الثواب . النقاء الداخلي ، و الأكل الحرام و الحلا لهما أثرهما عنه ( ص ) " العبادة مع أكل الحرام كالبناء على الرمل " ، ليس لها بقاء ، العبادة الصحيحة و الرصينة هي التي تكون بالأكل المحلل ، فلا تكون صلاته معراجًا لله . حتى طبيعة التفكير و معالجة القضايا و البحث العلمي و رقة القلب ، كلها مرتبطة بقلة الأكل . عنه ( ص ) " من قل طعمه صح بطنه وصفا قلبه ومن كثر طعمه سقم بطنه وقسا قلبه " ، و قلة الطعام لها مدخلية حتى على نور المعرفة ، يقول ( ص ) " لا تشبعوا فينطفئ نور المعرفة من قلوبكم " ، و من اجمل ما رُوي عن علي عليه السلام " لا تجتمع الحكمة مع البطنة " . يريد الله للمؤمن أن يكون له وهج على مستوى الفكر الروح و القلب و العبادة ، الأثر الأخير هو ابراز سلطان الله على عباده ، و اظهار حاكمية الله . من مقام العبودية الحقيقة : العبد وما يملك لله ، نحن لا نملك ملكية حقيقية ، ولهذا لبيان سلطان الله على عباده ، يمنعنا متى يشاء و يأذن لنا متى ما شاء ، متى ما دخلت في ضيافة الله عز وجل حرّم عليك كثير من الأمور لبيان حاكميته . كل ما لديك ليس بفضلك ، أنت تأتي بالمقدمات ليس الا ، و انما المفيض والمُعطي هو الله . " آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ " .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع