شارك هذا الموضوع

إيران وتوازنات الجمهورية والإسلامية


جاءت الأزمة الأخير بين مجلس صيانة الدستور (سلطة رقابية) ووزارة الداخلية (سلطة إجرائية) في رفض أهلية أكثر 3600 شخص من المُسجلين رسمياً للترشيح للإنتخابات التشريعية السابعة ونداءات بعض الأطراف في الحكم لمرشد الجمهورية الإسلامية الإمام الخامنئي للتدخل لحلحلة الأزمة لتؤكد من جديد على نوعية الحقائق السياسية والدستورية التي يتفرّد بها النظام الإسلامي، فهو إلى جانب اتساعه لأفهام الدين ( المرنة ) والسياســة ( الممكنة ) متميز بشدةِ تعقيدهِ وبتركيبته الجمهو/دينية التي هي أقربُ ما تكون إلى عُسرٍ مؤسسي وبتعددٍ لمراكزِ القوى، فبالإضافةِ إلى السلطاتِ الثلاث يُوجدُ هناك مركزُ المرشديةِ العليا ومجمعِ تشخيصِ مصلحةِ النظامِ الإسلامي ومجلسِ صيانةِ الدستور والمجلسِ الأعلى للأمنِ القومي، ولربما فَعَلَ خبراء الدستور والقانون الإيرانيونَ ذلك بعد الثورة رغبةً منهم في مجانبةِ الاحتكارِ السياسي والتنفيذي الذي عاشُوهُ ردحاً من السنين منذ أيام القاجاريين والبهلويين .


كان الإمام الخميني ومن لفَّ لفَهُ من مُريدينَ قد فَهِمُوا شيئاً جوهرياً في العملِ السياسي وهو أنه من الصعبِ على رجلِ السياسةِ أن يقتادَ من أيدلوجية واحدةٍ خالصةٍ لا تقبلُ شيئاً من خارجِ ذوقِها بل وتعتبُره وزناً زائداً على جِسمها، لذا فإنهم وبُعيدَ انتصارِ الثورةِ الإسلاميةِ في 11 فبراير 1979 وعَوا بأن إقامةَ إمارةٍ دينيةٍ يحكمها أميرٌ للمؤمنين أو دولةِ العدلِ الإلهي الذي يحكمها الفقيهُ بلا سلطاتٍ ثلاث هو ضربٌ من الجنون لذا فقد بادرَوا إلى تكييفِ أيدلوجي مع ما هو سائدٌ من نظامٍ دوليٍ في فقهِ الدولةِ الحديث مع المحافظة على قدسيةِ جوهرِ الأفكار الدينية التي ناضلوا من أجلها والتي من أهمِها مبدأ ولاية الفقيه الذي أسس لها سبط بن الجوزي قبل تسعمائة عام وعمِل بها الشيخ علي بن عبد العالي الكركي (940 هـ) والمحقق الأردبيلي (993 هـ) في أتونِ قيامِ الدولةِ الصفوية ثم نظّرَ لها أكثر الشيخ أحمد النراقي (1248 هـ) من فقهاءِ القرن الثامن عشر وكلهم كانوا يُجمعون على ضرورة استحصالها المقبوليةِ والبيعةِ لكي تكتمل ويتحقق بذلك انبساط اليد للحاكم .


لقد أضاف الإمام الخميني لولاية الفقيه بُعداً دراماتيكياً وحداثياً من خلال تطعيمها بالعنصر الجمهوري حيث باتت المؤسسات المتمخضة عنها تكتسي صفتها الشرعية والاعتبارية من خلال الإنتخاب المباشر أو الاستصوابي، فمجلس خبراء القيادة يأتي بالإنتخاب وكذا المرشد والمجلس التشريعي ورئيس الجمهورية وجزء من مجلس صيانة الدستور، وكان الإمام إلى جانب ذلك يعتقد بقوة أنه من خلال نظرية ولاية الفقيه يمكن العودةُ إلى علاقةِ الثابتِ بالمتغير أو الشريعةِ بالواقع وهي التي تحاكيها التحدياتُ المعاصرة من مناحي مختلفة، تبَعاً لنفوذ الإطار العلمي الغربي مرة أو ارتباطاً بمحاولاتِ التجديد والتحديث التي تتطلع إليها إنتلجنسيا العالم الإسلامي مرة أخرى، وعليه يمسي دور المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية جوهرياً ومحورياً، في عقلنة التجاذباتِ الحادة التي تفرزها نزعاتُ الجمودِ أو التجديد، التأصيلُ والتحديث، ذلك أن الحراك الاجتماعي والمعرفي الحيوي الذي تحياه البشرية لا يمكن اختزالُه في مغامرةٍ فكريةٍ خالصة، أو صراعٍ سياسيٍ مباشر لأنها حالةٌ تاريخيةٌ متعددةُ الأبعاد، تغدو مصلحةُ الأمة أحدَ أهم أبعادِها وأكثَرِها حضوراً،  من هنا تتبين ضرورةُ الإنشدادِ والركون إلى موقع الولاية بوصفهِ الوازنُ لتقاطبِ المفاهيم والمصالح .


وفي سبيل إيجاد مُسببات الحصول على المرشد الصالح فقد دأب الإمام الخميني في بحوث الحكومة الإسلامية على التأكيد بأن شَرطَي العلم والعدالة يجب أن يتوفرا في الولي الفقيه، لكي يُحيلانِ كفايته إلى كفايةٍ ذاتية والضوابطُ إلى ضوابطَ داخلية بالإضافة إلى الضوابط الخارجية كمراقبة السلطة القضائية لأمواله وأهل الحل والعقد لإدارته وتصريفه للأمور،  بدلاً من التعويل على كفايات وضوابط خارجية صرفة قد تتخللها تأثيرات مادية أو معنوية تُبطل عملها وغايته، وحيث أن تنفيذ الأحكام الإلهية والعدل يتماثلان ويندرجان في دائرة واحدة، فإن ذلك يعني أن تنفيذ الأحكام الإلهية وخدمة الناس ( كما هو مذكور في كتاب الحكومة الإسلامية ) يشكلان قاعدة ممارسة السلطة في فكـر الإمام الخميني، وهذا هو أحد المرتكزات التي يتأسس عليها تجديده السياسي الديني، حيث أن إعلاء قيمة خدمة الناس ووضعها إلى جانب تنفيذ الأحكام يشكل الإجابة الخمينية على إحدى الإشكاليات المطروحة على الدوام في علم السياسة وعلم الاجتماع، وهو ما أوجد مبدأ فلسفي مؤصل متماهٍ مع قِيَم المجتمع وتستمد منه السلطة مبررات تأسيسها واستمراريتها .


وفي عملية استقراء عمودية للحالة المشروعية للأنظمة السياسية السائدة في العالم وخصوصاً تلك الأنظمة التي رَشَحت بعد الثورة البيضاء في انكلترا بالقرن السادس عشر والثورة الفرنسية العتيدة في العام 1789 وكذا فترة صياغة الدستور الأمريكي بعد الحرب الأهلية في القارة الشمالية الجديدة نلحظ أنها تلتقي حول ركيزتين أساسيتين في مشروع الدولة السياسي :


(1) الجهة المركزية والنهائية في سلسلة مشروعية حيثيات النظام السياسي التي يُمكن التحـاكم (أو الركون) إليها في حالة الصدام التنفيذي أو القضائي أو التشريعي .


(2) الخطوط الحمراء لأصل النظام السياسي التي بها حياته وبها مماته ( الحرية الليبرالية في الغرب مثالاً ) وعليه لا يُمكن وبأي حال من الأحوال القفز عليها أو تجاهلها أو التآمر عليها .


وتأسيساً على ذلك فقد استطاعت الجمهورية الإسلامية أن تُوجد ما يُمكن أن يُسمى بالمرجعية السياسية العليا التي يُمكن اللجوء إليها كصمّام أمان في حالة الاختناق الدستوري بين السلطات حالها حال باقي الدول وهي موقع الولي الفقيه بالمصطلح الفقهي أو مرشدية الثورة (أو الجمهورية ) الإسلامية الذي هو وبحسب المادة 110 من الدستور الإيراني موقع محوري في النظام السياسي لطالما كان مفتاحاً دستورياً لحلحلة الكثير من القضايا التي لم تجد حلولاً إدارية أو قضائية أو تشريعية .


خصوصاً إذا استحضرنا فكرة أن الولي الفقيه وبحسب الفقه السياسي غير مقيد بالأخذ بالأحكام الأولية والثّانوية، بل له حكم ولائي مستقل، في عرض الأحكام الأولية والثانوية ناشئ من الخلط بين الأحكام التشريعية والأحكام الإجرائية، كما أن الفقه السياسي لا يقول بأن الحاكم ليس له حكم ولائي بل هو ثابت له، ولكنه ليس في عرضهما بل في طولهما، فالأحكام الأولية كوجوب الصلاة والزكاة والجهاد، والثّانوية كنفي الضرر والحرج ولزوم حفظ النظام، أحكام كلية إلهية، وقوانين عامّة شرعية، وأمّا الحكم الولائي حكم جزئي من ناحية الحاكم، يحصل من تطبيق القوانين الكلية الإلهية على مصاديقها الجزئية، فالفقيه الذي يحكم بأن التدخين بالتنباك في هذا اليوم بمنزلة الحرب ضد الإمام المهدي ( وهي فتوى المرجع الكبير السيد محمد حسن الشيرازي في القرن الثامن عشر ) ينظر إلى حكم كلي، وهو أن كلّ شيء يكون سبباً في إضعاف المسلمين، وكسر شوكتهم، فهو بمنزلة المحاربة له واستعمال التنباك في ظروف خاصة كان بنظر الفقيه الجامع لشرائط الحكم وبحسب رأيه الصائب مصداقاً لذلك، فيحكم بهذا الحكم الولائي باتاً، وإذا ارتفعت العلّة الموجبة له يحكم بجوازه لتبدل موضوعه .


كما أنه وفي موطن آخر يجب أن نُشير أن فقهاء المسلمين بشتى مشاربهم المذهبية قد اتفقوا على أن نظام الحكم في الإسلام يقوم على أربعة أركان :


1.    الحاكمية لله .


2.    للسيادة للشرع .


3.    المراقبة للأمة .


4.    طاعة الحاكم ما دام في طاعة الله .


وعندما نريد إجراء مقاربة بين ما هو سائد من أنظمة سياسية حديثة في الغرب وما تمتلكه من صلاحيات تنفيذية وتشريعية للمرجعية العليا للدولة بغرض مأسسة العمل التنفيذي والتشريعي وبين المرشد في الجمهورية الإسلامية نلحظ ما يلي :


أن النظام السياسي البرلماني الذي ساد منذ القرن السادس عشر حول ثنائية الجهاز التنفيذي بين رئيس الدولة والوزارة قد خضع للمسألة العرفية بشكل مفرط حيث أن رئيس الدولة الذي يُشار إليه بأنه يسود ولا يحكم باعتباره لا يمارس الوظيفة التنفيذية قد احتفظ لنفسه حق تعيين الوزارة وعزلها وحق حل المجلس النيابي المنتخب وأخرى  متعلقة بعمل السلطتين التنفيذية والتشريعية في مسائل الوحدة والتضامن والتجانس والانسجام ومظاهر الرقابة المتبادلة من حق السؤال والاستجواب وحق إجراء التحقيق .


كما أن الصلاحيات التي أُعطيت للنظام الرئاسي قد لا تكون بغربة عن الصلاحيات التي أعطيت للمرشدية في إيران طبقاً للمادة 110 من الدستور فالمرجعية الرئاسية العليا في الأنظمة الغربية المتمثلة في الرئيس هي التي تضع السياسات العامة للدولة وتُشرف على تنفيذها وتُنظم وتُراقب أعمال الإدارات العامة وتتولى القيادة العليا للجيش وتباشر السياسة الخارجية دون أن يكون لوزراء الدولة استقلالية في مواجهتها بل هي التي تُعينهم وتعزلهم ويخضعون لها خضوعاً تاماً ويستمدون سلطاتهم واختصاصاتهم منها وتكون مسئوليتهم عند تنفيذهم للسياسة العامة أمامها وحدها كما أن النظام الرئاسي في حيثية التوازن والرقابة أعطى رئيس الجمهورية حق الاعتراض على القوانين التي يشرعها البرلمان وهو ما يُسمى بحق الاعتراض التوقيفي المؤقت .


وفي الولايات المتحدة الأمريكية فإن طابع الرئاسة قد اتسم بالتباين إلى حد ما مع ما هو سائد في أوربا، فالرئيس الأمريكي من حقه عزل كبار قضاة المحكمة العليا، وهو قائداً أعلى للجيش سواء في زمن السلم أو في زمن الحرب وبهذه الصفة يستطيع الرئيس إدخال القوات المسلحة في عمليات حربية دون أن يسبقها إعلان حرب رسمي من قِبَل الكونغرس وهو ذات الأمر الذي فعله الرئيس روزفلت في الحرب العالمية الثانية وترومان في حرب الكوريتين وجونسون في فيتنام .


بالإضافة إلى كل ذلك يتمتع الرئيس بصلاحيات واسعة جداً تُخوله مصادرة الأشخاص والأموال بحجة الدفاع الوطني، وهو مارأيناه ( ونراه ) جلياً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، كما أنه يستطيع أيضاً عقد اتفاقيات دولية دون الرجوع لمجلس الشيوخ وذلك بصيغة اتفاق تنفيذي Executive Agreement .


وفي مجال القضاء أقرّ الدستور الأمريكي أن للرئيس حق إصدار العفو العام عن الجرائم وله حق إلغاء العقوبة الجنائية أو تخفيضها أو وقف تنفيذها، كما يملك حق العفو الشامل بأن يرفع عن الفعل وصف الجريمة لمن شملهم الإعفاء وهو تخويل نادر جداً في الأنظمة الغربية .


وفي المجال التقنيني خُوِّلَ الرئيس حق التدخل في النشاط التشريعي للكونغرس من ناحيتين :


1.    حقه في أن يقدم توصيات تشريعية من خلال إخطاره للكونغرس بحالة الاتحاد العام من وقت لآخر .


2.    حق الرئيس في استخدام الاعتراض التوقيفي على القوانين التي يقرها الكونغرس .


 أخيراً يمكن الوقوف على دور المرشد ومن خلال تجارب سابقة طرأت على المشهد السياسي الإيراني وما يلعبه دوراً مهمّا في النظام السياسي، ومفتاحاً دستورياً لفرملة ما قد يُؤدي إلى تأزيم الموقف أو تعقيده، فتدخله لحسم مسألة الإغتيالات التي طالت ستة من المثقفين الليبراليين عام 1998 ثم طلبه من السلطة القضائية مراجعة وتخفيف حكم  الإعدام بحق هاشم آغاجري وتدخله في حسم قانون المطبوعات المعدل من قِبَل المجلس التشريعي الخامس كلها أمور يمكن قراءتها لتوصيف واقع مهم لمحورية تلك المرجعية السياسية الإيرانية، رغم أنني على يقين بأن نظرية الحكم الفقهية المعمول بها في الجمهورية الإسلامية تتمتع بالمرونة إلى أقصى حد بغية الموائمة المستمرة مع المستجدات والأحداث الطارئة وهو ما قد يلمسه كل متتبع للشأن الإيراني عن قرب .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع