مع إن التاريخ لم يتعرض للجزئيات المتعلقة بحياة السيدة خديجة عليها السلام ، إلا أن ما وصل إلينا يمكن أن يرسم بعض معالم شخصيتها المتميزة والبارزة.
لقد كانت حياتها عليها السلام سلسلة متواصلة من المواقف الريادية التي لم تسبقها إليها اية امرأة معاصرة منذ أن كانت تلّقب في مكة بـ (الطاهرة) ، وإلى أن حضت بشرف الاقتران بسيد الخلق أجمعين ، ولتنال لقب أم المؤمنين ، ثم أكرمتها السماء فجعلتها وعاء لنور الأنوار ، وأم الائمة الأطهار فاطمة الزهراء عليها السلام ، بل لقد حباها الله تعالى فكانت الزوجة الوحيدة التي أنجبت الذرية لسيد البشر وصفوتهم .
كانت السيدة خديجة بنت خويلد من أسرة أصيلة ، لها مكانة وشرف في قريش ، عرفت بالعلم والمعرفة ، والتضحية والفداء ، وحماية الكعبة ، وحينما جاء تبّع - ملك اليمن - ليأخذ الحجر الأسود من المسجد الحرام إلى اليمن ، هبّت قريش ومنهم خويلد لحمايته ومنعه عن ذلك .
وكان أسد بن عبد العزى - جد خديجة - من البارزين في حلف الفضول الذي تداعت له قبائل من قريش ، وكان ورقة بن نوفل - ابن عم خديجة - أحد الأربعة الذين رفضوا عبادة الأوثان ، وبحثوا عن الدين الحق وكانوا من الأحناف ، يدينون لله على ملة إبراهيم .
إذن كانت السيدة خديجة من أسرة عريقة ، وكان ذووها على دين إبراهيم عليه السلام ، وممن ينتظرون ظهور الدين الجديد. وقد اجتمع للسيدة خديجة عليها السلام - إضافة إلى النسب العريق - الأخلاق الفاضلة ، والذكر الطيب ، وبلغ من علوّ شأنها أنها كانت تلقب بسيدة نساء قريش إضافة إلى لقب الطاهرة .
سيدة أعمال مكة
إن أول السمات الريادية البارزة في حياة السيدة خديجة عليها السلام والتي تكشف عن روحها الكبيرة ، وهمتها العالية ، وحريتها واستقلالها ، أنها عندما ورثت أموالا طائلة من أبيها .
لم تترك هذه الأموال راكدة ، ولم ترابِ بها في زمن كان الربا رائجا ، وإنما استثمرت هذه الأموال في التجارة ، واستخدمت رجالا صالحين لهذا الغرض ، واستطاعت أن تكسب عن طريق التجارة ثروة ضخمة حتى قيل إن لها أكثر من ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان ، وكان لها في كل ناحية تجارة ، وفي كل بلد مال ، مثل مصر والحبشة إضافة إلى رحلتي التجارة إلى الشام واليمن .
ولا بد من القول إن إدارة تجارة واسعة في ذلك المجتمع الجاهلي لم يكن أمرا سهلا ؛ حيث كانت المرأة محرومة من جميع حقوقها الاجتماعية ، فلا بد أن التي تقوم بهذا العمل الرائد تتميز بنبوغ متفوق ، وشخصية شامخة قوية ، وخبرة بشؤون الحياة كافية لأن تؤهلها لإدارة تلك التجارة العظيمة كأفضل الرجال رشدا وعقلا .
الاقتران النبيل
لقد كان من نبوغ السيدة خديجة عليها السلام ، وحدة ذكائها ونظرتها البعيدة أنها أدركت عظمة شخصية الرسول صلى الله عليه وآله ، وسمو أخلاقه ومستقبله الزاهر قبل تكليفه برسالة السماء ، والتاريخ يروي لنا أنها سمعت من العلماء والأحبار أن محمدا نبي آخر الزمان فتعلق قلبها به ، ولعلها كانت تهدف من وراء اختيارها له ليكون مضاربا لها في تجارتها ، وإرسال غلامها ميسرة معه أن تختبر سلوكه عن كثب ، فنقل لها ميسرة ما جعلها تزداد به إعجابا وقناعة ووجدت فيه الشخص الكامل ، والزوج العظيم المثالي ، والرجل القوي ، والروح الشفافة التي اختارتها السماء لتنجي العالم من وحل الجاهلية ، ومستنقع التخلف والتعاسة ؛ لذلك رفضت كل من تقدم لخطبتها من الرجال المرموقين ، والأشراف الأثرياء ؛ لأنها لم تجد في أحدهم كفئا لها وهذا دليل على أنها لم تتزوج برجل قبله بل كانت بكرا عذراء .
لقد رضيت بالزواج من محمد صلى الله عليه وآله الفقير اليتيم ، بل هي التي تقدمت وعرضت نفسها ورغبت في الاقتران به ، على الرغم الفرق الشاسع بين حياتها المادية وحياته البسيطة ، واقترحت أن يكون المهر من مالها .
لقد شاء الله تعالى أن يتعلق قلب السيدة خديجة بفتى بني هاشم بعد ان انبهرت بشخصيته المفعمة بالفضائل ، والاستقامة ، والخلق القويم ، والانقطاع إلى عبادة الله تعالى ، وبالروح الإنسانية التي يحملها بين جنباته ، الطافحة بالإيمان وحب الآخرين والتفاني في إسعادهم ، فهو الرجل المنحدر من أرفع بيوت العرب شأنا ، وأعلاها مجدا ، اصطفته يد القدرة الإلهية ، وأهّلته لحمل الرسالة الخاتمة ، وتبليغها ؛ فأحاطته بعناية خاصة وفق مخطط يتناسب مع عظيم المسؤولية التي تنتظره .
مثل هذا الشخص العظيم لا بد أن يفكر بالاقتران بامرأة ، ترتفع إلى مستوى حياته ، بما سوف يكتنفها في المستقبل من جهاد وصبر ، امرأة مستعدة لبذل كل غالٍ ونفيس في سبيل الأهداف السامية التي يسعى لتحقيقها ، وتكون جديرة بمشاركته رحلة الدعوة بما يكتنفها من مشاكل وعقبات ، فقيّض الله له السيدة الطاهرة ، والمرأة العاقلة ، اللبيبة ، الفاضلة ، الحنون، الثرية ، سيدة مكة الأولى .
إن قصة زواج السيدة خديجة عليها السلام من رسول الله تعتبر منعطفا مهما في حياتها ، ونقطة لامعة في تأريخها المشرف ، ودليلا واضحا على ما كانت عليه من روح الاستقلال والاعتماد على النفس ، والحرية ، والنَفَس الريادي ، والقدرة على اتخاذ القرار دون الالتفات إلى الموروث القيَمي للمجتمع الذي كانت تعيش فيه ؛ لذا لم يكن اقترانها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله يشبه الزواج المتعارف بين الناس ، ولا بين الخاصة من علية القوم ، بل يعتبر هذا الزواج النموذج الوحيد من نوعه في الجزيرة العربية ، وخاصة بين قريش ، إذ كان ذلك القران الميمون المبارك خال من كل الدوافع ، لقد كان زواجا أنفسيا من الطراز الأول .
ولم تكتف السيدة خديجة عليها السلام باختيار الرجل المناسب ليكون زوجا لها ، بل ينقل لنا التاريخ أنها المبادرة بالخطوة الأولى ؛ حيث بعثت إلى محمد صلى الله عليه وآله ، فقالت له : ( يا ابن العم ، قد رغبت فيك لقرابتك مني ، وشرفك في قومك ووسطك فيهم ، وأمانتك عندهم ، وحسن خلقك ، وصدق حديثك ) .
وفي رواية إنها عليها السلام وسَّطت أختها هالة فكلمت عمار بن ياسر وكان صديقا مقربا للنبي صلى الله عليه وآله فكلم النبي الذي تقدم لخطبتها مع نفر من أعمامه ، ولما خطب أبو طالب عليه السلام الخطبة المعروفة ، وعقد النكاح ، قام صلى الله عليه وآله ليذهب مع عمه أبي طالب ، فقالت خديجة عليها السلام : ( إلى بيتك ، فبيتي بيتك وأنا جاريتك ) .
في بيت الزوجية
بعد ان تمَّ الزواج المبارك انتقل النبي صلى الله عليه وآله إلى دار خديجة عليها السلام ، تلك الدار التي يعبق عطر الرسالة من جنباتها ، والتي ظلّت معلما شاخصا ولسانا ناطقا يحكي أحداث الدعوة وجهاد الأسرة المحمدية وصبرها ومعاناتها .
لقد اجتمع شمل محمد وخديجة عليهما السلام ليؤسسا بيتا مبنيا على مبادئ رائدة ، بيت يغمره الحب والسعادة والحنان والدفء العائلي والتفاهم .
أول بيت في الإسلام
وبعد البعثة استمرت السيدة خديجة عليها السلام في مواقفها الرائدة ؛ لقد كانت تملك من الذكاء والبصيرة ما جعلها تشخّص الحق وتؤمن به ، وكانت تملك من القوة والإرادة ما جعلها تعلن إيمانها لتكون بذلك أول من آمن من النساء برسالة الإسلام ، وبذلت كل ما بوسعها من أجل أهدافه المقدسة ، وجعلت ثروتها بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وقالت : " جميع ما أملك بين يديك وفي حكمك ، اصرفه كيف تشاء في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه " .
وفي بيتها تأسست أول أسرة في الإسلام من لبنات ثلاث : محمد ، وخديجة ، وعلي ، قال أمير المؤمنين : ( ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما ) ، وكانت هذه الأسرة المقدسة تصلي بفناء الكعبة على مرأى من قريش حيث يقول العباس بن عبد المطلب لأحد السائلين المستغربين : ( والله ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة ) .
وتحملت السيدة خديجة مع رسول الله عذاب قريش ، ومقاطعتها ، وكانت تؤازره على أمره ، وتخفف عنه ، وتهون عليه أمر الناس ، وكان لا يسمع شيئا يكرهه من ردٍ عليه ، وتكذيبٍ له فيحزنه ذلك ، إلا فرج الله ذلك عنه بها إذا رجع إليها ، وكان صلى الله عليه وآله يسكن إليها ، ويشاورها في المهم من أموره وكانت له وزير صدق .
كان هذا الإخلاص الفريد ، والإيمان الصادق ، والحب المخلص من السيدة خديجة عليها السلام حريا أن يقابله النبي صلى الله عليه وآله بما يستحق من حب وإخلاص وتكريم لم يفارق قلبه الكريم حتى بعد مفارقتها الحياة ؛ وقد جاء على لسانه الشريف المزيد من الثناء عليها ؛ فذكر فضائلها وعبّر عن عمق محبته لها ، فيروى عنه صلى الله عليه وآله أنه قال : " ........ وخير نساء أمتي خديجة بنت خويلد " ، وقال صلى الله عليه وآله : " يا خديجة .......إن الله - عز وجل - ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا " .
ان السيدة خديجة لتستحق كل هذا التقدير والاحترام من رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن بلغت المقام السامي عند الله تعالى حتى حباها بان جعلها من أفضل نساء الجنة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " افضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " .
السيدة خديجة عليها السلام قدوة ومثل أعلى
الكثير من الدروس يمكن استخلاصها من سيرة السيدة خديجة عليها السلام ، ومواقفها الرائدة تصلح لأن يقتدي بها النساء عبر الأجيال ؛ فالسيدة الثرية التي كانت تملك ثروة طائلة ، وتدير تجارة عظيمة لم تغرها زبارج الدنيا وزينتها ، ولم تبحث عن اللذة لأجل اللذة ، ولا عن المال والشهرة ، وإنما كانت تبحث عمن يخدم هدفها الأسمى في الحياة ؛ فرفضت الاقتران بأصحاب المال والجاه ، واقترنت برجل فقير لا مال له ، وبادرت هي بعرض نفسها عليه ، وتحملت سخرية نساء قريش، وانتقادهن اللاذع لها ، ثم حملت معه مشعل الإسلام لتنير للبشرية دربها المظلم .
نعم كانت امرأة رسالية ورائدة لم يعهد مثلها إلا القليل من صانعي التاريخ ، صبرت وضحت من أجل مبادئها ، وكانت الزوجة ، والسكن ، والمعين ، والناصر ، والوزير لصاحب أعظم رسالة في تاريخ البشرية حتى عُدّ نصرها له أحد الدعائم التي قام عليها الإسلام .
المصادر :
أعلام الهدايا عن المجمع العلمي لأهل البيت
أم المؤمنين خديجة الطاهرة للحاج حسين الشاكري
جلال المرأة وجلالها للشيخ جوادي آملي
أعلام النساء المؤمنات للسيد محمد الحسون وأم علي مشكور
المصدر: موقع العتبة الحسينية المقدسة
التعليقات (0)