اكمل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية وذلك لليلة الرابعة من شهر رمضان لعام 1439 هـ ، و تحت عنوان : قواعد تدبر القران الكريم ، ابتدأ سماحته بالآية المباركة من سورة ص : كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) ، المتدبر في سيرة رسول الله ( ص ) عندما نتبع خطبة النبي المصطفى التي استهل بها شهر رمضان فقد خصص جزءا منها لبيان عظمة القرآن و حث الناس على ضرورة قراءة اياته و تدبرها ، قد جاء في خطبته ، " فاسألوا الله بنيات صادقة و بقلوب طاهرة "، المسألة لها علقة بالتوفيق الإلهي ، ان أردت ان تستنزل التوفيق فاسأل الله ، وهذا الظرف في هذا الشهر ، نسأل الله أن نوفق لتدبر القرآن فيه .
قد جاء عن النبي محمد ( ص ) أنه قال شهر رمضان ربيع القرآن ، تعبير بلاغي رائع ، اذا كانت الفصول التي تمر علينا ما بين فصل الصيف و الخريف وغيره ، الربيع له واقع خاص في من يدرك حلاوة الدنيا و شجرها و خضرتها وثمارها ، الربيع فيه جمالا واستعمل هذا التعبير في القرآن ، لا تكاد تجد بيتا من بيوتات المؤمنين الا وصدى تلاوة القرآن يصدح منه ، من هنا يجب أن نعرف قيمة القرآن بشكل عام وقيمته في شهر الله بشكل خاص ، " من تلى فيه آية من القرآن ، كان له مثل أجر من ختم القرآن فب غيره " ، الانسان العاقل ليكن في تجارة مع الله ، لنكرر ما نحفظ من قرآن الله في الشارع و في كل مكان ، العاقل هو الذي لا يضيع الأرباح المعنوية ، ينبغي ان تكون القراءة قراءة واعية ، تخرج من آثارها اللسانية و تقع في القلب و تترجم لسلوكه .
هناك أمور تأديبية ، يجب أن يكون واقع الآيات في سلوكنا و أعمالنا ، القرآن الكريم دستور حياة ، وليس مظهر اعجاز الله و اظهار نبوة الرسول ، بل هو منهج حياة ، ما من صغيرة ولا كبيرة الا في القرآن ، لنتدبر القرآن في شهر رمضان لأنه ذو الظرف الملائم ، العبرة ليست في الكمية ، و لكن في الكيفية ، تحوّل الانسان الى حي و تزيل الغفلة ، العلقة مع الله و السير الى الله ، لا يدور مدار الكم ، بل يدور مدار الكيف " وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " كم مضى على فترة ايمانها الى حين رحيلها ، هناك من تورمت جباههم من السجود و انحنت ظهورهم ، لكن صبرٌ و ثبات و استقامة وتجسيد لقوله من سورة فصلت " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ " هنا يعرف المؤمنون اذا تزلزلت الأرض تحت أقدامهم بالبلاء و الإغراء و الغواء ، هنا يمحص المؤمنون ، طلب آسيا يكشف على أنها ليست عابدة بل عارفة ، من سورة القمر "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ " المؤمن عينه على هذا االمقام ، العارف عينهم على مقام مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وهي اشارة الى المعرفة .
التدبر في كتاب الله يوصلنا الى الكثير من المعارف و مادمنا في شهر القرآن لابد من التعرف على قواعد التدبر القرآني ، لماذا مجالسنا تضج بالتلاوة دون التدبر ، و بعضنا يبذل سعيا كبيرا في معرفة قواعد التجويد ، فصار مزمارًا من مزامير داوود ، من حلاوة الصوت ، أين واقع المعاني ومفردات القرآن و مضامينه ؟ قد يكون أحدنا يصدح بالصوت المؤثر لكنه لو سئل لما وعى شيئا ، وذلك لغياب التدبر ، ولكن لنكن منصفين في أن عذوبة الصوت الذي يتسلل من المسامع الى القلوب أمر مهم و مؤثر كما كان بيت الإمام السجاد ، حيث كان زقاقه يضج بالمارة من حلاوة صوته ، المعصوم حينما يقرأ ليس كتلاوتنا ، صوته صادر من انسان عارف ، فهو يعرف كل مضمون وكل الآيات ، ما احوجنا للتدبر و التفسير و التاويل ، هذا الدستور الأكبر و الأعظم من أجل أن نعيش مع الله سبحانه و تعالى في آياته ، هناك دعوة الى عامة المؤمنين على ضرورة التدبر ، من سورة محمد " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ (25) " ، من سورة ص " كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) " و البركة تعني الزيادة ،
هناك مجموعة من المقدمات ، أن القرآن الكريم انزله الله ، يوجد بحث قرآني علمي رصين ، أن القرآن له ألفاظ و له معان ، و المعنى من وراء اللفظ ، فدار جدل علمي ، هل أن اللفظ وضعه الله أو جبرائيل أو النبي ، المعنى القرآني من الله ، هناك من يؤمن أن الله أوحى المعاني لجبرائيل و جبرائيل ألفظها للنبي ، وهناك أقوال تقول أن النبي هو من صاغ الألفاظ ، المعاني قلبية ، و النبي تكفّل بالصياغة ، و الثالث أن المعنى و اللفظ هو من عند الله سبحانه و تعالى وهو ما نؤمن به ، المقدمة الأخرى ، ان كتاب الله له قداسة خاصة تنطلق من قداسة منزله ، اذا نسب الشيء من الله أعطي قداسة و احترام ، معنى العالم الرباني ، نسبته الى الرب ، ومظهر جلالة الله في الأرض ، آيات القرآن منسوبة لله ، ولها أحكامها ، فلا يجوز أن تمس من دون طهارة ، أو أن تنتهك او ان توضع موضع اهانة ، هذه الكلمات ليست حبرا اسودًا على ورقة بيضاء ، بل هي جزءًا لا يتجزأ من الله ، هناك بحث قديم يدور حول أن كلام الله النازل من عنده قديم أو حادث ! مدرسة اهل البيت تقول بانه حادث ، اذا كان قديمًا بقدم الله ، كان الله و كان الله معه ، فصار تعدد للقدماء و نحن لا نؤمن الا بقديم واحد ، هو منشا الوجود ، كان الله ولم يكن معه شيء ، القرآن يعبّر أنه مُحدث خلق من خلق الله عز وجل ، لابد ان نعتقد أنه ليس قديما للزوم الإختلال بقاعدة تعدد القدماء .
نؤمن بان هذا القرآن معافى من التحريف ، لا كما يزعم البعض بأن الشيعة تقول بان كتاب الله محرّف ، كتاب الله ومن خلال الأدلة التي أقامها العلماء يشيرون الى دليل التحدّي القرآني حيث تحدّى الناس و الخلق بالقرآن ، فجاء بالإعجاز فيه ، فهو ليس بلاغة ، بل تضمن تحدي بلاغي و تحدي علمي و تحدي تاريخي و اخبار غيبي ، فلو قلنا انه فرغ من مضامين التحدي بتحريفه لما صلح ان يكون معجزة تحدّي ، قانون التحدي القرآني يقتضي ان يحافظ على كتاب الله ، القانون الثاني ، دليل التعهد الربّاني ، ان الله تعهّد بحفظ القرآن الكريم حيث قال " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " ، ولهذا محفوظ كتاب الله ، الدليل الثالث هو الروائي ، الرواية المتواترة عند الشيعة و السنة " إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا " مقتضى التمسك عدم التغير ، فلو غير القرآن الكريم اذن لا قيمة للتمسك به ، فلو حرف القرآن وقع الضلال ، لا يمكن لأحد أن يتنكر حول حديث الثقلين ، هل يمكن أن ينقص حرف او حرفين أو يزيد ؟ هذا أمر وارد ولكن بشرط أن لا يغير من المعاني ، ولذلك يوجد عدة قراءات لا تخل بمضمون كتاب الله ويبقى المضمون محفوظ ، والدليل عل طروء التغيير من السنة أن عثمان جمع القرآن الكريم و أحرق الباقي .
القرآن الكريم محفوظ وله قواعد ، القرآن على نحوين ، قرآن ورقي و قرآن واقعي حركي سلوكي تجسد في المعصوم ، في حرب صفين عندما أوشك معاوية أن يُهزم لجأ الى الحيلة ، فأمر أن ترفع المصاحف على أسنة الرماح وهم يصرخون " حسبنا كتاب الله " القرآن كل عام فيه فيه مخصص ، وكل مطلق فيه مقيد من السنة ، فكيف نفصل السنة النبوية المترجمة و المفسرة لكتاب الله ، وهذا امر خطير و أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ارتفع صوت علي " كلمة حق يراد بها باطل ، وهذا هو القرآن الصامت و أنا القرآن الناطق " .
التعليقات (0)