مرَّ زمنٌ كثُر فيه الخطابُ عن غلاء المهور، ما كشف عن وجود مشكلة حينذاك أثَّرتْ على المجتمع سلباً وتأثر بها الوعاظ فكانت عنواناً لأحاديثهم.
وبتقصي مهور اليوم المدونة بعقود الزواج وعلى مدى عشرين سنة تقريباً، نلاحظ استقرارها عند حد مقبول اجتماعياً، وغالباً ما يقدر الزوج على دفعه، ومن لا يقدر فإن أمامه عدة جهات تمد له يد المساعدة، منها مشاريع الزواج الجماعي، والجمعيات الخيرية، والتجار والمحسنون..الخ، ولهذا بالكاد نسمع اليوم أحداً يثير هذا الموضوع.
إلا أن المشكلة في سياق ما نطرحه لم تعد المهر وإنما مصاريف ما يُعرفُ ب «الخطوبة»، حيث تصل إلى آلاف الدنانير وأحياناً إلى عشرات الآلاف عند الأسر المتباهية باليُسر والاقتدار.
وبرغم أن هذه المشكلة أكبر بكثير من غلاء المهور، إلا أن الخطاب الديني والاجتماعي شبه متوقف عن تناولها، مع أنها أفسدت سعادة آلاف الأسر البحرينية الفقيرة والمتوسطة والغنية مع شيء من الفروقات بينها.
في السابق كانت أعراف الزواج مختلفة حيث خفة الانفاق في عقد القران واقتصار الدعوة على أهل الزوجين، ثم تستمر «الخطوبة» سنة في المتوسط، ولمَّا يُشهر الزواج يُنْفََق على الضيافة ما يُنْفَق بسخاء، ويكون الزوجان حينها «سمن على عسل» حيث ألفا بعضهما واطمأنا إلى حجم التفاهم، ولذلك عندما يقرران «الانفصال» في هذه المرحلة فإن «انفصالهما» يسيرٌ جداً، فلو دفعت الزوجة ما تم صرفه فهو سهل عليها أو على ذويها، وفي المقابل لو تنازل الزوج عن تلك المصروفات فليس بالمبلغ الذي يندم عليه أو يعطل مستقبل اقترانه مرة أخرى.
أما اليوم فقد انقلبت الموازين والأعراف رأساً على عقب، وأصبح الانفاق المفرط على «الخطوبة» والطرفان بعدُ أجنبيان أو حديثا عهد ببعضهما، تحت مبررات جاهلية مضحكة مبكية من قبيل أن هذه ابنتي الأولى ولابد أن أفرح بها، أو كما أقمت حفلة بمستوى لابنتي الأولى أقيم للأخرى أيضاً، أو هي مرة في العمر.. الخ.
وعندما تنتهي تلك الحفلات باهظة الثمن ويحين اللقاء يتفاجأ الطرفان أو أحدهما بعدم القدرة على الانسجام إلى حد المطالبة بالطلاق، وإن كانت هذه الحالة من طرف الزوجة فكثيراً ما يطالب الزوج برد مهره ومصروفاته، وإن كانت من قِبله هو علَّقها وضغط عليها كي تطلب الطلاق بنفسها فيساومها أيضاً على رد ما دفعه، ولأنها –بلحاظ الوضع الاجتماعي السائد- غير ميسورة وصرفت ما يطالب به فلا تتمكن من رده، فتظل حائرة حزينة تبحث عن حل يخرجها من هذه الورطة.
البعض يشير عليها برفع أمرها إلى القضاء، ولمَّا ترفعه يتم الحديث داخل قاعاته أيضاً عن مساومة حول البذل في قبال الطلاق الخلعي، ويظلان يتنازعان في هذه الساحة كحالهما خارجها، بل ويتفرع الشقاق الكيدي بغرض لي الذراع إلى ملفات أخرى كل منها يحمل عنواناً يجعلهما يدوران في حلقة مفرغة: طلاق ترفعه الزوجة ورجوع إلى بيت الزوجية يرفعه الزوج، نفقة ترفعها الزوجة ونشوز يرفعه الزوج، حضانة ترفعها الزوجة وزيارة يرفعها الزوج.. وهكذا دواليك، ومن كل ملف يتولد آخر استئنافي وثالث تنفيذي، حتى أنك تجد زوجين بينهما أكثر من عشرة ملفات تتداول في مدة زواج قصيرة.
وبعد كل هذا الشقاء والتعب الذي يستمر سنوات أحياناً، ويقود عدد منهم إلى العلاج النفسي، ينتهي بمسلسل خاتمته «روتينية» نكاد نؤشر عليها عند أكثر القضايا موضع الكلام، وهي تنازل كل طرف عن شيء ليخرج الاثنان بخسارة محدودة.
إن هذا العناء والخلافات والعداءات الأسرية الناجمة عن ذلك هي نتيجة عُرف اجتماعي سيئ، وحري بكل حريص على مجتمعه أن ينتبه له وينبِّه إليه، وأن يُكثر الخطباء والوعاظ والكتاب من الحديث عن هذه المشكلة، والتحذير منها وبيان عواقبها ورأي الفقهاء والعلماء فيها، وإلا فإنها في زيادة مستمرة وتكشف عنها أعداد الدعاوى الشرعية المطردة.
ياسر خميس
* باحث شرعي بوزارة العدل والشئون الاسلامية.
التعليقات (0)