أكمل سماحة الشيخ الدكتور عبدالله الديهي سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس و ذلك لليلة الثامنة والعشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هـ ، حيث بدأ المجلس بآية من سورة الفرقان " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " ، الحديث هذه الليلة حول الآية الشريفة سيكون في خمسة جوانب ، الجانب الأول ، الإنفاق هو قانونٌ عام ، القوانين في الكون تقسّم الى قسمين ، قوانين خاصة وقوانين عامّة ، والإنفاق من القوانين العامة في الكون ، الجانب الثاني ، الإعتدال في الإنفاق بين الإسراف وبين التقتير و المراد من الإسراف و المراد من التقتير و المراد من القوام ، الجانب الثالث ، شواهد من حياة الإئمة ( ع ) في بيانهم للإعتدال والقوام بين الإسراف وبين التقتير ، الجانب الرابع ، الخطوات التي يجب أن تتبع حتى نصل الى حدّ الإعتدال في الإنفاق ، الجانب الخامس ، نماذج للإنفاق والموازنة بين مشاريع الدنيا ومشاريع الآخرة .
الكون فيه قوانين ، والقوانين على حالتين ، خاصة وعامة ، مثلًا قانون النمو قانون خاص ، لا ينطبق الا على الأحياء ، وعلم الأحياء يقسّمون الأحياء الى عدة أقسام ، إنسان ، حيوان ، نبات ، طير ، وكلٌّ يسري عليه قانون النمو ، الإنسان والحيوان و الطير ينمو ، كلٌّ مشتركٌ في هذا القانون الخاص ، ولكن في العرفان هناك نظرية بأن كل موجودٍ حي ، حتى الجبال والجماد ، من سورة الإسراء " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " . يُطلق الشيئ على المتحرّك والجامد ، فالإنسان شيء و الجماد شيء ، وكلّ ما في الوجود من شمس وقمر وبحار ومحيطات وأشجار شيء ، وكل شيء يسبّح بحمد الله ، أي أنّه مطيعًا لله ، وهذا تفسير ظاهري و ليس من جانب التأويل وهو التفسير الباطني . وهناك قوانين عامة مثل القوانين التي يجري عليها الكون ، فما من نجم ولا كوكب و لا بحر الا و هو قائم على النظم ، من سورة الإسراء " والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " ، ومن سورة يس " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " . يجب على الإنسان أن يلتزم بالنظام و قد شُرّف الإنسان بأنه قابل للاختيار بين النظام و الفوضى و بين الطّاعة و المعصية ، ومن جملة القوانين العامة في الكون الإنفاق . مثلًا الشمس تُنفق والأرض تُنفق ، ولكنّهما تُنفقان على جبرٍ ما إن تهيأت المقدّمات فتُعطي النتاج ، الإنسان مُنفق ولكنه مختار فإن شاء أنفق وإن شاء لا ينفق .
إنفاق الإنسان يكون على قسمين ، انفاق معنوي و إنفاق ظاهري ، الإنفاق المعنوي والذي يسمّى مجازي يكون في عدة حالات ، زكاة العلم نشره ، و زكاة الجاه الشفاعة ، و الإنفاق الاخلاقي ، من سورة البقرة " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة " ، العفو والتسامح هو ما يجعل القلوب تهفو الى بعضها . النوع الثاني هو الإنفاق المادي ، وهو بذل المال لقضاء حوائج الإنسانِ وغيره ، بدأ الإسلام بالأقربين ، و جعل الإسلام شجرتين للإنفاق ، شجرة الإنفاق الواجب وشجرة الإنفاق المستحب ، أولًا الزوجة و هي أمّ العائلة ، من سورة الطلاق " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ، لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا " ، يكون لها حق الإطعام وحق اللباس وحق السكن و حق العلاج و الأدوية وغيرها بشرطين ، الا تكون ناشزًا و تكون مطيعة له في ما شرع الإسلام ، و أن يكون بعد الدخول . ثانيًا الأبوان ، وهما عمودا البيت ، وهما مشروطان في وجوب الإنفاق بالحاجة ، فإن كانا مكتفيين لا تجب النفقة عليهما ، و يراعي الإسلام جانب الكرامة في الإنفاق . ثالثًا الأولاد ، بناتًا كنّ أو ذكورًا ، يجب أن يُنفق الإنسان عليهم من سكن ولباس وتعليم . الآية تؤكّد على جانب الإعتدال في الصرفو عدم التقتير ، التقتير له معنيين ، التقليل أو التضييق . أمّا الإسراف فيؤدي الى الدلال واللعب في الاموال و قد يكون الى استخدام المال في أمورٍ مُحرّمة .
الأحاديث الشريفة تٌبيّن لنا أنها حسنةٌ بين سيئتين ، الإعتدال في الصرف حسنة ، و الإسراف سيئة و التقتير سيئة ، ويقال أنهما من الكبائر ، و التبذير هو استعمال الشيء في الحرام حتى لو كان قليلًا ، ويعتبر من الكبائر أيضًا ، وهو الخروج عن حد الإعتدال في الإنفاق ، الإعتدال في الإنفاق يكون بداية باليقين والثقة بالله و تأكيد ذلك في أنفسنا ، وُرد في الروايات أن المُسرف لا يُقبل ولا يٌستجاب دعائه ، هناك أشخاص لا يُستجاب دعاؤهم أبداً مهما دعوا ، فقد روى جعفر بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " أربعة لا يُستجاب لهم دعوة : رجل جالس في بيته يقول : اللهم ارزقني. فيُقال له: ألم آمرك في الطلب؟ ، ورجل كانت له امرأة فاجرة ، فدعا عليها . فيقال له : ألم أجعل أمرها إليك ؟ ، ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : اللّهمّ ارزقني . فيقال له : ألم آمرك بالإصلاح (أي الاقتصاد) . ثمّ قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ . ورجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة . فيقال له : ألم آمرك بالشهادة ؟ ". يجب علينا أن نوازن أيضًا بين مشاريع الدنيا ومشاريع الآخرة ، من سورة القصص " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين " ، وفي حديثٍ للإمام علي عليه السلام " إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً "
التعليقات (0)