واصل سماحة الشيخ إبراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية وذلك بحسينية الحاج احمد بن خميس في شهر رمضان المبارك لعام 1437 هـ ، و تحت عنوان " الإنسان بين الإخبات الإنساني و الحيواني " ابتدأ سماحته بآيات من سورة الحجّ " وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم " ، القرآن الكريم لا زال يتفجر عطاءً علميًا ولا سيما في مثل هذه الايام المباركة ، وهذا يوصلنا للتأمل الى كثير من الحقائق العميقة والليلة نقف مع هذا النص ، ولا سيما مع قوله " فتخبت له قلوبهم " . ما هو المراد من الإخبات الذي ذكره الله تعالى ؟ ، الآيه تؤكد على ثلاث حقائق ، أن من أراد أن يصل الى مقام القرب من الله عز وجل فهو بحاجة الى العلم ، وثانيا الى الإيمان وثالثا الى الإخبات ، التسليم بان ما جاء في كتاب الله انما هو من عنده يحتاج الى علم ، وهنا تكمن أهمية العلم والمعرفة لبناء البعد العقائدي ، نصل الى مسألة مهمة وهي الإيمان به ، ثم الرتبة الثالثة وهي الأهم " تخبت لهم " .
الإخبات فيه عطاء علمي مهم لاسيما في رحاب هذا الشهر ، وهناك اقوال كثيرة في المقصود منه ، القول الأول : الإخبات بمعنى الإنقطاع لله عز وجل ، وهذا ما اشار اليه العلامة الطباطبائي ، عندما نقل عن استاذه العارف علي القاضي ، يقول : اذا اردنا ان نعرف حقيقة الإخبات المتعرفة عن العلم والإيمان فهي ثمرة من ثمرات العلم ، كان العرب يستعملون الإخبات في حالة تعرّض للبعير ، حين يخبت البعير ، أي حينما يأتي على جسده البرغوث ويمتصّ من دمّه ، يدخل في حالة الاخبات ولا يحرّك رجليه ولا يحرّك ذيله ، ألإخبات حالة من حالات البعير ، استعملت كنايةً ومجازًا في الإخبات الانساني ، ولكن شتات بين اخبات البعير والانسان ، فالحيوان يخبتُ جسدَا والانسان يخبت روحًا ، لا ينبغي لنا أن نخبت اخبات البعير ، في صلاتنا مثلا ، نجد البعض يخبت جسدًا و لو فتشنا في ادراك الباطن لوجدناه بعيدًا ، يكون جسده مقبل و روحه مدبرة ، نحن بحاجة الى الإخبات الانساني . من المناجاة الشعبانية " اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ . " ، العلم يجر الى التسليم .
القول الثاني : أن المراد من الإخبات انما هو الإنجذاب و الإنجذاب على ثلاثة أنحاء ، النحو الأول انجذاب فيزيائي كقوانين الطبيعة ، النحو الثاني هو انجذاب غرائزي وصاحبه غير مسؤول عنه ، كانجذاب الذكر و الانثى والمعنى أعم من البشر ، فالحيوانات والطيور وجميع الانواع التي خلقها الله من جنسين يكون بينها اخبات وانجذاب ، النوع الثالث انجذاب روحي ، وهو انجذاب العبد نحو الله ، وهذا الإنجذاب الذي يعبر عنه بالإخبات ، ويكون وليد المعرفة ؛ لأن الإخبات أو الإنجذاب انما هي حالة عارضة على الانسان ، و الحالة العارضة قد تزول وقد توجد .. قد تضعف وقد تقوى ، الخوف والرهبة حالات عارضةً ، وهي وليدة المعرفة أيضأ . من دعاء الصباح لأمير المؤمنين عليه السلام " مَنْ ذا يَعْرِفُ قَدْرَكَ فَلا يَخافُكَ ، وَ مَن ذا يَعْلَمُ ما اَنْتَ فَلا يَهابُكَ ، اَلَّفْتَ بِقُدْرَتِكَ الْفِرَقَ ، وَ فَلَقْتَ بِلُطْفِكَ الْفَلَقَ ، وَ اَنَرْتَ بِكَرَمِكَ دَياجِي الْغَسَقِ" ، الإنجذاب لله فرع المعرفة . الحب المتوقّد في القلب خلال انسان ننكره ولا نعرفه ليس حبًا ، بل وهمٌ وحماقة ، والبغض لإنسان لا تعرفه أيضًا حماقة ؛ لأن الحب و الكره فرع المعرفة .
القول الثالث : حب الله ، لابدّ أن تهيم قلوبنا في حب الله ، و يستحيل على الإنسان أن يُحيط علمًا بالله ، لأن الإنسان محدود والله سبحانه وتعالى مُطلق ، ولا يُمكن للمحدود أن يُدركَ المطلق ، لابدّ للإنسان أن يصل الى مرحلة التعلّق الوجداني، وهذا الحب لله انما هو فرع معرفة جمال الله وكماله ، كلما زادت معرفة الانسان بالله ، كلما هام قلبه في الله ، ولهذا نجد أن حبّ المعصومين لله ليس حبًا عاديًا ، الحب يصقل الإنسان ، كيف هي محبة الله في قلوبنا ؟ محبة الله لا تنبغي أن تكون ادعاءً بل سلوكًا ، من سورة آل عمران " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم " الحب يولّد عطاءً وحركة وسلوك ، و من تغلغل الحب في قلبه يقوم الليل وينقطع لله ، أمّا الإدعاء الأعمى فمن الحديث القدسي " .كذب من زعم أنه يحبني ، فإذا جنّه الليل نام عنّي ، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه؟ " .
التعليقات (0)