شارك هذا الموضوع

العلاقات الواقعية الهادئة توفر الأمن والإستقرار في المنطقة - الشراكة الإيرانية الهندية مثالاً

تمتد العلاقات الإيرانية الهندية إلى أزمنة سحيقة قد تعود إلى دولة الإخمينيين وحتى القرن الرابع قبل الميلاد، عندما قام الاسكندر المقدوني (356- 323 ق م) بأول محاولة لإقامة دولة واحدة تشمل أقاليم من أوروبا وأسيا وأفريقيا، وتمتد من مقدونيا إلى الهند، وتأسيس عدد كبير من المدن الجديدة التي عرفت باسم " الإسكندريات "  بعضها في بلخ  وصغديانا ، وفي أسفل القوقاز، وفي مصر .


 كما أن تلك العلاقات بقيت مُتَجَسِّرَة إبّان الدولة الساسانية وأيام الفتح الإسلامي وعهد المغول والدولة الصفوية ثم القاجارية، مستقوية بما يتواشج به البلدان من عمق ديني وثقافي واجتماعي يُجدد نفسه كل حين رغم أن تلك العلاقات توترت كثيراً وفي فترات متعددة من عهد الأسرة البهلوية التي حَكَمَت إيران في الفترة 1925 – 1979 بسبب سياسات الشاه محمد رضا بهلوي المساندة لباكستان في صراعها الحدودي مع الهند حول منطقتي جامو وكشمير وذلك لأغراض سياسية واستخباراتية بحتة بعيدة عن دوافع إسلامية أو دينية مرسومة ضمن إطار الكيان السياسي للدول الإسلامية ومشروعها الإقليمي والعالمي .


وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 شهدت العلاقات بين نيودلهي وطهران مرحلة جديدة من التفاهم والدفء رغم أحداث حرب الخليج الأولى التي حزّبت الدول والأحلاف (على الأقل في المحيط الإقليمي) ثم توطدت أكثر بعد زيارة رئيس الوزراء الهندي الأسبق ناراسيما راو لإيران في العام 1993 ( وهي أول زيارة لرئيس وزراء هندي منذ انتصار الثورة ) ثم زيارة الشيخ هاشمي رفسنجاني الرئيس الإيراني الأسبق في العام 1995 وأخيراً (2003) زيارة رئيس الوزراء الهندي إيتال بيهاري فاجباي الأخيرة لطهران وغيرها من الزيارات التي كانت تتم على مستوى وزراء الخارجية والدفاع والتجارة لتعيد التأكيد من جديد على استراتيجية العلاقات بينهما، واللافت للمراقبين أن معظم تلك الزيارات كانت تحظى باهتمام متبادل من الطرفين برتوكولياً وسياسياً، كما أنها تمتاز بثقل شخوص الوفد الذي عادة ما يكون مكوّناً من أهم الوزراء في البلدين كالدفاع والخارجية والصناعة والأمن القومي ومستشاري رئاسة الدولة والوزراء .


وترغب الهند من ذلك التقارب في أن يساعدها للوصول إلى مصادر الطاقة المُتفجرة في منطقتي الخليج ( بضفتيه الشرقية والغربية ) وحوض قزوين ( أو الخزر ) لتأمين احتياجاتها الاستراتيجية من النفط الخام والمنتجات البترولية الأخرى بعد أن بدأت الشركات النفطية الأمريكية ( عقب تشكّل كومنولث الدول المستقلة GIS إثر إنهيار الإتحاد السوفيتي ) عمليات التنقيب في هذه المنطقة بعد توقيعها على اتفاقيات بمليارات الدولارات مع جمهوريات كازاخستان وتركمانستان وآذربيجان مستقويةً في ذلك بقاعدتيها العسكريتين الاستراتيجيتين في إنجرليك (تركيا) وأبو شوران ( آذربيجان ) .


وكان اختيار الهند للأراضي الإيرانية منطقة تعبر من خلالها إلى هناك باعتبار أن إيران تمتاز عن باقي الدول المتشاطئة معها في تلك المنطقة أنها تطل على الخليج بمساحة 3200 كم وبحر عُمان والجزء الشمالي الغربي من المحيط الهندي وهو امتياز يعطيها حرية الاتصال بالأسواق الدولية عبر البحار، أما الدول الأخرى فلا تستطيع الوصول إلى أسواق العالم إلاّ عن طريق سكك الحديد وخطوط الأنابيب عبر بافق – مشهد أو جابهار (المتاحة أصلاً في الأراضي الإيرانية وهي أقصرها وأكثرها أمناً وأنسبها اقتصادياً لربط منطقة قزوين بالقارة الهندية واليابان والشرق الأدنى وحتى شمال وشرق أوربا ) وهو ما أشار إليه الرئيس خاتمي بشكل مُبطّن خلال استقباله في منتصف الشهر الجاري وزير الخارجية الهندي ياشوانت سينها حول ضرورة وصل آسيا الوسطى بالمياه الدولية، بالإضافة إلى كل ذلك فإنها ( أي إيران ) تقع بين مخزوني الشكل البيضوي الإستراتيجي للطاقة القزوينية البالغ حجمها  200 مليار برميل وهو ما يُعطيها ميزة استراتيجية كُبرى .


والهند التي تستورد أكثر من 70 % من احتياجات مصافيها والتي يمكنها معالجة 3.2 مليون برميل يومياً وتأتيها ثلثي تلك الواردات من منطقة الشرق الأوسط، رأت (أيضاً) أن إيران تتمتع بطرق نقل وشحن بري وبحري وموانئ ومصافي وشبكة أنابيب نفطية وغازية أفضل من أي منطقة جغرافية أخرى في المنطقة، كما أنها في منأى عن حالات انعدام الأمن والصراعات الانفصالية .


وفي مايو 2002 تعهدت إيران بتزويد الهند بخمسة ملاين طن من الغاز السائل وهو ما سيغطي النقص الذي تعانيه في مجال الغاز، كما أن طهران ستُلبي احتياجات الهند من البتروكيماويات، وهم ما تمّ تأكيده خلال زيارة مساعد وزير النفط الإيراني والمدير العام للشركة الوطنية للصناعات البتروكيماوية محمد رضا نعمت زادة  لنيودلهي في الرابع من ديسمبر الجاري .


كما أن الهند تتجاور مع جيرانها بحدود جغرافية تصل إلى 7000 كم2 ومنهم دول إسلامية الأمر الذي يدفعها للاهتمام أكثر للحصول على غور إسلامي للنفوذ إلى تلك الدول وتأمين أي علاقات سياسية واقتصادية مستقبلية خصوصاً مع وجود تعدد إثني وديني واسع في شبه القارة الهندية وهو ما قد يُحرّك بعض الحساسيات العرقية مع تلك الدول .


كما أن الهنود أدكوا بأن الطرف الذي قد ينفع في أزمتهم الأزلية مع باكستان هو إيران، فالأخيرة وباكستان دولتان مسلمتان ولهما مصالح مشتركة وتداخل إثني وعرقي كبير فالشيعة الباكستانيون يمثلون أكثر من 20 % من السكان أي ما يُعادل 28.3 مليون نسمة، كما أن في باكستان أكثر من 12 مليون من البلوشستان وهم من أصول إيرانية ويُشكلون 8.5 % من تعداد السكان في باكستان لذا فإن الهند تُعَّول على إيران في لعب دور مهم في الصراع بينها وبين باكستان  .


يُضاف إلى كل ذلك فإن إيران تحظى بعلاقات جيدة مع الصين العدو اللدود للهند في وسط آسيا، لذا فإن التقرب من إيران قد يخدم أي صراع هندي صيني في المستقبل حول مشاريع التسيّد على القارة القديمة .


وفي جانب آخر فإن دراسات علمية حديثة أشارت إلى أن الهند تراقب عن كثب الحالة التكنولوجية والعلمية في العالم العربي وبالخصوص في المراكز النشِطة فيه كدبي مثلاً، فالدول العربية تعيش حالة من التخلف التكنولوجي والعلمي إلى أبعد الحدود رغم وجود أكثر من 100 ألف أستاذ جامعي، فكلفة البحوث والتحقيقات في العالم العربي بلغت في العام 1995 أقل من 750 مليون دولا أي ما يُعادل 0.2 في المئة من إجمالي الناتج القومي لهذه الدول بينما وصل في الهند وحدها 0.7 في المئة، لذا فإن الهند تريد أن تستحوذ على السوق الخليجية والعربية في ذلك المجال بعد أن رَصَدَت توجهاً جديداً في المنطقة العربية لاستقطاب الخدمات التكنولوجية والمعلوماتية من خلال حجم الاتفاقيات المتزايد عقدها من قِبَل تلك الدول وبعض الشركات العالمية، علماً بأن الهند أثبتت صِدْقِتها في ذلك المجال في الكثير من البلدان الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا التي اضطرت لتعديل بعض قوانين الهجرة لديها بُغية استقطاب العقول الهندية في مجال المعلومات والتكنولوجيا . والمهم من كل ذلك فإن الهند تنظر إلى إيران بأنها أفضل الطرق وأيسرها للعبور للمنطقة العربية الخليجية خصوصاً أنها تتشاطئ مع الخليج بحدود جنوبية تبلغ 3200كم ، يُساعدها على ذلك التحسن الكبير الذي طرأ على العلاقات الإيرانية – العربية والخليجية بالخصوص بعد حرب الخليج الثانية والثالثة وبوادر حسن النية التي أبدتها طهران تجاه الكثير من الملفات .


وفي المقابل تنظر إيران إلى القارة الأسيوية القديمة باعتبارها عمقاً جغرافياً واقتصادياً وسياسياً مستقبلياً يُمكن أن يحمي ظهرها وشمالها من الناحيتين العسكرية والاقتصادية،  وهو ما أكّد عليه التقرير الاستراتيجي الإيراني الأخير الداعي إلى ضرورة الاندفاع نحو القارة الأسيوية وبالخصوص نحو الدول البارزة فيها، كما رأت إيران في الهند مصدراً مهمّاَ لها في مجال التكنولوجيا العسكرية وتكنولوجيا المعلومات الكمبيوترية الرائجة لدى الهنود، وهو ما تبيّن بجلاء عندما وجه الرئيس الإيراني أثناء افتتاحه معرض طهران التجاري الدولي في أكتوبر    2001 ( والذى اشتركت فيه 1070 شركة من 63 دولة ) نداءً من أجل نقل التكنولوجيا العالمية إلى إيران متعهدا بعمل حكومته على إزالة كل العقبات السياسية من أمامها وموجها انتقاداً في الوقت نفسه للشركات الدولية لعدم مشاركتها في نقل التكنولوجيا إلى الدول النامية واصفاً ذلك بأنه تمييز في العلوم والتكنولوجيا اللذين يجب أن يوزعا بعدالة على الجميع، علماً بأن إيران تتطلع بقوة للإعتناء بالجانب التقني لتوفير فرص عمل أكثر وبالتالي الحد من البطالة وكذا تحديث عملها العسكري والإداري في أجهزتها التنفيذية .


بالإضافة إلى كل ذلك فإن الهند بالسنة لإيران سوقاً بكراً للكثير من المشاريع الاقتصادية النفطية وتوابعها، وقد بلغ الميزان التجاري بينهما العام الماضي ملياران و200 مليون دولار كما أن إيران التي تواجه نقصاً في مجال الهايدروكاربون تطمح في استيراده من الهند وهو ما تعهدت به الأخيرة خلال زيارة مساعد وزير النفط الإيراني لنيودلهي وهو ما يُنشّط التجارة الإيرانية الخارجية ويُحررها من سطوة العقوبات الأمريكية التي تُطاردها منذ زمن .


يُضاف إلى أن الجمهورية الإسلامية تريد إحياء نظرية يفجيني بريماكوف الذي أطلقها في العام 1998 عندما دعا إلى تشكيل " مثلث إستراتيجي " مكوّن من روسيا الإتحادية والصين والهند من أجل مواجهة الانفراد الأمريكي في السياسة الدولية، نظراً لما يجمع البلدان الثلاثة من روابط اقتصادية، رغم ما يواجه تلك الفكرة من صعوبات مالية وسياسية في ظل ميزانيات الدفاع الضخمة التي يرصدها البنتاغون للسياسة الدفاعية الأمريكية والتي تتجاوز الـ 400 مليار دولار كما حصل مؤخراً .


في النهاية تبقى العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وجمهورية الهند نموذجاً جيداً لعلاقات إقليمية ودولية تعتمد على المصالح المتبادلة وانتهاج سياسة واقعية في التعامل البيني، كما أن تلك العلاقات قد تكون فتحاً استراتيجياً مهمّاً يُضاف إلى رصيد القارة القديمة التي ظنّ الآخرون هناك بأنها أرض شاخت ولم تعد رقماً صعباً في معادلات اليوم .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع