تحت عنوان " الإعتزال الإيجابي والسلبي في القرآن الكريم " ، ابتدأ سماحة الشيخ ابراهيم الصفا محاضرته في ليلة الخامس من شهر رمضان الكريم لعام 1437 هـ ، بآية من سورة الكهف " وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا " ، القرآن الكريم من خلال هذه الآية المباركة تحدثنا عن فصل من فصول قصة أصحاب الكهف حيث أنهم اختاروا دين التوحيد ووقفوا وقفة صلبة أمام الفساد الديني و العقائدي و السياسي الذي كان قائما في تلك الحقبة ، هذه الآية تحدثنا في جانب أول ، عن تلك الصورة التاريخية لأحداث أصحاب الكهف ، و من جانب آخر عن مفهوم قرآني يلامس حياة الأمة في مختلف منعطفاتها ، الا وهو مفهوم الإعتزال وهو محل حديثنا في هذه الليلة .
الإعتزال تارة يأخذ بعدًا عقائديًا وتارةً بُعدًا سلوكيًا اخلاقيًا ، وتارة بعدًا سياسيًا ، الإعتزال يُطلق ويراد به المقاطعة ، أصحاب الكهف قاطعوا مبدأ ودين وأمة دقيانوس ولاذوا الى رب التوحيد ، عندما نتأمل عن مفاهيم الإعتزال ، نجد في التاريخ الإعتقادي طائفة تسمى بالمعتزلة ، والتي قادها واصل بن عطاء ، الذي كان تلميذًا عند الأشعري ، وكان الأشعري عقائديَا يؤمن أن مُقترف الكبيرة فهو كافر ، أمَا تلميذه - واصل بن عطاء - خالف أستاذه وقال من اقترف ذنبًا كبيرًا فهو ليس بكافر وليس بمؤمن ، فأوجد منطقة وسطية بين الكفر و الإيمان ، هذه العزلة العقائدية جعلتهم يؤطرون بعنوان المعتزلة .
أولًا الإعتزال العقائدي هو من الضرورات الحتمية التي أوجبها الله سبحانه وتعالى على أنبيائه ، عندما تدخل الدعوة الإلهية يكون الإعتزال ضرورة ، و الإعتزال العقائدي لا يعني انها خطوة انبطاحية وتراجع عن القيم والمبادئ ، النبي موسى عليه السلام اعتزل قومه وفرعون ولاذ بالفرار الى مدين وبقي مع شعيب عشر سنين ، ثم عاد مرة اخرى الى ان زلزل عرش فرعون ، النبي إبراهيم عليه السلام هاجر من بابل للشام حفاظًا على الدعوة ، النبي ( ص) أمر أصحابه عندما استحكمت قبضة المشركين بضرورة الإعتزال وأمر البعض بالهجرة الى الحبشة ، ثم أمر بهجرة شاملة ، وأصبحت الهجرة واجبة في الحركة الإسلامية ، وهو ليس جبنًا ولا خوفًا ، ولكنه خوفًا على القيم والمبادئ ، الإعتزال من الأنبياء يُوجدُ سكونَا وهدوءً يسبقُ العاصفة . أصحاب الكهف وقفوا في وجه القوم ، ولكن حفاظًا على دمائهم والدعوة لاذوا الى الكهف ، الإعتزال العقائدي يدخل في دائرة الوجوب في بعض أحواله ، و يراد من الإعتزال المقاطعة و الإسلام يؤسس مفهوم شامل للإعتزال .
ثانيًا الإعتزال السلوكي ، بعض سلوكيات الناس أطّرها الشارع الشريف بعنوان الحُرمة ، وكلُّ سلوك محرّم يجب اعتزاله ، وهو نوع من أنواع الإعتزال الواجب ، ومن مظاهر الإعتزال على مستوى السلوك ، حرمة الجلوس في مجالس الغيبة و الإعتزال فيها واجب ، و يكون الإنسان بين خيارين ، إما أن تكون قادرًا على إقامة مبدأ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إمّا أن تعتزل ،، موطنٌ آخر وهي مجالس الخلوة ، لا ريب أن فقهائنا الأجلاء يذهببون الى أن الخلوة بالمرأة الأجنبية يدخل تحت عنوان الحرمة ، و الخلوة فيها رأيان ، الرأي الأول ما يذهب الى مجرّد وجود رجل وامراة فقط و لا يوجد ثالث بينهما و لا يمكن ان يدخل ثالث عليهما فهذا العنوان يُحقق الخلوة وحرام ، الرأي الآخر ، ليس مجرد وجود امراة ورجل ولا يمكن لثالث أن يدخل بينهم يعدّ خلوة ، بل يتحققّ عنوان الخلوة عندما لا يكونا آمنين من الوقوع في الحرام ، النظر الحرام ، و اللمس الحرام ، هنا وجب اعتزال هذه الأماكن وعدم لكون فيها ، موضع آخر يجب الإعتزال السلوكي فيه هو الإختلاط بين الرجال و النساء وهو من العناوين المحرمة على المستوى الفقهي ، فتارةً يكون محرما وتارة يكون مكروها .
ثالثًا الإعتزال السياسي ، هو من أهم الوسائل المؤثرة في واقع البلدان ، ويؤطّر تحت أداة سلمية ، سواء للانتخابات أو غيرها ، من أجل أن تكون ورقةً ضاغطة ، أصحاب الكهف اعتزلوا دقيانوس في سياسته وعقيدته و سلوكه ، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في ظل الإنقلاب على كلام النبي و قيام السقيفة ، اتخذ عليه السلام وسيلة الإعتزال وجلس في بيته مع خيرة صحابته واعتزل القوم عن المشاركة السياسية ، أئمتنا الأطهار عليهم السلام كانوا طوال فترة وجودهم الى آخر إمام وهو الحجة عجّل الله فرجه الشريف يعيشون حالة الإعتزال عن الأنظمة السياسية المنحرفة ؛ لأن عدم الإعتزال تُحققّ مكسبًا للظالم ، المأمون العباسي هدّد الإمام الرضا بقبول ولاية العهد و الإمام رفض ذلك في بادئ الـأمر ؛ لأنه نظامٌ جائر ، فهُدّد عليه السلام أن يُقتل ، فقبل عليه السلام البيعة بشروط ، أن يوجد بوجود صوري لحفظ اراقة الدماء .
التعليقات (0)