قال تعالى : (فَبَشِّر عبادِ * الذين يستمعون إلى القولَ فيتبعُونَ أحسنهُ أُولئك الذينَ هداهُمُ الله وأولئك هُم أُولو الألبابِ) (الزمر:17- 18)
معركة عاشوراء هي من أقصر المعارك في التاريخ ابتدأت وانتهت في نصف نهار، إلا أن هذه المعركة القصيرة حُفِظت في ذاكرة الزمن، وأصبحت من أعظم معارك التاريخ تأثيراً في هذه الأرض على الإطلاق، وتؤثر في نفوس الناس، وتحركهم إلى العمل والثورة، وتستدر دموعهم، ويتمنى الملايين في هذا الزمن، لو كانوا في كربلاء، وقاتلوا مع الإمام الحُسين (ع) وقُتلوا معه! فالكلمة التي يرددها المؤمنون دائماً هي (يا ليتنا كنا معكم فنفوز والله فوزاً عظيماً).
ويتساءل المرء: كيف كانت أقصر معركة في التاريخ وأوسعها تأثيراً في الناس؟!!.
لكي نعرف قيمة أي عمل لابد أن نضعه في ظرفه، ووقته المحدد. فالكلمة التي يقولها مؤمن في مواجهة الطاغوت والظلم في زمن الاستسلام والخنوع لهي كلمة عظيمة ومؤثرة، وإن راية يحملها ثائر في زمن الصمت لهي راية مقدسة، وعندها يكون لهذا العمل طعم البطولة.
فالمبادئ والأديان، لابد لها من محرك يفيض عليها الحركة والحياة، ويضمن لها بقائها واستمراريتها ويدفع بعجلاتها نحو الأمام ليسلّمها قوية متينة إلى الأجيال القادمة. ونعني بالمحرك، هو ذلك الموجود النبض بالحرارة الذي يحترق ويقدم نفسه فداءاً وقرباناً، وهذا المحرك يمثله شخص الرسول (ص) وأهل بيته الأطهار (ع)، والإمام الحُسين (ع) ريحانة رسول الله (ص) خير مثال على ذلك المحرك للبشرية الإسلامية وأهل بيته وأصحابه ومن سار في طريقه من شيعته ومحبيه حيث ضحى بنفسه وأعز ما لديه ليفيض على الإسلام الحياة ويضمن له البقاء، لذا فإن الإسلام (محمدي الوجود، علوي الاستقامة، وحُسيني البقاء). ومفتاح هذه الثورة المباركة وبوابة مدرستها التربوية هي الشعائر الحُسينية، فإنها هي التي تهدي الأجيال إلى معرفة الحق من الباطل، وحياة هذه الشعائر الحُسينية هي المجالس الحُسينية.
المجالس الحُسينية وتطورها بين الماضي والحاضر
قال الإمام الصادق (ع): (تلاقوا وتحادثوا العلم، فإن بالحديث تجلى القلوب الرائنة، وبالحديث إحياء أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا) (غوالي اللئالي: ج4 ص67 ح27).
إن إحياء المجالس التي تُعقد في ذكرى وفيات ومواليد الأئمة المعصومين من أهل البيت (ع) ومنها المجالس الحُسينية التي تُقام في شهري محرم وصفر إثر فاجعة الطف، تُعد المصداق الأمثل لإحياء الشعائر التي قال عنها الله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (الحج: 32). وهي بلا شك من الممارسات التي دأب الأئمة (ع) على نشرها وإحياءها وتوارثها المؤمنون جيلاً بعد جيل.
وهذه المجالس تُحظى بأهمية لدى عامة الناس ولها فوائد عظيمة لا يمكن تجاهلها أو تناسيها ورغم الحرب المعلنة عليها فهي قد اتسمت بضيق وتستر نتيجة ما لقيته تلك المجالس من قمع واضطهاد في العصر الأموي والعباسي وأحياناً أخرى اتسمت بالانفراج والأتساع في عصوراً أخرى وبالرغم من كل تلك المواجهات والظروف التي مرت بها إلا أن المجالس حافظت على أصالتها وبقيت تُقام في مواعيدها وأصبحت المساجد والحسينيات مراكز لنشر الوعي الإسلامي، ومؤسسات حضارية قادرة على إعادة بناء وعي الأمة وتنمية إمكانية المسلم. ومن هذه المجالس هي:
المجالس الحُسينية (النسائية):
أخبر رسول الله (ص) ابنته فاطمة(ع) بقتل ولدها الحُسين (ع) وما يجري عليه من المحن فبكت فاطمة (ع) بكاءً شديداً... وقالت: (يا أبتِ فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟)، فقال النبي (ص) : (يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة.. ) (بحار الأنوار: ج44 ب34 ص292).
وحديث الرسول (ص) لابنته الزهراء (ع) لدليل واضح على أهمية إقامة المجالس الحُسينية النسائية، وأول مأتم تكون من السيدات والفتيات العلويات وزوجات وبنات وأخوات الإمام الحُسين (ع)فقد علت صرخة نساء بني هاشم في كل ركن من أركان طف كربلاء بعد مقتل أبي الأحرار (ع)، وهناك مأتم أقيمت أيضاً في وسط الطريق في رحلة سبيهم الشاقة إلى الكوفة ومن ثم إلى الشام وبالرغم من التعذيب الطويل الذي لاقينه من قبل يزيد (لعنه الله) وأتباعه، إلا أن السيدة زينب (ع) ومن معها من بنات الرسالة الفاطميات واصلن إقامة المأتم الحُسيني واتخذت السيدة زينب وأم كلثوم و... من أحراج الجمل منبراً حُسينياً لإعلان المبادئ التي قتل من أجلها الحُسين (ع)بالإضافة إلى نشر فضائل ومظلومية أهل البيت (ع)، وإظهار حقيقة الحُكُم الظالم آنذاك والكثير من المآتم الحُسينية التي أُقيمت في المدينة المنورة بعد رجوع السبايا إليها وتواصلت المآتم الحُسينية النسائية في العهد العباسي والعثماني وفي عصر البويهيين والفاطميين وأصبحت المآتم الحُسينية تسري في الأمة من جيلٍ إلى جيل مسرى الدم في العروق.
وبدأت مجالس التوعية الحُسينية في بداية انطلاقها التوجيهي والفكري ترسم خطاها في قلب المجتمع بمشاركة النساء مع الرجال وبالطبع فقد كان لهذه المجالس الدور الكبير لتوعية المرأة وتوجيهها إلى أمور دينها ونالت بذلك القسط ونالت بذلك قسطاً وفيراً من الإطلاع والمعرفة لأصول الدين وفروعه العقائدية، مما أدى إلى مبادرة المرأة التي تجد في بيتها متسعاً لتحوله إلى مجلس تعزية أو مجلساً لإحياء ذكر مواليد الأئمة (ع) لكسب الخير والبركة وبعضهن يُقِمنَّ المجالس عند العودة من السفر للسلامة أو لقضاء الحوائج أو لطلب النذر أو الشفاء مريض كأن تقول في صميم قلبها (إذا وفقني الله وأعطاني مطلبي أو شفا مريضي بحق محمدٍ وآل محمد لأقيم مجلس عزاء الحُسين (ع)أو مجلس مولود باسمهم (ع)... ). لذا فإن وظيفة المجالس هذه المجالس وظيفة مؤثرة وفعالة حيث أنها غزت النساء بالولاء الحُسيني وأصبحت الجسر الذي يوصل بينهم وبين أهل البيت (ع) وأيضاً غرست المرأة باصطحاب أطفالها معها في تلك المجالس التي تحضرها هذا الولاء للحُسين ولأهل بيته (ع) ومعرفة القرآن وآياته ولاسيما المجالس التي تُقام في أمسيات شهر رمضان المبارك ومعرفة الأحكام الشرعية الإسلامية فلا تعجب من ذلك الشاعر الذي كان يردد ويقول:
لا عذبَ الله أُمي أنها شربت حـــب الــــوصي وغـــذتنـــيـــه بـــاللبن
وكان لي والد يهوى أبا حسن فصرتُ من ذي وذا أهوى أبا حسن
واقع المجالس النسائية (المعاصرة)
مع مرور الأيام وتبدل الأحوال، وتطور الزمن تبدل الناس من حالٍ إلى حال شيئاً فشيئاً وبدأت المجالس الحُسينية تكتسح الساحة الاجتماعية، وأزداد عدد الحُسينيات، إضافة إلى المجالس الحُسينية النسائية التي شغلت حيزاً من الفراغ، ولكن رغم كثرة هذه المجالس وعطاءاتها القيّمة وأهدافها النبيلة إلا أنها بدأت تدخل فيها بعض الأمور السلبية مما يقلل من أهميتها أمام أعين الناس وخصوصاً الجيل الجديد.
وإن كان طابعها العام إحياء المصيبة وتجديد الذكرى للحُسين (ع)، حيث أن بعضهم يهتم بالمظاهر أي بالكم لا بالكيف، وحيث أنها فقدت العامل التوجيهي والفكري والذي يُعّد من ثمرات المجالس الحُسينية والمساهم في أصلاح البُنية الاجتماعية، وسيطرة الجوانب العاطفية على أغلب أطر ومحتوى المجالس مما ساهم على نقص عدد المحاضرات وأصبح مقتصراً على شريحة معينة من النساء الكبيرات في السن وهجرتها شريحة كبيرة من المجتمع كالشابات والفتيات لأنهنّ لا يجدنَّ فيها أي فائدة توجيهية لهنَّ سوى التذكير الروتيني لمصائب أهل البيت (ع) لدرجة أنها أصبحت أنشودة حُفظت عن ظهر قلب لدى النساء وتجسيد الصلة العاطفية بهم دون ربطها بالأمور الفكرية والعقائدية والثقافية وطرح من خلالها الأمور الاجتماعية وكل حلولها موجودة في فكر وأحاديث وخطب أهل البيت (ع)، وفي آيات القرآن الكريم ولكنها تحتاج إلى من يحرك التفكر والتدبر والتعمق عبر تطوير الخطابة التي هي روح المنبر الحُسيني، فالذي يحصل في المجالس الحُسينية النسائية هو سرد قصة الإمام الحُسين (ع)على أنها قصة تاريخية مأساوية لا علاقة لها بحاضر المجتمع ولا ارتباط لها بمشاكل المرأة وهمومها المعاصرة، حيث أن مجتمعاتنا اليوم تعاني من الصغير إلى الكبير الرجال والنساء أشد المعاناة من الأمراض السلوكية والأخلاقية والأمراض النفسية وعُقدها وانتشار الغيبة والنميمة والحسد والأنانية.
بالإضافة إلى واقع الهجرة والتشتت الذي نعيشه اليوم حيث أن كل فرد من المجتمع مُعرَّض للإصابة بالداء الفكري والتي تنقل آثارها لتصيب النساء وذلك ناتج عن استقبالها للثقافات الأجنبية والاستعمارية بشتى أنواعها وأساليبها المرئية وغير المرئية، والتي ساهمت في أبعادها التام عن الثقافة الإسلامية الصحيحة، ولهذا وبدل أن تتجه المرأة نحو السلوك القويم اتجهت بها إلى الانحراف والابتعاد عن الدين والالتصاق بالدنيا وحب المادة وأصبح همها الوحيد الأسواق وملاحقة دور الأزياء والكماليات الزائفة والتي ليس لها ورائها نفع...
وهذا غير الأمراض الاجتماعية التي تعاني منها الكثير من العوائل بسبب التفكك الأسري وعدم التفاهم بين الآباء والأبناء، والظلم والتفرقة والجهل وحب السيطرة و... كل هذه المشاكل بحاجة إلى حلول ينتظرها كل فرد في المجتمع عبر المنبر الحُسيني فهو أحد الوسائل والأساليب الحقيقية والواقعية والجادة في معالجة هذه الأمراض الاجتماعية وذلك من خلال التفكير الجاد في إعداد الخطيبات والقارئات الكفوءات كي تتقدم المرأة ويتقدم فكرها، وبالتالي تتقدم مسيرتها لأن العائلة هي اللبنة الأساسية في المجتمع فكلما كانت هذه اللبنة متينة وسليمة كان المجتمع متيناً وسليماً عبر تراث الإمام الحُسين (ع) وبطولاته ومواقفه وأهدافه فهذا التراث من أعظم وسائل التربية والهداية والصلاح للمرأة وللطفل معاً.. كل ذلك يساهم في متانة العائلة ومن ثم تماسكها وصلاحها حيث قال تعالى : (إن الله لا يُغير ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسِهِم).
كيف نوجه هذا الدور عبر المنظار الحُسيني؟!
وذلك بأن نواظب على إقامة مجالس ذِكر الإمام الحُسين (ع) في كل بيت كلٌ حسب طاقته وإمكاناته، في الأسبوع مرة أو في الشهر مرة أو حسب المناسبات التي تصادف للأئمة الأطهار (ع) خلال أيام السنة وليس فقط في أيام عاشوراء، وأن تشترك الأطفال في مجالس العزاء والوعظ والإرشاد، وأن ندفعهم أن يقيموا هم بطريقتهم مجالس ذكر الحُسين (ع)، ولكن مع المراقبة والتوجيه وان نذكر لهم القصة والواقعة كما حدثت حتى نزرع الحُسين (ع)في قلوبهم وهم صغار قبل أن تغزو الثقافات المُفسِدة تلك القلوب الطرية وتفسدها.
المجالس الحُسينية طريق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (آل عمران: 104).
إن لهذا المبدأ أهمية كبيرة وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُعد من أحد الوسائل الناجعة في القضاء على الاعوجاجات والانحرافات الاجتماعية، فبالدعوة إلى المعروف ويعني الخير وهو يعني بدوره طهارة المجتمع وأجوائه، فلا يعتدي شخص على شخص آخر ولا يظلم القوي الضعيف كما تُصرّح الآية الكريمة بذلك فالمجالس الحُسينية أُولى دعواها هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه هدف من أهدافنا السامية، ولأنه يُعَّد السبب الرئيسي لنهضة الحُسين (ع) الإصلاحية، كما أوضحها في خطبته ووصيته لأخيه محمد بن الحنفية حيث قال : (إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن أبي طالب... ). إذن لابد أن يتقيد كل مجلس أُقيم ويقام من أجل الحُسين (ع) وأهل البيت(ع) فهم كلهم من نور واحد وهدفهم واحد بهذه الوصية والتمسك بهم والاستنارة بهذا المصباح الإلهي (فهو مصباح الهدى وسفينة النجاة) (معالي السبطين: ج1ص86 المجلس 4 إلى طريق الحق).
ولا تكون المجالس فقط من أجل عقد التجمعات لملئ أوقات الفراغ والتسلية وبالذات المجالس النسائية، فعلى من يتولى الإشراف عليها وإدارتها أن يوجهوا النساء المؤمنات الحاضرات في تلك المجالس بالالتزام الكامل لأوامر الشريعة السمحاء واحترامها ومراعاة توصيات أهل البيت(ع) وجميع الأحكام الشرعية كمسألة غض البصر وترك التزين وخصوصاً في أيام عاشوراء ومصائب ووفيات الأئمة (ع)، سواء كان ذلك في الأماكن العامة أو الخاصة، وأيضاً عند زيارة مراقد الأئمة المعصومين وأولادهم (ع)، مع مراعاة الحجاب الإسلامي الكامل، من منطلق أن نحترم حرمة حضورهم لقوله تعالى : (ذلك ومن يعظم حُرمات الله فهو خيرٌ له عند ربه... ) (الحج: 30). وإن ذكر أهل البيت عبادة وذكرهم (ع) يدفع البلاء ويحل المشكلات وتتنزل الملائكة على ذلك المكان ويؤكد حبنا لهم ويربطنا بهم فكلها من فوائد المجالس الحُسينية.
أما وقد حلَّ فينا شهر الحزن والمواساة لآل محمد (ع)، فليس بالكثير على كل بيت وأسرة أن يُظهر حزنه وتفجعه ولو بقميص أسود يرتديه أو راية حداد يرفعها على باب داره أو متجره أو مجلس يقيمه أو كتاب يكتبه أو مقال ينشره أو صورة يرسمها أو قصيدة تبكي الحُسين (ع) وتهدي إلى طريقه، فإن الجميع مظاهر للمواساة وعلامات للمحبة والولاء الذي جعله الله سبحانه أجر الرسالة وجزاء الرسول (ص) حيث قال: (قُل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)، كما شاء سبحانه للإسلام أن يكون حُسيني البقاء، لأن الحُسين (ع) أوسع باب يمكن أن يدخله العالم إلى الإسلام وينقاد إلى فضائله وأحكامه، وقديماً قال أحد زعماء النصارى: (لو كان عندنا مثل الحُسين لنصَّرنا العالم أجمع).
التعليقات (0)