اكمل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية وذلك لليلة الخامسة من شهر رمضان لعام 1439 هـ ، و تحت عنوان مصادر بناء الفكر ، ابتدأ سماحته بحديث للإمام الحسين عليه السلام " لا يكمل العقل الا باتباع الحق " القرآن الكريم تحدث في آياته حول خلق الإنسان ، وبيّن بأن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم ، و أن من أهم ما حمّله الله تعالى للإنسان هو العقل ، خلق الله الحيوان من جانب و خلق الإنسان من جانب آخر ، الا أنه شرّف الإنسان على الحيوان بنعمة العقل ، هذا الإنسان متى ما دهس عقله برجليه فخالف ما يُملي عليه عقله وضميرُه فانه يتهاوى الى اسفل الدركات . من سورة الفرقان " أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) " أسوأ حالًا من البهيمة و أسوا حالًا من السباع و الحيوانات ، الإنسان الذي لا يعطي لعقله مساحة ليقود وجوده الانساني يعد من البهائم ، عن الإمام علي متحدثا عن أهل المعصية " البدن بدن انسان و القلب قلب حيوان " تراه في قالبية الإنسان ولكن فعاله وتصرفاته و كل ما يصدر منه حيواني محض ، عندما نتحدث حول العقل لابد أن نفرق بين العقل و التعقّل ، الناس لا يتفاضلوا ولا يتفاوتوا في أصل العقل ، حيث لا يخرج الإنسان من بطن أمه الا محمّلًا بعقل ، إنما التفاوت والإختلاف بينهم بالتعقل ، هناك من يُعطّل عقله و يعمل بهواه ، وهناك من يتّبع شيطانه ويدهس عقله ، ومن الناس من جعل الحجة و الغلبة و القيادة في عقله ، فهنيئًا له ، التعقّل ليس كما يفهمه البعض ، الغمام علي بن أبي طالب لمّا وصف النساء " قليلات العقل " قلة العقل و الدين عند المراة ليس المراد به كما يتصوره الناس فيسيئوا لأمير المؤمنين لاساءته للمرأة .
يقسم الله في سورة التين " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) " لا يصح لنا أن نقسم بالمخلوق ، فلا يكون القسم صحيحًا الا باسم الله أو بأسماءه الخاصة دون غيره ( الكريم و الرحيم أسماء لا تخص الله تعالى وحده لذلك لا تصح على الاحوط ) ، القيوم لا يوصف به الا الله ، أو الحي ، أو ذي الجلال و الإكرام هذه صفات خاصة بالله عز وجل فيكون القسم واجب الإمتثال ، الله جاء بأكثر من قسم ليبين خطورة ما يريد القسم عليه ، المرأة انسان فلا يمكن أن يعارض المعصوم قول الله ، إنما مرادات أمير المؤمنين من " ناقصات عقول " بأن شهادة المرأتين شهادة رجل واحد ، مسألة التعقل ، قد توجد امرأة تفوق تعقل الرجال ، لا توجد قاعدة متواطئة نطلقها على نحو الكلية العامة ، كأن نقول كل رجل أعقل من المرأة ، هذا لا يمكن وهو ظلم ، أصل وجود العقل الرجل و المرأة يوجد بهما على حد سواء ، أما من ناحية التعقل واعمال الفكر في الإسلام يعتبر من اهم ما حمله الله على عاتق هذا الإنسان ، الحديث الذي ابتدأنا به صدر المجلس " لا يكمل العقل " اشارة ضمنية على أن العقول قد تكون ناقصة و قد تكون كاملة ، فالذي يكملها العلم و المعرفة والدراية و التفكر و التأمل و اتباع الحق ، عنوان الحق عنوان واسع منه العلم واتباع أهل البيت ومنه المعنى الخاص في الحق الذي يقابله الباطل ، ولهذا اكمال العقل ، وتنشئة الفكر و تعميق المبادئ الفكرية يعتبر من الضروريات ، الإعتناء بالفكر و التعقل في الاسلام يعتبر مهما لعدة أسباب
التعقل ووجود العقل هو المائز بين الانسان و الحيوان ، فشرفية الإنسان وتكريمه يدور مدار وجود هذا العقل ، فاذا ما وطأ أحدنا عقله بسلوكيات حيوانية ، فان هذا سيكون في مصاف البهائم و السباع ، العقل مناط التفاضل و التشريف ، يوجب الإعتناء بالفكر اإنساني ، السبب الآخر أن كل نهضة في الحياة لابد أن يكون من وراءها فكر ، التقدم الحضاري و العمراني و الإقتصادي و العسكري و الفضائي في كل مجالات الحياة ، لابد من تطور في عالم الفكر ، لتقوم أمة وتكون حضارة ، ولهذا توجد دول نامية و دول متقدمة ، مناط التقدم و التخلف العقل و المعرفة ، اذا أردنا لأمتنا أن تنهض لابد من تأصيل البعد الفكري و العلمي ، السبب الثالث كل تغيير في المجتمع ، اذا اردت ان توجد به بصمات ملموسة فلابد من التغيير ، ولا تغيير خارجي الا بتغيير داخلي ، من سورة الرعد " لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) " -لا يغير ما بقوم- من كفر و الحاد و ضلال وضياع وواقع سياسي مر وواقع سياسي مؤلم ، التغييرات الخارجية يبدأ مفتاح تغييرها من الداخل ، من سورة الجمعة " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) " التغيير الفكري و المعرفي هو الطريق لتغيير الواقع الخارجي .
النبي المصطفى عندما أراد أن يوجد أمة و قوم حضارة ، اتخذ دار الأرقم بن الأرقم ، وقد كان يختفي النبي بداخله ، و يدخلون المؤمنون معه سرًا ، وكان النبي يصيغ فكرًا اسلاميًا رصينًا يعدّ بذلك حملة لدينه الجديد ، فدخل عمّار و سميّة و ياسر و الخباب و أبو ذر ومصاب بن عمير و الكثيرون سرًا ، و دخل أحرارٌ و عبيدٌ و المشركون لا يعلمون بذلك ، و كان النبي يرفع التعقل العقدي و الفكري و الإنساني عندهم ، فيخرجون وهم يحملون الفكر المحمدي الأصيل ليطمأن النبي على دعوته الجديدة ، من هنا يجب أن نعتني بالفكر و التعقل ، التعقل أمر ضروي حيث أن كل السلوكيات الصادرة من الإنسان هي فرع معرفة الإنسان وتعقله ، أن يفعل او لا يفعل ، أن يقدم أو يحجم ، هذه سلوكيات متولدة بسبب الأفكار الإنسانية ، قد يوجد انسان يتغلغل الحقد و الغل في عقله ، وقد يوجد انسان يعيش في داخله الحب و الرحمة ، فهذين هابيل و قابيل ، الى أين أوصلت قابيل الأفكار السوداوية و الحقد و الحسد الا لأن يقتل أخاه ، السلوكيات الخارجية هي وليدة نمط الفكر الإنساني ، اذا حشوت فكر الرجل فكرآ معينا سترى في الخارج ما يرادف ذلك ولذلك تكمن الخطورة ، ضع الإسلام الأصيل في عقول الناس و سترى ادبًا رفيعًا وسلوكًا مُحبّبًا ورحمةً واسعةً كما أسس لها النبي ( ص )
انطلاقا من هذه المقدمة نطرح التساؤل ، ما هي مصادر التعقل ومصادر بناء الفكر ؟ هذا الفكر و هذا العقل هو وعاء ، العقل وعاء يتساوى فيه الرجل و المراة وهو هبة ربانية لا فضل فيك على عقلك ، و لا تُخير فيه أتريده أو لا ، مشروع التعقل يبقى عليك وهو دورك أنت ، أصل وجود الإرادة فيه قهري ، لا خيار لك الا ان تخرج من بطن أمك مريدًا ، فانت بهذا الإرادة التي وجدت جبرًا مخيرٌ لإرادتك أن تصلي و بإرادتك أن لا تصلي ، بارادتك أن تمسح على رأس يتيمٍ و بإرادتك أن تصفع انسانًا ، بإرادتك أن تنظر الى الحلال و بإرادتك أن تنظر الى الحرام ، التعقل هكذا ، التعقل امانة من الله ، من سورة الأحزاب " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) " كيف يمكن أن نحفظ أمانة العقل ؟ من خلال تنمية العقل بالفكر الأصيل و المعرفة الرصينة . مصادر الفكر و المعرفة عند الإنسان ، الأول هي الحواسّ الخمس التي أودعها الله تعالى في الإنسان ، بعينك تدرك المبصرات كالألوان و الأحجام و بأنفك تعرف المشمومات ، الزكي من غيره ، وبلمسك تعرف الخشن من الناعم ، وبلسانك تعرف المذوقات ، المالح من المر ، وقِس على ذلك المسموعات ، الحواس الخمس ، هي طرق معرفة تؤدي الى تغذية العقل وتمام المعرفة عند الإنسان ، قال المناطقة في قاعدتهم ، من فقد حسًا فقد فقد علمًا ، لان هذي قناة من القنوات التي تغذي لعقل ، فاذا أغلقت قناة الأذن لا يبين بين المسموعات ، وعلى ذلك فقس ، الا أن الحواس الخمس موجودة عند الإنسان و عند الحيوانات ، بل قد توجد بعض الحواس عند بعض الحيوانات أقوى من الإنسان ، كالشم عند بعض الحيوانات ، ولا معادلة أصلًا بين الإنسان و الحيوان في بعض الحواس ، ولكن النتيجة التي نصل اليها بان العقل يتغذى بقنوات معرفية وهي الحواس الخمسة .
القناة الثانية هو المحيط الأسري ، الإنسان الذي يولد في محيط أسري ، فان الأسرة و هي اللبنة الأولى التي تكون مصدر الإشعاع الأول عند الإنسان ، النبي ( ص ) " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ " ، من هنا يتوجب على الأبوين ان يلتفتى الى ما يغذيا هذا الإنسان الذي ينشأ بينهما ، وهذا له انعكاسات كثير ، وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة". التربية وبناء عقول الأبناء ليس ردة فعل ، بل البناء فعل و مبادرة ، معارف أهل البيت ، عمقها في ولدك ، فانت الذي تترك بصمة في طبيعة تفكيره و نمط سلوكه ، قس على اثرها العلامة الحلي حين كان يتعامل مع خاله وهو في الصبى ، لو تربى احدنا في محيط العنف ، وتنامى عقله الى العنف فلن ترى من سلوكياته الا العنف ، حتى على مستوى العلاقات الزوجية ، فيها بٌعدٌ فِطريٌّ غرائزي و فيها بُعدٌ تكسبي ، إدارة الأسرة ومهارات الحياة الأسرية و أنماط الحياة هي أمور تكسبية تعلّميّة ، ولا يخرج الزوج من بطن امه زوجًا مثاليًا ، فان لم يتعلم ، سوف يقوم بما رآه في أسرته وأبويه - هو المترشّح في سلوكه - على الأبوين أن يلتفتا ، صلابة الأب واستقامة الأب و منطق الأب و سلوكياته و مواقفه و شدته و قسوته كلها لها انعكاس في نمط الأبناء .القناة الثالثة هي الحكومات و الجهات الرسمية ، هناك بعد فلسفي ، هي اشارة الى ما أسس لها الفلاسفة في زمان أفلاطون وسقراط ، حيث وجدت نظريات مختلفة حول ملكية الصبي و الصبية ، لمن يملك الصبي ، هناك أربع نظريات ، النظرية الإسلامية تقول بأنه لا مالك للإنسان بل المالك هو الله ، النظريات الأخرى تقول بأن الإنسان مالك نفسه و أخرى تقول بأن الأبوين يملكانه ، و أخرى تقول بأنها الحكومات من حقها أن تنمط نمطًا خاصا للأبناء و تعلمهم ما تشاء و تحرك عقولهم باتجاه محدد ، الأنظمة الدكتاتورية التي تهيمن على الناس و أفكار الناس هي مسألة خطرة ، مثلًا في زمن فرعون حيث قال " ما اريكم الا ما أرى أنا " حيث يجب أن تُعطل عقول شعبه .
التعليقات (0)