شارك هذا الموضوع

الليلة الحادية لشهر رمضان المبارك لعام 1439 هـ

نبارك لكم بهذا الشهر و أعاده الله علينا وعليكم بالخيرات ، إبتدأ سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية وذلك في الليلة الحادية من شهر رمضان لعام 1439 هـ بآية 183 من سورة البقرة : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " ، وتحت عنوان العبادة بين الهدفية و العبثية ، القرآن الكريم ومن خلال هذه الآية المباركة يشير الى تشريع الهي فرضه الله تبارك وتعالى على عباده ، وعند العودة الى القرآن الكريم ، يتجسد في آيات الله الأوامر الإلهية ، و أوامر الله تبارك وتعالى كلها تنطلق من قاعدة رصينة عقائدية ألا وهي قاعدة الحكمة ، وعندما تنطلق الاوامر من قاعدة الحكمة فلابد أن تكون أوامره آيات و أهداف لماذا ؟ لأن الحكيم لا يأمر عبثا ولا يصدر منه عمل عبثي ، الآية 115 من سورة المؤمنون " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ " ، ما من تشريع الهي صادق إلا ومن وراءه غاية ، علل الأحكام ليست بأيدينا ، حتى لو كنا لا ندرك تلك الغاية لابد أن نؤمن أن من وراء أمره التحريمي او الوجوبي مصلحة عظيمة و ان كنا لا نعلمها ، الحكيم ( عز وجل ) من صفاته الذاتية الحكمة ، و الصفاة الذاتية منها الحياة والقدرة والعلم وهي صفات لا يمكن أن تنفك عن ذاته ومن مقتضاه عز وجل أنه حكيم ، أن أوامره كلها لها غايات محددة ، عندما كتب لله الصيام ، ما الغاية منه ؟ و ما الفلسفة التي أراد أن يحققها من خلال تكليفهم بالصوم ؟ فهي كثيرة وسنتعرض لها بشكل هرمي ( قاعدة واسعة و رأس ضيق ) .

الهدف الأوسع من تشريع الصوم و غيره - كل الأحكام - تحقيق معاني العبودية ، من سورة الذاريات " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " الصوم مصداق من مصداق العبودية و غيرها من صلاة و زكاة إنما هي واقع لتحديد العبودية التي هي من أعظم الغايات ، لو وجد الله وسامًا يضعه على عاتق أشرف أنبيائه محمد ، من سورة الإسراء " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فقال بعبده و ليس بنبيه ، أن تسم أشرف الأنبياء بالعبودية لهو دليل على أنها أعظم وسام ، العبودية لله تكون مصدر فخر ، علي عليه السلام يقول في ورده " إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدا وكفى بي فخرا أن تكون لي ربا أنت كما أحب فاجعلني كما تحب " كل عبودية لغير الله ذلٌ ومهانة ، الا العبودية لله فهي مصدر الرفعة و السمو ، قُسّم العباد الى ثلاثة أقسام ، " إن قوما عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وآخرون عبدوه رغبة ، فتلك عبادة التجار، وآخرون عبدوه محبة وشكرا، فتلك عبادة الأحرار ، إن قومًا لو رفع العقاب لتمرّد ، و ان قوما يعبدونه رجاء أو طمعا فهي عبادة التجار ، وهذا صنف من الناس يتعبدون لأن هناك جنة ، المحرّك هو الباعث وهي الجنة والنعيم ، أما الصنف الثالث " و إن قوما عبدوا الله حبا " فتلك عبادة الأحرار ، وهو الصنف الثالث ، الله شرع الاحكام ليتعرف على العباد المخلصين منه .

الغاية الثانية من غايات الصيام و الأحكام " لعلهم يتقون " لنتأمل و ننظر الى صدر الآية " عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ " هناك غاية تسمّى التقوى وهي الوقاية من الحذر ، الله عز وجل جعل من التقوى مناط التفاضل بين عباده ، من سورة الحجرات " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " ، التقوى وجود متشكك وليس متواطئ أي أنه ليس كالإنسانية ، الإنسانية زيد كإنسانية غيره ، الناس كأسنان المشط ، رجالا و نساء ، مسلمين و غير مسلمين ، أما مناطات التقوى ، هناك من انسلخت التقوى من قلبه ، وهناك تقي و هناك أتقى وهناك الأتقى على الإطلاق بين الوجود ، التقوى التي تتغلغل في قلوبنا وما احوجنا اليه حيث المغريات و أسباب الفسد و أبواب المعاصي و الآثام ، ما أحوجنا الى الرادع الذي يحمينا من متاهات معصية الله ، التقوى هي الدرع المنيع التي يحيل بين العبد و ان يتهاوى بين الإستقامة و الإنزلاق ، مصدر التقوى المعرفة ، ما دخل الصوم بالتقوى ، الخوف من الله حالة من الحالات العارضة على الإنسان قد تزول و قد تبقى ، قد تشتد و قد تنخفض ، حالها من حال الحب و الخوف و الوجل ، مصدر التقوى هو عين مصدر الخوف ، من دعاء الصباح عن أمير المؤمنين ،" مَنْ ذا يَعْرِفُ قَدْرَكَ فَلا يَخافُكَ، وَمَن ذا يَعْلَمُ ما اَنْتَ فَلا يَهابُكَ " التقوى انعكاس لمساحة المعرفة عند الإنسان ، ما الفرق بيننا و بين علي حيث يقول " لا اله الا الله " ونحن نقول " لا اله الا الله " ، وهو يصلي ونحن نصلي ولكن شتان بين صلاتنا وصلاته ، إذا وقف اصفر لونه و تلجلج لسانه و ارتعد بدنه ، الفرق مساحة المعرفة ، المعرفة بحاجة الى تأصيل في قلوبنا ، اذا كانت التقوى منشأها المعرفة فما دخل الصوم .

المنشأ أن الصوم يولد المعرفة ، كيف ؟ لنتأمل الرواية التي ينقلها العلامة المجلسي ، " يا رب ما أول العبادة؟ قال: أول العبادة الصمت والصوم، قال: يا رب وما ميراث الصوم؟ قال: الصوم يورث الحكمة والحكمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين " المؤمن لما يبلغ مرتبة اليقين ، كيف يستطيع أن يمسك هذا القلب ليكون قلبا وجلا ، فيرتعب فؤاده و اشتاق قلبه ، صفات متعاكسة في اللحظة التي يخاف فيها من الله ، تعينه على مواجهة الإنحراف ، نحتاج أن نؤصل معاني التقوى في كل أحوالنا ، و أن نعيش حضورًا ربانيًا الآية 115 من سورة البقرة " وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " أن يكون حاذرا أمام أعيننا ، الغفلة عن الواقع الملكوتي أحد أسباب الإنزلاق ، كل ما في الكون من واقعه ملكوتي حي و يسبح و يشهد يوم القيامة ، و أما واقعه الملكي جماد - عالم النشأة - الآية 21 من سورة فصلت" وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " كل ما في الكون ، الغفلة عن البعد الملكوتية تقلل حالة التقوى ، عن يميننا ويسارنا ملك ، من سورة ق " مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " لنكون متصلين و لنكوّن علاقة حقيقية مع ملكينا / من سورة الإسراء " أقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا " الإنسان العاقل يعلم ان كل ما بالكون هو ملك الله ، نحن في الدنيا مخولين بأعضائنا ولكن في الآخرة ليس كذلك ، غياب البعد الملكوتي هي اهم الأسباب ، عندما يكون هذا الجسد هو كل ما يهم الإنسان ، و حياتها كلها له ، فلا وجود للوجود الروحي - فهو مغيب - .

الغاية الثالثة - الأضيق في الهرم - و هو أعلى من التقوى و هو يأتي من بعد التقوى ، الناس ينقسمون الى قسمين ، قسم عينُه على الجنة ونعيمها ، وقسم عينه على خالق الجنة و النعيم ، الإنسان العابد و الإنسان العارف ، الفرق بين العابد والعارف أن العابد عينه على النعيم و الجنة ، امّا العارف عينه على خالق النعيم و الجنة ، من سورة القمر " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ " اذا كانت الجنة تجسد الحور و جمالها ، العارف عينه على خالق الجمال ، فما حال خالق الجمال ، لما عرفت زليخة يوسف فتنت بحبه و لكنها لما عرفت بخالق الجمال ، أصبح قلبها هناك ، قيل لأبا الحسن عن علي (عليه السلام ) قال : الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة , لان الجنة فيها رضى نفسي والجامع فيه رضى ربي . وهذا يذكرنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: مَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ . القرب المعنوي الذي يطلبه العارفون ، من سورة التحريم " وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " فقد ذكرت " عندك " ، الصيام طريق الوصول لتلك المراتب ،ـ على المؤمن أن يجعل عينه على مقام القرب من الله ، كما الإمام الحسين " تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا * وأيتمتُ العيالَ لكي أراكا ، فلو قطّعتَــني بالحـبّ إرباً * لَـما مال الفؤادُ إلى سواكا " .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع