ابتدأت مجالس شهر الله في هذه الليلة ، و بعد اعلان المجلس العلمائي بعدم ثبوت هلال شهر رمضان و اتمام عدة شهر شعبان هذه الليلة ، سيكون سماحة الشيخ ابراهيم الصفا في ضيافة حسينية الحاج أحمد بن خميس في النصف الأول لشهر رمضان عام 1440 هـ ، وتحت عنوان " من أسرار الصيام " ابتدأ سماحته بالآية 183 من سورة البقرة : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " ، المتدبر لأحكام الشريعة السمحاء ، ان كل حكم الهي صادر من عند الله عز وجل ، لا ريب ان من وراءه مصلحة و ملاكة ، هذا الكلام العلمي الذي تتوافق عليه أقوال الفقهاء و العلماء ، بأن الله وانطلاقًا من علمه وحكمته و قدرته ، أبان الأحكام لعباده ، لا شك أن التشريع الصادر من الحكيم من وراءه علة ، انساق بحث واسع حول علل التشريع و الأحكام ، حتى ألّف الشيخ الصدوق كتاب علل الشرائع ، حيث ما ترك تشريعًا الهيا الا وفتش عن علته من أقوال المعصومين ، و الحديث حول علة الحكم على المستوى الفقهي من أهم الأبحاث ، حيث متى ما علمنا علة الحكم ، فان العلة توسّع من جهة و تضيّق من أخرى ، من خلال طريقين ، الإستقراء و القياس ، هناك فرق بين علة الحكم و الحكمة من الحكم و التشريع ، الحكمة شيء و العلة شيء آخر ، على اعتبار ان العلة هي السبب في وجود الحكم و أن الحكم يدور مدار وجود علته فلو انعدمت العلة انعدم الحكم تماما ، بينما الحكمة فأنه بعد وجود العلة و الحكم ، تبدأ وجود الحكمة من وراء ذلك .
اتفق الفقهاء ان علل الأحكام ليست بأيدينا ، فلمّا حرّم الله و حلل ذاك ، القدر المتيقن بأن الله لا يوجب أو يحرم شيئًا الا لمصلحة او مفسدة ، فان أبانها ظفرنا بها و الا لم نظفر، البحث في علل التشريع جاء انطلاقا من شغف الناس لمعرفتهم علل الأحكام، و قد أولد ثلاث طوائف ، الطائفة الأولى حكّموا العقل مع التعاطي مع الأحكام ، عندئذ توقفوا عند الكثير من الأحكام و تكابروا و تطاولوا عليها واتهموها بانها تخاريف و أباطيل لا يقبلها العقل ، فالعقل هو معيار التحسين و التقبيح وهذا مردود عليه ، قول الإمام الصادق عليه السلام : لو كان دين الله يدرك بالعقول لكان مسح باطن الرجل أولى من ظاهرها ، العقل لا يمكن ان يدرك فلسفة التشريع ، بل مجرد مساحة ضيقة ، أقصى ما يمكن العقل ادراكه بأن الإنسان لابد ان يعاقب او يُحاسب و أنه عبد لابد أن يُطيع ، العقل يؤمن بوجود جزاء و لكن لا يعلم ما هو .
الطائفة الثانية هم أهل التسليم ، " إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " [الأحزاب:56]، و التسليم لا المصافحة ، بل هو مطلق الإنقياد القلبي و الروحي لأوامر المعصوم ، أن تجعل زمام أمرك بيد نبيك و تسلم بكل ما يأتي به ، ما فرضه الله علينا أن نأخذه ونعمل به ، بشرط واحد ان يكون قد ثبت برتبة سابقة و انه صادر من المعصوم ، ونعمل به حتى لو لم نعلم علته وفلسفته ، الطائفة الثالثة سلموا لأمر الله و انقادوا للتشريع و لكنهم اخذوا يُنقبّون عن ملاكات الأحكام وهي المصالح و المفاسد التي تتبع الحكم ، وكل حكم واجب من وراءه مصلحة و كل حكم حرام من وراءه مفسدة - علمنا به أو لا - ، من ضمن ما تم بحثه هو الصيام ، و في تشريع الصيام ونحن مقبلون على هذا التشريع عظيم ، لو جعلنا الصوم على طاولة البحث العلمي لنفتش عن علل الاحكام و عن الحكمة منه ، ما هي قيمة البحث على هذا المستوى ؟ تحديد الهدف ، وكلما حددت الهدف ، حددت الأدوات الموصلة للهدف ، فلو وجدت المسيرة تبعدك عن هدفك لابد من مراجعة المسير ، عند نهاية الصوم قم بقياس صومك ، ان وصلت فصومك مقبول والا فان في الصيام خلل ، ولابد من مراجعته .
في مقام معالجة النصوص و الروايات ، اول العلل هو تحقيق مفهوم الإنقطاع و هو من أولويات القواعد الأساسية لكل السالكين لله سبحانه وتعالى ، لا عروج ، و لا تقرب من مقامات القرب الإلهي و لا تذوق لحلاوة العبادة الا بالإنقطاع ، فهو ضروري و الصيام يعززه ، الإمام علي عليه السلام في المناجات الشعبانيّة ما يلي : " اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ " ، انقطاع أولي ينتهي الى ارتباط ثانوي مع الله ، الإنقطاع على نحوين ، جوارحي و جوانحي ، من أراد ان يصل الى مراتب القرب من الله ، يحتاج أن ينقطع الى الله على مستوى الجوارح و الجوانح ، يعني على مستوى البعد الملكوتي و على مستوى البعد الملكي ، على مستوى الأبدان التي تتعلق بالطعام و الشراب و النساء ، او القلوب و ما تطمع فيه من سمعة وشهرة وما الى ذالك ، الصيام من أهم العبادات التي تحقق الإنقطاع ، أن تعرض عن الطعام و الشرابات و المفطرات المباحة وتترفع عنها مع حاجتك اليها ، يعني ان تتصف بصفة الصمدانية " قل هو الله أحد ، الله الصمد " الصمد الذي لا جوف له و لا يأكل و لا يشرب وهو غني وليس فقير ، الصمد غني ، من سورة فاطر " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ، إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ " .
" تخلّقوا بأخلاق الله ، إنّ لله تسعة وتسعين اسماً ، فمن أحصاها دخل الجنة " ، يجب أن نُرشد تعاطينا مع موسم الإنقطاع ، ان نأكل ما يحفظ قوامنا و الشيء البسيط ، وكل ما شئت في غير شهر رمضان ، المسالة قُلبت اليوم ، فعوضًا من أن يكون البعض منا متحررًا صار ثقيلًا في معدته و ارتباطه و بتلك الماديات و بذل الكثير من المال ، الصيام رياضة روحية تنتهي بكسر قيود المادة ، فهل نحقق ذلك ام لا ؟ ، ان اردت الإنقطاع و تنال أعلى المراتب و الدرجات ، لابد ان ينقطع بدنك في هذا الموسم الرمضاني عن اللذائذ المُقيّدة ، ولذلك البعض يكون أسيرًا ، فالمدخن تراه مغلوبًا على أمره ، وليس منقادًا ، من سورة آل عمران " لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ " من أجل كبح جماح النفس يجب أن تمشي في فترة من الزمن على خلافها ، وهذا يعطي الإنسان القوة ، كما في صلاة الليل ، فهي على النبي واجبة بينما علينا مستحبة " من سورة المزمل " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا "
شهر رمضان فلسفته معاكسة النفس في ما تحب و ترغب ، فزوجتك محرمة عليك في النهار و ثلاجتك محروم منها ، انت لا تراقب الا الله ، علينا ان نقيس أنفسنا ، ما مساحة تعلقنا بذلك ؟ كُل ونوع من أطباقك ولكن بلا سرف ، الفلسفة الثانية هي تعميق معاني الإخلاص ، الله تعالى فرض علينا عبادات ، و النية و الإخلاص عصبُ العبادة ، العبادة من دون اخلاص لا قيمة لها ، اذا اردنا أن نحقق العبادة الخالصة لله ، لابد أن تتحقق في التجرّد من الإنية أي أن يتجرد عملك من الانا فيسلم من العُجب ، و أن تتجرد من الغيرية فيسلم العمل من الرياء . جاء في خطبة السيِّدة فاطمة الزّهراء(ع) الفدكية : "فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشِّرك، والصّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنّفس، ونماءً في الرّزق، والصّيام تثبيتاً للإخلاص، والحجّ تشييداً للدّين". العبادت اما وجودية واما عدمية ، الوجودي هو ما يبتلى بالذمائم الأخرى ، فالصلاة وجودية ، لها صور تميزها كالوضوء و الركوع و السجود و التشهد ، و الصوم عبادة عدمية . قس نفسك في كل يوم ، هل تحركت نحو الإخلاص ؟ هل اقتربنا منه تعالى ؟ أم نشطنا مع الناس و ضعفنا مع ربنا .
للصيام علل كثيرة نتركها حيث لا يسعنا المجال لذكرها كلها في هذا المجلس ، و لكن آخرها و أهمها أن الصيام يمثل تمهيدًا لظهور عجل الله فرجه ، قلّما يُلتفت للعلاقة الروحية الرابطة بين الصوم من جانب ، و التمهيد لظهوره من جانبٍ آخر ، هناك العديد من النصوص بأن هذا الصيام بآدابه ينسجم مع روح التمهيد و فلسفة الإنتظار حيث اما ان يكون الإنتظار سلبيًا أو إيجابيًا . شهر رمضان يمثل رياضة روحية راقية تصب في مصب الإنتظار الإيجابي ، وقال (ع) حيث يروي الرواية العلامة الصدوق "إنّ الصيام ليس عن الطعام والشراب وحدهما، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغُضّوا أبصاركم عمّا حرّم الله، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تشاتموا، ولا تظلموا، واجتنبوا قول الزور والكذب والخصومة، وظن السوء، والغيبة، والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة، منتظرين لأيامكم - ظهور القائم من آل محمد - ، منتظرين لما وعدكم الله متزودين للقاء الله، وعليكم السكينة، والوقار، والخضوع، والخنوع، وذل العبيد الخيف من مولاها خائفين راجين ". والشيخ الصدوق يقصد بـ - ظهور القائم من آل محمد - اما أنه يوضح بأنه ظهور القائم ، او انه مخاطبًا عن لسان الإمام عليه السلام ، اجعل من صومك يصب في اعداد نفسك وجوهرك وقلبك لأحد جنوده ، الصوم و ما به شهر الله من قراءة القرآن و صلاة الجماعة وحضور مجالس الذكر و غيرها ، كلها تصقل الروح و تعد النفس لان تكون جنديًا من جنوده عليه السلام .
التعليقات (0)