بقلم / سميح صالح
كثيرون هم من يتحسّرون وهم يرون أننا نقف في السنة وقفتين مع كل معصوم من المعصومين(ع)، وقفة فرح وتبريك يوم ميلاده ووقفة حزن وتعزية يوم شهادته، إلا إمام معصوم واحد هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) لا نقف معه إلا يوم شهادته في الخامس والعشرين من رجب فنبكيه ونعزي محمدا وآله الأكرمين به! ولا نقف معه في يوم آخر لنحتفي بميلاده أبدا طيلة السنة! لماذا ؟ لأن يوم ميلاده هو السابع من شهر صفر! ولشهر صفر مصائب مؤلمة وحزينة في قلوب المحبين لمحمد وآل محمد! ولليوم السابع منه حزن خاص لكونه يوم شهادة الإمام الحسن المجتبى(ع)! فكيف يكون احتفال وسط هذا الحزن والمصاب؟!
كثيرون من يتحسّرون وقد يقول بعضهم في نفسه ألا يوجد رواية أخرى لمولده الشريف غير رواية صفر هذه، فيُحتفل بالإمام الكاظم(ع) فيها فيكون بذلك في هذا الشأن كباقي آبائه وأبنائه المعصومين، ونكون بذلك مصداق الحديث الشريف: ( شيعتنا منا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا).
ألا يوجد رواية أخرى لتكون أكثر مناسبة للإحياء حتى لو كانت أقل وجاهة، فمعظم المعصومين(ع) بل كل واحد منهم وردت بشأنه أكثر من رواية إما في تاريخ ميلاده أو استشهاده أو كليهما معا، بغض النظر عن صحة الرواية وقوتها وشهرتها، إلا أنه قد اعتمدت بعد ذلك رواية على أخرى، بل ربما اختلف في تلك الرواية المعتمدة من بلد لآخر ولا مشكلة في ذلك إذ أن الهدف هو الإحياء لا تاريخ الإحياء في حد ذاته!!
فالإمام الرضا(ع) على سبيل المثال ورد أن ولادته كانت في يوم 11ذي القعدة وورد أنها في 11ذي الحجة وأما شهادته ففي 17و27و29 من صفر و23من ذي القعدة بل وشهر رمضان! وابنه الإمام الجواد(ع) ورد أن ولادته في 10رجب و15و17شهر رمضان وشهادته في 11و30 ذي القعدة! فيما ورد في مولد الإمام الهادي(ع) 2و5و13رجب و15ذي الحجة! وفيما ورد في مولد الحسن العسكري(ع)10 ربيع الأول و22ربيع الثاني وشهر رمضان! بل وفي ولادة الإمام الحسين(ع) أنها في3و5شعبان و30ربيع الآخر و13و17شهر رمضان!
وليس أوضح ما جاء من الروايات المختلفة ما جاء في تاريخ شهادة السيدة الصديقة فاطمة الزهراء(ع) أنها في 8ربيع الثاني و13و15جمادى الأولى و21رجب و3 شهر رمضان! ومعلوم أن ذكرى شهادتها يتم إحياؤها على أكثر من رواية وتاريخ..
على أنه ومن أعجب عجيب اختلاف الروايات أن يرى بعضهم أن رواية ولادة أمير المؤمنين(ع) في 13رجب رواية ضعيفة فيقدّمون عليها رواية 7شعبان أو 22شهر رمضان! فيما ترد روايات ليلة ضربة ابن ملجم بالسيف لرأسه الشريف وهو يصلي أنها في 19و17و21و23شهر رمضان! والأعجب من هذه الروايات أن يرى عالم كالكليني أن مولد رسول الله(ص) ليس كالمشهور في 17ربيع الأول ولا شهادته في 28صفر! بل هما معا (الميلاد والاستشهاد) في نفس اليوم 12ربيع الأول!!
ولسنا بصدد استعراض جميع الروايات المختلفة المتعلقة بكل معصوم، ومن أراد الاطلاع فليقرأ مثالا كتاب(الوسيلة إلى تحصيل الأماني في ضبط أيام التعازي والتهاني) للعلامة البحراني أوفليبحث في مصادر المعرفة المختلفة.
على أن سؤالنا الأهم هنا هو: ماذا عن الإمام موسى الكاظم(ع) ؟! ألا توجد رواية بشأن مولده غير رواية السابع من صفر (التي تم التسليم بها رغم عدم ورودها كنص روائي بل مجرد تحديدها التاريخ فقط)..
بلى !! يوجد !! ولنقرأ هاتين الروايتين بنصّيهما!!
رواية تقول:(عن أبي بصير قال: حججنا مع أبي عبد الله في السّنة التي ولد فيها ابنه موسى(ع)، فلمّا نزل الأبواء، وضع لنا الغداء وكان إذا وضع الطعام لأصحابه أكثره وأطابه، قال: فبينا نحن نأكل إذ أتاه رسول حميدة فقال: إنّ حميدة تقول لك: إني قد أنكرت نفسي وقد وجدت ما كنت أجد إذا حضرتني ولادتي وقد أمرتني أن لا أسبقك بابني هذا. قال: فقام أبو عبد الله(ع) فانطلق مع الرسول، فلمّا انصرف قال له أصحابه: سرّك الله وجعلنا فداك ما صنعت حميدة؟ قال: قد سلّمها الله، ووهب لي غلاماً، وهو خير من برأ الله في خلقه). وقد وردت هذه الرواية في جملة من المصادر منها(الكافي 1: 385/1، المحاسن: 314/32، حلية الأبرار 3: 233/1، عيون المعجزات: 95 - 96 روى مختصراً، البحار 15: 297/36 و 48: 3/3، العوالم 21: 20/2)
ورواية أخرى تعززها: (عن منهال القصّاب قال: خرجت من مكّة وأنا أُريد المدينة، فمررت بالأبواء وقد ولد لأبي عبد الله(ع) فسبقته إلى المدينة، ودخل بعدي بيوم فأطعم الناس ثلاثاً، فكنت آكل فيمن يأكل، فما آكل شيئاً إلى الغد حتّى أعود فآكل فمكثت بذلك ثلاثاً أطعم حتّى أرتفق ثمّ لا أطعم شيئاً إلى الغد). وقد وردت في (المحاسن 2: 192/1556، الوسائل 21: 401/27409، البحار 48: 4/4 و 104: 115/38، العوالم 21: 22/3)
وإذاً فنحن أمام فريقين وروايتين أولاهما وهي الأكثر شهرة لدينا تقول في صفر والأخرى في ذي الحجة! ولنا الآن أن نمحّص ونقارن ونرجّح، فكيف؟
كل من أورد حادثة الولادة الشريفة للإمام موسى بن جعفر(ع) سواء من ذهب إلى أنها في شهر صفر أو من ذهب إلى أنها في شهر ذي الحجة اتفقوا في مكان وقوعها رغم اختلافهم في زمانها. فقد أجمع الكل أن ولادة الإمام موسى بن جعفر(ع) كانت في المنطقة التي شرّفها الله من قبل بقبر السيدة الطاهرة آمنة بنت وهب أم الرسول الأعظم(ص) وهي منطقة الأبواء، ولم يخرج عن ذلك أحد بمن فيهم من اعتمد على أن مولده الشريف كان في السابع من صفر.
ولنا أن نتساءل: أليست الأبواء منزلا بين مكة والمدينة ينزل فيها الحاج والمعتمر؟! فإن نزلها الإمام جعفر الصادق(ع) معتمرا كان علينا استبعاد رواية ذي الحجة وتقديم رواية السابع من صفر أو أي رواية أخرى - إن وجدت - لأي شهر كان ما عدا شهر ذي الحجة! لأنه وببساطة لا تكون عمرة في شهر الحج! وأما إن كان الإمام جعفر الصادق(ع) نزلها حاجّا فالأولى قطعا أن تكون في شهر ذي الحجة!! والحال هو ذلك بصريح الرواية: (حججنا مع أبي عبدالله....) !! ولو أننا افترضنا رغم ذلك أن الولادة في صفر بعد حج الإمام الصادق (ع) فإن ذلك سيعني أن الإمام قصد الحج من أواخر ذي القعدة فأتبعه بذي الحجة فمحرم وأياما من صفر!! وليس ذلك هو الأولى أيضا!!
ولو افترضنا ذلك أيضا وقضى الإمام كل تلك الأيام بمكة المكرمة فأطال فكيف يقضيها الآخرون من الحجيج؟! ولأي علة؟! وإن سلّمنا بأنهم قضوها بصحبة الإمام وفي رحله وركبه كأمثال أبي بصير رواي الحديث!! فما بال الآخرون ليقضوا كل ذلك الوقت وهم ليسوا في رفقة الإمام ولا ركبه كمنهال القصاب الذي كان لاحقا للإمام في نزوله الأبواء وما نزلها إلا بعد الولادة الشريفة ثم سابقا إياه في وصوله المدينة المنورة وقد وصل قبله بيوم !!
والحاصل أن كل تلك الأمور تشير بوضوح بالغ لولادة الإمام أنها في ذي الحجة لا في صفر!!
خاصة ـ وبالمقابل ـ في ظل غياب نص روائي صريح بحدوثها في صفر!! فلا نص صريح!! ولا تفسير واضح!! ولا مرجِّح عقلي!!
ولنا بعد ذلك أن نسأل مستفهمين: في أي يوم من شهر ذي الحجة كانت الولادة الشريفة؟
والحق أنه لا توجد هنا رواية واحدة تحدد بالدقة هذا اليوم، فقد قال بعضهم أن الولادة كانت في العشر الأواخر من الشهر، فأصابوا المدة الزمنية وأخطؤوا التحديد، فيما حدد آخرون وقالوا اليوم الرابع والعشرين من ذي الحجة، وما أظنهم إلا أنهم قاسوا على المدة التي يقضيها عادة المسافرون من مكة إلى المدينة وهي ذاتها التي قضاها الرسول الأعظم(ص) في هجرته من مكة للمدينة اثنا عشر يوماً فأضافوها ليوم انتهاء الحجّاج من مناسكهم بمكة فمغادرتها في الثاني عشر أو الثالث عشر من ذي الحجة فكانت النتيجة الرابع والعشرون! وليس ذلك من الصحة في القياس بشيء إذ لو أخذنا به لكان الإمام الصادق حينها على مشارف المدينة المنورة أو غالبا بالمنزل الأخير الذي يسبقها ولكانت الولادة بأحدهما وليس بالأبواء!! وهذا ما لا يقوله أحد أبدا!!
هذا وقد ذهب آخرون أن يوم العشرين من شهر ذي الحجة هو يوم الولادة المباركة فجعلوه يوم احتفال بميلاده للميمون، وظنّي بهم الصواب فيما ذهبوا إليه بل أكاد أجزم بذلك، ولي في ذلك ما يسكن له الفؤاد ويطمئن به العقل.
ومفتاحنا في كل ذلك أمور ثلاثة، أولها يوم انقضاء مناسك الحج فمغادرة الحجيج مكة، وثانيها المدة التي يقضيها المسافر من مكة للمدينة، وثالثها الأبواء مكان ولادته الشريفة.
فإذا كان وقت مغادرة الإمام الصادق (ع) من مكة كما هو متعارف عليه ومتزامنا مع مغادرة بقية الحجيج وهو ما يمكننا استشعاره أيضا من روايتي أبي بصير والمنهال، وإذا كان يوم وصوله المفترض للمدينة في الخامس والعشرون من ذي الحجة فإنه لمن المفترض أن يكون قد نزل قبلها بالأبواء في العشرين من الشهر، ذلك لأن الأبواء تبعد عن المدينة المنورة مسافة خمسة أيام من السفر.
هذا من جانب وأما من جانب آخر فكون الأبواء المنزل التالي لمنزل الجحفة المنزل الذي به غدير خم حيث كانت بيعة الغدير، فإذا كان نزول رسول الله(ص) الجحفة وعقده البيعة لأمير المؤمنين(ع) في الثامن عشر من ذي الحجة أمر متفق عليه ولا نقاش فيه فإن نزول الإمام الصادق(ع) وولادة الإمام الكاظم(ع) في المنزل الذي يليه في العشرين من ذات الشهر أي بعد يوم أو يومين أمر مرجّح ومنطقي بل هو أكثر رجحانا ودقة.
ثم بعد كل ذلك بل وقبله فإن مجرد نظرة خاطفة لموقع الأبواء على الخريطة تجدها بعد المنتصف بقليل بين مكة والمدينة، الأمر الذي يعطينا ذات النتيجة: سبعة أيام بعد مغادرة الإمام الصادق لمكة وخمسة أيام قبل المدينة. أي العشرون من ذي الحجة.
ولنرجع الآن وبعد كل الذي قلناه ونلغيه كليا رغم ما فيه من وجاهة !! ولنقول على نحو التبسيط:
أننا ساوينا بين الأمرين ( ولادة الإمام عليه السلام في السابع من صفر أو العشرين من ذي الحجة) أو حتى قدّمنا الأول لشهرته رغم عدم وجاهته واعتمدناه وهو المعتمد فعليا عند الغالبية! وليكن كل ذلك فأين تكمن المشكلة؟!
المشكلة -كما أسلفنا بداية - أننا إن اعتمدناه وقدّمناه تعذّر علينا إحياء مناسبة مولد الإمام الكاظم(ع) لتزاحمه في ذات اليوم بالسابع من صفر بذكرى شهادة الإمام الحسن المجتبى(ع)! هذا بشكل خاص وأما بشكل عام فمجرد وقوعه في شهر صفر يعدّ من الصعوبة بمكان إحياؤه لكون شهر صفر وقبله محرم شهرين حافلين بالمآتم والتعزية والبكاء على ما حلّ بأهل بيت الرسالة من مصائب وفجائع فكان من الصعب أن تدخل بينها مناسبة فرح يُحتفى بها، فغاب الاحتفال كليا بذكرى ولادة الإمام الكاظم(ع)!!
وبالمقابل ما المشكلة في ذي الحجة مادمنا نملك على أقل تقدير رواية عنه (حتى لو أسقطنا كل الذي قلناه سابقا في البحث) ؟!
ما المشكلة لو احتفلنا بمولده الشريف في العشرين من ذي الحجة ؟! خاصة أن الهدف هو الإحياء لا تاريخ الإحياء بحد ذاته! الهدف أن يجتمع المؤمنون والمحبون ويتباركون بذكر الإمام باب الحوائج موسى بن جعفر الكاظم(ع) وينهلون من فيوضاته! ويحيون أمر أهل البيت! فتغشاهم الرحمة التي دعا لهم بها أبوه الإمام الصادق(ع) حين أمرهم فقال: (إن هذه المجالس أحبها.. أحيوا أمرنا رحم الله من أحيى أمرنا)
التعليقات (0)