إن الإنسان الذي يمثل أحياناً مظهراً لأسمى الحقائق الكونية وأبهاها من جهة، يمثل من جهة أخرى أحياناً بؤرة تتبلور فيها القبائح وما لا نظير له من الرذائل أيضاً، فلئن وجدناه في مكان أو زمن ما مظهراً للعمل والمحبة والتفاني أو التعقل والإبداع والتقدم في عرصات الرقي أو آية من آيات الشوق والحماس والأمل، فإننا نجده في مكان وزمان آخر أسير الغفلة والضغينة والأنانية، أو الجهل والخمول والجمود، أو الضعف والإحباط والتشاؤم.
هذا المخلوق المفعم بالمواهب بإمكانه أن يغدو أفضل ما تقلّ الأرض من موجودات، ويمكن أن يتسافل فيصبح أحقرها؛ فهو مزود بأدوات ومقومات السمو والتكامل المعنوي والمادي، حيث جُبلَ مفتوحاً أمامه الخير وسبيل البر، والعقل والقدرة على اتخاذ القرار والاختيار جناحاه القويان، وأنبياء اللَّه هم هداته يرفدونه بالأمل وهم أعوان له، لكنه في نفس الوقت ربما يستسلم لضعفه وهواه وأنانيته أو جهله وغفلته ومغالطاته ليحرم نفسه تلك البشائر والآمال والمعارج، وذاك ما يسعنا أن
نسميه «تقبّل الإنسان للفساد»، وهو ما كان وما يزال يعد الطامة الكبرى والخطر الداهم الذي يهدد البشرية على امتداد حياتها ويهدد كذلك حياة كل واحد من بني البشر.
-الصلاة خير علاج
ولغرض الوقاية وتوفير العلاج لهذه الآفة الكبرى، فقد ألهم الدين الإلهي «الذكر» للإنسان؛ والذكر يعني استذكار الحقيقة، والشعور بالوقوف أمام اللَّه سبحانه، والاستماع له والتسليم له، أي الانعتاق من المشاغل التي تجعل الإنسان أسيراً لوساوس الأهواء أو الجنوح لطلب العظمة والانتقام لمطامعه، أي الانتقال بالنفس من الجحيم الذي أعده بنفسه إلى جنة النقاء والأنس والبهجة والأمان.
والصلاة بتركيبتها المتناسقة التي تجري في القلب وعلى اللسان ومن خلال الحركة هي النموذج والوسيلة الأكثر أصالة وكمالاً للذكر؛ فالإنسان، وإثر ما قد يتعرض له من محن وشدائد ومصائب في حياته الفردية، وما قد يواجهه في حياته الاجتماعية من أحداث تغييرية من قبيل المسيرة العامة نحو الجهاد أو الانفاق أو إعانة الفقراء، قد يزداد قرباً من الذكر، وربما ينأى عنه نتيجة انشغاله بالأهواء النفسية والانغماس باللهو والترف وفسحة العيش، والصلاة هي العنصر الذي يقوي على الاقتراب أكثر فأكثر من جنة «الذكر» في جميع الحالات.
الصلاة هي التي تمنح الإنسان العروج والتوجه والحضور حينما يعيش حالات الاستعداد الروحي؛ وهي التي تقرع عند مسمعه ناقوس الخطر حينما يمر بحالة الغفلة وفقدان الاستعداد، وتقرب به من ذلك الوادي النوراني، لذلك يجب أن لا تترك الصلاة في الأحوال كافة لأنها الجرعة التي تهب القوة والشفاء في الشدة والمحنة، وفي عرصات الجهاد، وحين الفراغ والدعة، بل وحتى في الوسط الملوث بالأوحال الذي يحيط الإنسان نفسه به من خلال أهوائه وأحقاده وشهواته وأنانيته؛ فيجب أن نرتشفها بكل كياننا، وأية محطة منها بلغنا نكون قد اقتربنا خطوة أو مشواراً من جنة الرضوان.
ولهذا لم يأت النداء ب«حيِّ على الجهاد» ولا «حيِّ على الصوم» ولا «حيِّ على الإنفاق»، بل يأتي النداء مكرراً في كل يوم: «حيِّ على الصلاة»!
- عظمة الصلاة
إنّ الصلاة هي الركن الأساس للدِّين ويجب أن تحتلّ المكانة الأساسية في حياة الناس، فالحياة الإنسانية الطيبة في ظلّ الحكم الإلهي تتحقق حينما يبقي الناس قلوبهم حية بذكر اللَّه، ويتمكّنوا بعون من هذه الحالة من مكافحة جميع علل الاندفاع نحو الشرِّ والفساد وتحطيم جميع الأصنام وقطع الأيدي المعتدية لجميع الشياطين الباطنية والظاهرية عن وجودهم، وهذا الذكر وهذا الحضور المستمر بين يدي اللَّه لا يتحقّق إلاّ ببركة الصلاة. فالصلاة في الحقيقة هي السند القوي للإنسان وذخيرته التي لا تنفد في مواجهته التي يخوضها مع شيطان نفسه، التي تجرّه نحو الذلِّ والهاوية، ومع شياطين السلطة الذين يحاولون دفعه نحو الذلِّ والاستسلام بالإكراه والمال.
لا توجد وسيلة أقوى وأدوم من الصلاة لارتباط الإنسان مع اللَّه، فأقّل الناس معرفة يبتدئون علاقاتهم مع اللَّه بواسطة الصلاة، كما أن أبرز أولياء اللَّه يبحثون عن جنة خلوتهم بالحبيب عن طريق الصلاة أيضاً. فهذا الكنز الثمين من الذكر والدعاء لا ينضب أبداً، وكلما اطّلع عليه أكثر، وجد فيه إشعاعاً وتلألؤاً كبيراً، وإنّ كلّ فقرة من كلمات وأذكار الصلاة هي خلاصة تشير إلى جزء من المعارف الدينية، وتذكّر المعارف المصلّي بصورة متكررة ومتتالية.
إن الصلاة تمثل أعظم الفرائض في الميدان الأبدي للبحث عن الحقيقة والذي فُرض على الإنسان بل جبل عليه وأكثرها تأثيراً.
إن الصلاة تمثّل النبع الفوار الذي يفيض بفيوضات كثيرة على قلب وروح المصلّي وتصنع منه إنساناً نقياً متفائلاً ثابت الإرادة والعزم.
وما جاء في القرآن بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ووُصفَ على لسان النبي الخاتم )ص(، بأنها معراج المؤمن وقربان كل تقي، وفي كلمة واحدة إنها عمود الدين ووصفها الرسول بأنها «قرة عيني» يجب أن يحثنا على التأمل والتعمّق في فهم عظمة الصلاة.
- أي صلاة نؤدي؟
طبعاً، يجدر بنا أن نعلم أن الصلاة لا تعني التفوّه ببعض الكلمات وأداء بعض الحركات، فلا تترتب كل هذه الفيوضات والبركات على ايجاد أمواج صوتية وأعمال بدنية دون أن تبعث في هذا البدن روح الذكر والتوجّه وأن يتم بها إسقاط التكليف على الأقل فروح الصلاة هي ذكر اللَّه والخشوع والحضور أمامه، وهذه الكلمات والأفعال التي فرضت على المكلّف بالتعليم الإلهي أفضل إطار لروحه وأقرب الطرق لوصوله إلى المحل المقصود.
فصلاة بلا ذكر وحضور كبدن بلا روح، وإطلاق لفظ الصلاة عليها وإن لم يكن على سبيل المجاز لكن لا ينبغي أن يرتجى منها أثر وخاصية الصلاة أيضاً.
وقد ورد الحديث عن هذه الحقيقة في الآثار الدينية بعنوان «قبول الصلاة» وهكذا ورد أنه (ليس لك من صلاتك إلا ما أقبلت عليه)...
فالصلاة حينما تؤدّى بانتباه وبحضور قلب لا يقتصر تأثيرها على ما تغرسه في قلب المصلّي وروحه، وإنّما يتسع مداها ليملأ الأجواء المحيطة به نوراً وشذى يسري أريجه إلى رحاب البيت والأسرة وإلى محل العمل ومحفل الأصدقاء، وإلى كل ربوع مدينته بل وكل آفاق الحياة.
الصلاة الزاخرة بالخشوع وحضور القلب أول ما تخلق في قلب ذات المصلّي جنّة حقيقية يسري مداها تدريجياً إلى أجواء الحياة وتقود المرء نحو الصلاح والفلاح. وانطلاقاً من هذه الرؤية أضحت الصلاة في كل الأديان الإلهية من أكثر آداب التدين أصالة، ومن أبرز وأوضح وأشمل معالم الإيمان، وجاءت الصلاة في الإسلام كأكمل صلاة وكأجمل صلاة.
كلما ازداد المصلّي ذكراً وخشوعاً، تتبدد من حوله الظلمات، وتزول الأنانية، وتنتهي الأحقاد، ويضمحل الاستبداد، ويتلاشى الشح والبخل ويرتفع العدوان، وينمحي الحسد، ويسطع نور الفلاح على جبين الحياة.
فصلاة بحضور للقلب وتوجّه إلى اللَّه، وصلاة مشحونة بذكر اللَّه، وصلاة يخاطب فيها العبد ربّه، وصلاة تُعلِّم الإنسان دوماً أسمى معارف الإسلام، هي الصلاة التي تُنقذ الإنسان من الضعف والضياع، وتضيء أفق الحياة أمام عينيه، وتمنحه الهمة والإرادة والهدف، وتنقذ قلبه من الميل نحو الانحراف والذلِّ والمعصية.
هذه صفحة لا غير من سفر محاسن الصلاة بإمكانها أن تخلق حافزاً راسخاً وصلباً للقيام بحركة أكثر جدية من ذي قبل، وعلى الجميع الالتزام بهذه الحركة العملاقة الجديرة بأن تسمى جهاداً.
- إحياء الصلاة واجب على الجميع
وما أريد قوله على الرغم من معرفتي القليلة وقلمي القاصر هو: أنّ مجتمعنا وشعبنا ولا سيّما الشباب الذين أخذوا على عاتقهم حالياً حمل أمانة ثقيلة يجب أن يعتبروا الصلاة مصدراً أبديّاً للقوّة والاقتدار، وإنّ صمودنا بوجه الجبهة التي تقف ضدّنا اليوم يجعلنا أكثر من الجميع وأكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى سند قوي من ذكر اللَّه والأمل والثقة به، وإن الصلاة هي ذلك النبع الفيّاض الذي يمنحنا هذا الأمل وهذه الثقة والقدرة المعنوية.
فعلى الآباء والأمهات هداية الأبناء بالقول والعمل نحو الصلاة، وعلى المعلّمين ارشاد طلاب المدارس، والجامعات نحو هذه الحقيقة الساطعة، وعلى الفضلاء والعلماء وأئمة الجماعة المحترمين اغتنام الفرصة لتربية الجيل الجديد، وعلى مؤلفي الكتب الدراسية إدراج أسرار ودروس الصلاة في الكتب. وعلى المعلّمين والمدراء في المدارس والمسؤولين في جميع المراكز الحضور في صفوف الصلاة لتشجيع المصلين عليها، ويجب أداء الصلاة في وقتها في الاجتماعات العلمية والثقافية والتعليمية والتبليغية كمصدر إلهام للصدق والهداية، وعلى الكتّاب وخطباء الإسلام الكتابة والتحدث عن الصلاة وذكر مفهومها وفلسفتها وهدفها وآثارها وبركاتها وأحكامها، وعلى الناس إحياء المساجد بحضورهم في صلوات الجماعة التي هي أفضل كيفية لأداء الصلاة، وعليهم بناء المساجد في الأماكن العامة التي يجتمع فيها الناس عادة، وعلاوة على هذا، على الناس اعتبار كل أرض طاهرة ومناسبة مسجداً عند دخول الوقت والصلاة فيها، وهذه وظيفة كل طبقات الشعب، فيجب على الجميع أن يعملوا بدورهم لتعميم هذه الفريضة الجماعية، وفي هذه الحالة يكون مجتمعنا الإسلامي الذي استطاع إقامة الصلاة مصداقاً للآية الكريمة (الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللَّه عاقبة الأمور).
إن هذه الصلاة موهبة ليس لها بديل ومنبع فيض لا يزول، نستثمرها لإصلاح أنفسنا أوّلاً ومن نحّب ثانياً. وهي بوابة مفتوحة إلى جنة واسعة يسودها الصفاء، وإنه لمن المؤسف أن يقضي الإنسان عمره بجوار هذه الجنة ولا يحاول أن يزورها أو يدعو أحباءه إليها، فقد أبلغ الوحي النبي العظيم (ص)وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها. واليوم اعتبروا هذا الخطاب موجّهاً إليكم، وقدروا أهمية الصلاة، هذه الحقيقة المقدسة والدّر الساطع الذي هو هبة إلهية لأمة محمد (ص)... ولكل منكم سهمه الخاص إزاء هذه الوظيفة.
التعليقات (0)