شارك هذا الموضوع

الصفا في الليلة الثانية من شهر رمضان لعام 1439 هـ

واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية وذلك في الليلة الثانية من شهر رمضان المبارك لعام 1439 هـ ، وتحت عنوان " وسائل الوصول الى الكمال " ابتدأ سماحته بالآية من سورة البقرة كما البارحة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) " ، القاعدة تؤكد على أن كل تشريع له غاية و هذا ما أوضحناه في البحث السابق و أبنّا ان الله نصب لتشريع الصوم مجموعة من الغايات و الأهداف ، ويمكن أن نلخص غاية تشريع الصوم بالرواية المباركة لأبي القاسم محمد ، حيث التفت ( ص ) الى الصحابي الجليل جابر بن عبدلله الأنصاري وهو يحدق بناظريه نحو هلال شهر رمضان ، يا جابر هذا شهر رمضان ، اسم الإشارة في المقام يراد به تعظيم الشهر ، فجابر يعلم شهر رمضان ، من صام نهاره و قام وردا من ليله و عف بيته و فرجه وكف لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر ، الولادة الروحية ، الإنسان يمر بولادتين ، الولادة الطبيعية التي تتحقق من خلال حمل امه له 9 شهور ، من سورة النحل " وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) " التي تتحقق من عملية التزاوج بين رجل و امرأة ولو بالسفاح ، اما الولادة الي يتحدث عنها النبي فهي ولادة كبرى ، لا من رحم أم ، من رحم شهر رمضان ، يوم العيد هو يوم الولادة ، وفترة الحمل 30 يومًا ، و آلام الحمل هي الجوع و العطش ، اما أن يولد الإنسان سعيدا او شقي .

أعظم غاية يحركنا الصوم في اتجاهها ان يولد انسان جديد ، هناك هدف ، و هناك غاية ، " لعلكم تتقون " رسم مسير العباد من خلال الصوم تنتهي الى التقوى ، و تنتهي الى معرفة الله ، لأن التقوى انما هي وليدة معرفة الله ، فلا تقوى ولا خوف ولا عشق الا بمعرفة ، و الصيام يؤسس هذه القاعدة ، من حقنا الليلة ان نتسائل ما هي العوامل و الوسائل التي تسهم في وصول الإنسان الى الغاية المنشودة ؟ الله حكيم و الحكيم لا يشرع الا لهدف ، ما هي الوسائل المساعدة و العوامل الفاعلة التي من حقها أن توصلنا الى الأهداف ؟

الوسيلة الأولى ، هي الوسيلة الفقهية ، فان الصوم لا محركية فيه من دون فقه ، فلو صام أحدنا من تلقاء نفسه دون معرفة فقه الصيام فأخطأ في صومه ، هذا الصوم لا يحرك ، الصيام لابد ان يكون مقرونا بشرائط الصحة ، الشرائط على نحوين ، الشرائط التي تكون مصدر صحة للعمل ، ومصدر قبول العمل ، التفقه في الدين و الإحاطة بأقوال الفقهاء في مسائل الفقهاء تضمن لنا صحة العمل وليس قبول العمل ، قد يكون صحيحا مبرئًا للذمة و لكن صاحبه ما له من صيامه سوى الجوع و العطش ، الصوم يجب أن يكون مقترنًا بالتفقه ، قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) : " الْمُتَعَبِّدُ عَلَى غَيْرِ فِقْهٍ كَحِمَارِ الطَّاحُونَةِ يَدُورُ وَ لَا يَبْرَحُ . وَ رَكْعَتَانِ مِنْ عَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً مِنْ جَاهِلٍ ، لِأَنَّ الْعَالِمَ تَأْتِيهِ الْفِتْنَةُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا بِعِلْمِهِ ، وَ تَأْتِي الْجَاهِلَ فَتَنْسِفُهُ نَسْفاً . وَ قَلِيلُ الْعَمَلِ مَعَ كَثِيرِ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعَمَلِ مَعَ قَلِيلِ الْعِلْمِ وَ الشَّكِّ وَ الشُّبْهَةِ " أي مسألة ابتلائية يجب أن تكون متقنا لها ، ما لم تكون تاجرا لا ينبغي ان تتعلم أحكام التجارة فإن تعلمت فهو مستحب أما اذا كنت تاجرا فيجب عليك ذلك ، قال رسول الله محمّد (ص): التاجر فاجر ما لم يتفقّه في أمور الدِّين ، لا خصوصية للتاجر في الموضوع ، بل للطيار و المهندس و المدرس أيضًا، وكل من كان في معرض الإبتلاء ، معرفة أحكام الصوم تعتبر من الواجبات .

الصوم يجب على المكلف و أن يعلم بأن الخطاب الإلهي يتوجه للمكلف اذا اجتمعت فيه الشروط ، الأول أن يكون المكلّف بالغًا لأن التكليف شرط تحقق البلوغ ، الصبي و من يكون دون البلوغ لا يخاطب بالصيام ، ويستحب أن يمرن و يدرب - ما دام دون سن التكليف - ، الشرط الثاني العقل ، كل من فقد عقله لا يكلف ، مدار التكليف يدور مدار العقل ، أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله سلّم قال : لمّا خلق الله العقل قال له : أقْبِل فأقْبَلَ ، ثمّ قال له : أدْبِر فَأَدْبَرَ ، قال: وعِزَّتي وجلالي ما خلقْتُ خلْقًا أحبَّ إليّ منك ، بك أثيب وبك أعاقب ، من الشروط أيضا الطهارة من الحيض ، المراة يجب أن تكون طاهرة من الحيض و النفاس ، و النفاس هو الدم الذي يخرج مقارنا لخروج الولد ، فلو صامت وولدت قبل أذان المغرب بطل صومها وكذلك الحائض ، ولو كانت مشغولة بالدورة و النفاس فطهرت بعد أذان الفجر بدقيقة واحدة لما صح منها الصوم ، يشترط للمرأة أن تكون نقية من دم الحيض و النفاس ، أما الإستحاضة لو قامت بوظائفها فصومها صحيح ، من الشرائط أيضا عدم الضرر ،لا يصح الصوم اذا كان سببا للإضرار ، لأن الإضرار خلاف المألوف و المقدور غير جائز ، اذا كان الصيامُ سببا لزيادة علته ، أو سببا لزيادة ألمه أو سببا لتأخر برئه ، لا يصح منه الصوم ، بعض من كبر سنه ودق عظمه فصار عاجزا بسبب الشيخوخة الله يسقط عنه الصوم ، و الله يحب أن يؤخذه برخصه .

من الشرائط الحضر ، لا يصح الصوم من المسافر ، الصوم في السفر غير صحيح الا في حالات أربع ، الأولى ، من صام جاهلا بأن الصوم يضر بالصيام ، و رجع الى وطنه وهو لا يعلم فصيامه صحيح ، الحالة الثانية من نوى ان يقيم عشرة أيام جاز له الصيام ، الحالة الثالثة المتردد ، أذن الله الشارع عشرة او عشرون يوما ، فإن أكمل 30 يوما يكون فرضا عليه بأن يصوم و أن يصلي تمامًا ولو استمرت حالة التردد عنده ، أما الحالة الرابعة فهي خلافية وتفرد بها فقيهان ، الأول السيستاني و الثاني السيد فضل الله ، وكلاهما يذهبان الى من كان كثير السفر في بلده ، وانطبقت عليه الشرائط ، فلو سافر زيارة للمعصومين او مستجمّا، إن كان كثير السفر فصيامه تام و صلاته تمام ، الفرائض تبعث في الإنسان روحًا تقربه .

الوسيلة الروحية ، كما بينّا بأن الشرائط صحة و قبول ، من صلّى صلاته مستجمعًا لجميع الأحكام الفقهية على ضوء من يقلد ، لكنّه لا يتذكر في صلاته الا تكبيرة الإحرام و السلام ، فحكم صلاته صحيحة على ضوء جميع الفقهاء ، أهل هي مقبولة أم لا ؟! شرائط الصحة لها مدخلية في صحة العمل ، أما شرائط القبول ، فلها مدخلية في قبول العمل ، واستحقاق الأجر ، مثل الأحكام التوصلية والتعبدية ، الشريعة فيها مجموعة من الاحكام ، قسم توصّلي : النية فيه شرط كمال و ليست شرط صحة ، يتكامل العمل فيكون سببًا لإستحقاق الثواب، الأمور التعبدية فإن النية هي روح العمل ، هناك أعمال تجرح الصيام ولكنها ليست من المفطرات ، المفرطات تفسد الصيام ، المعاصي و الترفع عنها تعطي الصوم توهجا و فعالية لان تصل الى المبتغى و الغايات ، فالكذب و النظر الحرام يؤثر في الصيام و أجره و لكن لا يؤثر في صحة الصيام .

الوسيلة في تحقيق القاعدة العقدية ، هناك بعد عقدي له مدخلية في كمال وصحة الصوم و وصوله الى الغايات المنشودة ، الروايات كثيرة على أن اعمال الإنسان من دون ولاية لولي الله مفرط من القبول، وفي زماننا عجل الله فرجه ، كل عمل من دون الإعتقاد بإمامته مفرط من القبول ، من الواضح من كان في زمن معصوم - لا تخلو الأرض من حجة إما ظاهرا مشهورا و إما غائبا مستورا - يجب أن ندين بولاية ولي الله ، و ان نجعل أعمالنا مصدرها مستندا اليه ، وإمضاؤه و إقراره ، حينئذ يكون العمل موصلا للهدف ، لو صام احدنا دهره و أقام ليله و أنفق جل ماله فإن ذلك لا ينفعه ما دام متبرئًا من ولي الله ، الولاية لها مدخلية بالقبول ، اما لو أخذ علمه من غير المعصوم فجاء به ، الإيمان يجِبُّ ما قبله ، فلو أتى أحد المؤمنون من أخواننا السنة و صار شيعيا ، لا يعيد صومه و صيامه فهو محكوم بالصحة ، اما اذا كان حنفيا أو شافعيا أو حنبليا أو مالكيا وكان عاصيا فيجب عليه أن يقضي صومه وصلاته ، ما دام معتقدا بتقليد فلانا وكان مضيعا للصلاة يجب عليه أن يقضي . ولذلك من مقطع دعاء الندبة " اجْعَلْ صَلاتَنا بِهِ مَقبُولَةً، وَذُنُوبَنا بِهِ مَغْفُورَةً، وَدُعاءَنا بِهِ مُسْتَجاباً وَاجْعَلْ اَرْزاقَنا بِهِ مَبْسُوطَةً، وَهُمُومَنا بِهِ مَكْفِيَّةً، وَحَوآئِجَنا بِهِ مَقْضِيَّةً " لنضع أسفل كلمة " به " خطين ، ولنا بحث آخر سنفصله في الليالي القادمة حول هذا المقطع .

الوسيلة الاخيرة الوسيلة النفسية ، على المؤمن أن يبرمج عقله برمجة يعرف نفسه قيمة الشهر ، وهي فلسفة أبانها النبي ( ص ) اذا أردت أن تحفز الناس فعرفهم بما تريد أن تحفزهم عليه ، من التنمية البشرية ، المربع الاول لماذا ، المربع الثاني ماذا ، المربع الثالث كيف ، المربع الرابع ماذا لو ، والنبي عرف بشهر الله ، أيُّهَا النَّاسُ ! إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ . شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ . هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ . أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ . وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ، جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ . وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَغُضُّوا عَمَّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ، وَعَمَّا لا يَحِلُّ الاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ أَسْمَاعَكُمْ .


التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع