أكمل سماحة الدكتور عبدالله الديهي سلسلة محاضراته الرمضانية ، وذلك في ليلة السابع و العشرين من شهر رمضان ، وقد إبتدأ موضوعه بالآية المباركة من سورة البقرة " مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " ما أروع هذه الآية المباركة علميًا و نحويًا ، وتدل على دلالات عظيمة ، بل وكونيًا ، لمّا تطرّقنا أن معرفة القرآن تاركة تكون للعبارة او بالإشارة ، أو بالحقائق ، هذه الآية تتعرض الى قانون كوني عام ، وهو قانون الإنفاق ، هناك قوانين عامة وهناك قوانين خاصة . الآية المباركة مثلت بحبة القمح ، هل هذا مثل عابر ، أم يُراد منه الكثرة ، أم الكيف ؟ ، ما هي الأسرار الموجودة في هذه الحبّة ، لماذا عبّرت الآية بالذين ينفقون وليس أنفقوا أو سينفقوا ، عماء اللغة النحوية تقول بأن الفعل المضارع يدل على الإستمرار و الدوام ، أي أنهم لا يتوقفون عن الإنفاق في سبيل الله
الأمر الأول ، مسألة الإنفاق قانون عام ، هناك في الكون قوانين عامة و هناك قوانين خاصة ، القوانين الخاصة في علم الأحياء يقولون بأن الأحياء ثلاثة ، الإنسان و النبات و الحيوان ، وهناك قانونٌ يختصّ بالأحياء وهو قانون النّمو ، إما أن يبدأ بذرة أو وسيلة أو تلاقح أو غيره ، والنمو إما نموّ جنيني أو ما بعد الولادة ، القوانين العامة في الكون هو النظام ، لا شيء ، سماءً بحرًا أرضًا إلا وهو يمشي على نظام ، وكل شيء علمه عند الله بمقدار ، " اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ " الذي خلق هدى المخلوق تكوينيًا ، " وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ " هذه الشمس وهذا القمر يمشون على دورة وحسب نظام ، البذرة تبدأ بذرة ثم تنمو ثم ساق ثم فروع ثم أوراق ثم تُثمر ، الإنسان أيضًا يمشي على نظام " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " وهكذا كلّ شيء في الوجود ، من سورة هود " وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ " ، وكل شيء يُنفق ، " وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " ، الحياة كلها إنفاق ، " ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " يجب على الإنسان أن يجري على سكة العدل وهي الإنفاق ، و الإنسان يختلف عن البقية في إختياره في اللإنفاق ، و يجب أن نعتدل في الإنفاق " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا " .
الأمر الثاني ، هذا التعبير الجميل في الآية التي إبتدأنا بها المجلس ، هل أن الله مثّل بهذه الحبّة بكثرتها و ما تُعطي من نتاج ؟ ، أم الكيف ؟ ، الجانب الكيفي هو المراد ، الكم له أثر ولكنّ الكيف هنا هو المُهم ، بالنسبة لهذه الآية انظر اليها بالبصيرة لا بالعبارة والإشارة ، هذه الحبّة تحتوي على المواد الازمة لغذاء الإنسان ، نحن نأكل لنحصل على خمسة أشياء ، النشويات ، السكريات ، البروتينات ، الأأملاح و المعادن ، الفيتامينات التي من وظيفتها حماية الإنسان وتنشيط وظائفه ، لنقسّم الحبة التي وردت في الآية الى ثلاثة أقسام ، حبة داخل الحبة ، تكون عليها سنمبلة ، وتسمّى سنمبلة أي التي تكون حبة مع القشر ، و الحبة مع القشر تسمّى النخالة ، ما قيمة ما في داخل تلك الحبة دون السنبلة ، تحتوي على 80 % من المواد النشوية و 12 % بروتينات ، القشرة تحتوي على أملاح و معادن وفيتامينات ، النخالة ويصنع منه الخبز ، فيها مادة الفوسوفور ، وهي تغذي الدماغ و الأعصاب وتغذي الجانب التناسلي ، و فيها الحديد وهو مهم للدم في حيوته و نشاطه و يعطيه الأوكسجين ، و هناك كالسيون و هو من يبين العظام و يقوّي الأسنان ، اليود الموجود وهو يساعد بتكوين الأنسجة ، و يساعد على العصارات الهاظمة ، و السيليسيوم وهو خاصُّ بالشعر ، و يُحافظ على بريق ولمعان الشعر ، وهناك الصوديوم و البوتاسيوم و الماغنيسيوم ، ومنه من الفوائد ما فيه ، والفيتامينات باختلافها ، كلّ ذلك في هذه الحبّة ، ما نأكله من خبز أبيض خال من ذلك ما عدا النشويات ، من ميزة هذه السنبلة انها تحافظ على هذه الحبة التي داخل ولو بقيت لمئات السنين ما تسوست ، وهذا ما فعله نبي الله يوسف عليه السلام بالمحافظة عليه لمدة سبع سنوات بالسنبلة لكي تبقى .
الأمر الثالث ، هناك استمرارية في الإنفاق ، أي لا ينفق اليوم و غدًا لا ينفق ، لا ينفق على أقربائه و أصدقائه دون غيره ، أن لا ينفق فقط في الرخاء و لا ينفق في الشدة ، أن لا ينفق في حالة الإستقرار النفسي و لا ينفق حينما يعكر نفسه ، أي لا ينفق في اليسر و لا ينفق في العسر ، هؤلاء أهل البيت و الآية نزلت في عليّ ، وهم من ينفقون في الليل و النّهار ، من سورة الحشر " وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " وهكذا مشى على نهجه أبنائه عليهم السلام . أئمتنا يحافظون على ماء وجه السائل لكي لا يرى في نفسه ذلّ السؤال ، من الروايات المروية عن أبي عبد الله الحسين ، لمّا سأله أحدهم ، فأخرج يده من شق الباب حياءً منه وأنشأ يقول " خذها فإني إليك معتذر***واعلمْ بأني عليك ذو شفقه ،،،
لو كان في سيرنا الغداة عصا***أمست سمانا عليك مندفقه ،،، لكن ريب الزمان ذو غِيَرٍ*** والكفّ مني قليلة النفقه ، فأخذها الأعرابي وبكى ، فقال له عليه السلام : لعلك استقللت ما أعطيناك ، قال : لا ، ولكن كيف يأكل التراب جودك .
التعليقات (0)