أسمى الأعمال الإنسانية تلك التي لا تنتظر مقابلاً لها، بل تنبع من القلب ومن رغبةٍ لدى الإنسان في العطاء والتضحية... العمل التطوعي مثال حيٌّ على هذه الأعمال وهو ميدان تتعدد أشكاله ليدخل في جميع ميادين الحياة: في الاجتماعي، الصحي، البيئي، التربوي، السياسي، العسكري، وغير ذلك، وفي هذا العمل المجاني ينطلق الإنسان المتطوع من إحساسٍ بالمسؤولية تجاه من وما حوله: تجاه محيطه الإنساني وتجاه محيطه المكاني ومع اتساع رقعته لتشمل كل ميادين الحياة وتظهر أرقى أشكال التكامل البشري.
التطوع كما اتفق عليه دولياً هو تخصيص بعض من وقت الإنسان الخاص من أجل عمل عام عبر التزام ليس بالوظيفي إنما هو التزام أدبي وهو أيضاً تنافس شريف من أجل خدمة أهداف إنسانية ومجتمعية. دوافع العمل التطوعي متعددة أهمها الدافع الديني الذي ينبع من احساس الإنسان المتدين بالواجب تجاه مجتمعه في أشكاله المتعددة وتجاه البيئة التي تحيط به والتي هي هبة من اللَّه سبحانه وتعالى، ومن الواجب المحافظة عليها وكل هذا ارضاءً لوجهه الكريم وطمعاً في ثوابه العظيم.
ميادين العمل التطوعي
أبرز ميادين التطوع هو الميدان الاجتماعي فقد ارتكز العمل التطوعي منذ بداياته على فكرة الخير والأعمال الخيرية وذلك امتداداً للمشاعر الدينية التي عاشها الإنسان، فمساعدة الفقراء والمحتاجين وتلبية حاجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن كانت الأهداف الأولى للمتطوعين في هذا الميدان.
ومن الميدان الاجتماعي انطلق العمل التطوعي إلى ميدان آخر لا يقل أهمية وهو الميدان الصحي في محاولة لتأمين الرعاية الصحية الأوّلية لهؤلاء المحتاجين فتطوع الأطباءِ والممرضين والمسعفين للتخفيف من آلام هؤلاء المرضى، وفي هذا الميدان يبرز دور كبير لما يسمى الدفاع المدني هذا الجهاز الذي تظهر أهميته في حالات الطوارىء والخطر، والعاملون فيه يجب أن يتمتعوا كما يقول الحاج حمدان مسؤول جهاز المتطوعين في الدفاع المدني في الهيئة الصحية الإسلامية بمواصفات خاصة: بنية قوية، طول يفوق 168 سنتم، شجاعة وإقدام...
وإذا سرنا قدماً في ميادين التطوع نصل إلى الميدان التربوي التعليمي فبعد تأمين الحاجيات الأساسية للإنسان والتي تكفل استمرار حياته كالغذاء والدواء تبرز أهمية المساهمة في بناء فكر هؤلاء المحتاجين وذلك عبر فتح آفاق العلم والمعرفة أمامهم، وهنا يأتي دور العاملين في الحقل التربوي والطلاب الذين يتطوع البعض منهم لتعليم الأطفال والتلامذة أو الكبار عبر دروس محو الأمية ومثال على ذلك ما يقوم به مجموعة من المتطوعين العرب والأجانب في المخيمات الفلسطينية وما يقوم به الطلاب الجامعيون أثناء فترة الامتحانات الرسمية عندما يتطوعون لاعطاء دروس التقوية للتلامذة الخاضعين لهذه الامتحانات.
ميدان العمل البيئي عنوان آخر للتطوع وقد نشط كثيراً خلال السنوات الأخيرة نظراً لتفاقم المشاكل البيئية التي باتت تهدد العالم بكوارث خطيرة وفي هذا الميدان ينطلق المتطوعون من إحساس بالمسؤولية تجاه الكرة الأرضية التي نعيش عليها في محاولة لحفظ ثرواتها الطبيعية التي تكفل استمرار الحياة عليها. وهنا تنشط حملات التوعية البيئية لتعريف المجتمع بالطرق البسيطة والسلمية والتي تنطلق من المنزل للتخفيف مثلاً من كمية النفايات أو بعملية المساهمة في تدوير هذه النفايات، كما تنشط حملات تنظيف الشواطىء والمحافظة على المحميات الطبيعية...
مجال آخر وليس أخيراً في العمل التطوعي لا يقل أهمية عن كل المجالات السابقة الذكر، بل هو أهمها وهو مجال الدفاع عن حق الإنسان في حياة كريمة في أرضه ووطنه وحمايته من أي استغلال أو احتلال أو عدوان قد يهدد سلامته وسلامة أرضه وبيته ومستقبله، وأبرز مثال هنا هم المتطوعون الشباب في المقاومة الإسلامية الذين كانوا وما زالوا يتركون أعمالهم وجامعاتهم للالتحاق بركب المجاهدين المتفرغين ليكونوا شركاء في هذا الشرف، شرف الدفاع عن الأرض والمقدسات وهنا يصل حدود العطاء والتضحية إلى أسمى الدرجات، إلى بذل النفس شاهدة وشهيدة في سبيل هذه القضية...
آثار العمل التطوعي
بعد الحديث عن الميادين المتعددة والأشكال المتنوعة للأعمال التطوعية لا بد من الوقوف عند الآثار الإيجابية التي يحصِّلها المتطوع عند بذل عطائه في ميدان ما.
ولهذا السبب كان لنا لقاء مع أخصائي علم النفس العيادي توفيق سلوم الذي أشار إلى جملة من هذه الآثار فعلى المستوى النفسي: المتطوع يقدِّم جزءاً من جهده ووقته وأحياناً ماله في مقابل تقدم الآخرين واستفادة هؤلاء الآخرين تشكل بالنسبة إليه مصدر راحة نفسية فيما على العكس العمل غير التطوعي )القصري والوظيفي( يحصل فيه الرضا النفسي لدى الشخص القائم به بمقدار ما يحصل هو نفسه على المنفعة الناتجة عن هذا العمل، وإضافة إلى الرضا النفسي، والرضا عن الذات يرفع العمل التطوعي مستوى الدافعية للعمل ويزيد من حماسة المتطوع كلما رأى الآثار الايجابية والتطور الملحوظ لدى من يتطوع للعمل من أجلهم.
وفي جانب آخر يخفف العمل التطوعي لدى المتطوع نفسه من النظرة العدائية أو التشاؤمية تجاه الآخرين والحياة ويمده باحساس وشعور قوي بالأمل والتفاؤل...
كما أن التطوع يهذب الشخصيَّة ويرفع عنها عقلية الشح ويحولها إلى عقلية الوفرة مصداقاً للآية الكريمة »ومن يوقَ شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون« ففي العمل الوظيفي يتحدد العمل بقدر ما يحصِّل العامل من مال ومنفعة ذاتية مادية بينما في العمل التطوعي لا حدود للعطاء«.
إضافة إلى كل هذه الآثار الايجابية هناك الجزاء الأخروي الذي وعد اللَّه سبحانه وتعالى »الذين يسارعون في الخيرات«.
أما على المستوى الاجتماعي، فالعمل التطوعي يزيد من قدرة الإنسان على التفاعل والتواصل مع الآخرين كما يحد من النزوع إلى الفردية وينمي الحس الاجتماعي لدى الفرد المتطوع ويساهم في جعل المجتمع أكثر اطمئناناً وأكثر ثقة بأبنائه كما يخفف من الشعور باليأس والإحباط ويحد من النزعة المادية لدى أفراده. ويجعل القيمة الأساسية في التواصل والانتاج والرضا الذاتي المتصل برضا اللَّه سبحانه وتعالى.
وأخيراً يمكن القول كخلاصة بأن التطوع يتيح للإنسان تعلم مهارات جديدة أو تحسين مهارات يمتلكها أصلاً كما يمكِّنه من اختيار حقل قد يختار فيما بعد التخصص فيه، كذلك يتيح للإنسان التعرف عن كثب على مجتمعه والتَّماس مع قضاياه والتعرف على أناس يختلفون عنه في السن والقدرات والخبرات مما يؤدي إلى تبادل هذه الخبرات كما يساعد على إنشاء صداقات جديدة وتنمية الثقة بالنفس... وباختصار أخيراً العمل التطوعي يشعر الإنسان بقدرته على إحداث تغيير ما.
التعليقات (0)