افتتح سماحة الشيخ الدكتور عبدالله الديهي سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس و ذلك لليلة السادسة عشر من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هـ ، حيث بدأ المجلس بآية من سورة آل عمران " الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " ، و حديث للإمام الحسن المجتبى عليه السلام " الكرم ما كان ابتداءً ، من غير مسألةٍ " و في جوابه عن الحلم " كظم الغيظ وملك النفس " . بمناسبة ولادة الإمام الحسن في فجر هذا اليوم تقدّم الدكتور بالتهاني والتبريكات لصاحب العصر والزمان بقلوب ملؤها الفرح والحب و الولاء لمحمد و آله . سيدور حديثنا اليوم حول تعريف الصحة النفسية و العوامل التي تؤدي الى الصحة المرضية النفسية و هي عوامل خمسة من ضمنها الأخلاق و علاج النفس ، وقد وضع لها الإمام أربع علاجات ، الزهد والصبر والحلم والكرم ، ونتحدث عن كل هذه المعالجات ، و سناخد جانبين منها ، الحلم ومجالات تطبيق الحلم وأين يكون ، والأمور النفسية التي تنتج من وراء الكرم من آثار نفسية و أخلاقية و إجتماعية وعقلية . الكرم عند الحسن ( ع ) ربما تعريفه يختلف عن العطاء فهو يساوي المعروف ، وللمعروف عند الإمام تعريف خاص ، العطاء هو الذي يكون متبادلًا ، أي الانسان اذا بذل ماء وجهه ، يحصل على اثر هذا الطلب عطاءً ، وللإمام شروطٌ ، و هناك آثار نفسية على الكريم والمُكرَم . اذا حاولت أن تعطي نظرة متعمقة نجد أن روايات أهل البيت فيها الكثير من العلاجات لكثير من الأمراض النفسية .
الصحة النفسية عرّفها العلماء المختصون بأنها الخُلو والبُرء من الأعراض المرضية النفسية ، كما أن الصحة الجسدية إذا خلت من الأعراض الجسدية قيل أنها صحة جسدية ، ويوجد لها تعريف آخر ، يعرفها بالتأثير والتكيّف ، التأثير في نفس المجتمع والتكيف لتوافق الفرد الإجتماعي وتكيفه مع ظروف مجتمعه ، نجد أن العلم الحديث يصنفه ضمن العلوم السيكلوجيا ، بينما في الواقع ترى جذوره التاريخية عند الأنبياء والحكماء و العقلاء و أصحاب الأخلاق و أصحاب العرفان و الفلاسفة أحيانا والحكماء، دائما يركزون على هذه الأمور ، العوامل التي تؤثر في صحة الإنسان و مرضه نفسيًا ، الأمر الأول الذي يؤثر على صحته النفسية العلم ، وكثيرًا ما تجد أن اللذين يصابون بالأمور النفسية من الجُهال . الجهل له قسمان ، جهل بسيط والذي يُبتلى به العامة من الجهال وهو مقدمة للعلم ، القسم الثاني الجهال الذين يظنون أنهم علماء ، وهذا ما نبتلى به اليوم ، و هو لا يعلم بأنه جاهل ويطلق عليه بالجاهل المركّب . اذا استُسقي العلم من منابعه الصحيحة ، أثر على النفس صحةً ، و اذا استُسقي العلم من غير منابعه الصحيحة أثر على النفس سقمًا ، فيطلق عليه مريضًا نفسيًا ، العامل الثاني هو الدين ، وهو من أكثر و أعجب العوامل التي تؤثر على النفس أولًا ، وله انعكاسات على الجسد أيضًا ، اذا أخذ الدين من منابعه الصحيحة . أثر على الإنسان صحةً نفسية ، واذا اُحسم تطبيقه يؤثر على صحة الإنسان النفسية ، والعكس كذلك ، اذا كان الدين لم يؤحذ من منابعه الصحيحة ولم يطبّق تطبيقًا سليمًا يؤدي الى مرض النفس ، البعض لدليه وسوسة في الطهارة مع العلم أن قاعدة الطهارة هي من أبسط القواعد في الفقه عند المسلمين فكل شيءٍ طاهر حتى تعلم أنه نجس ، فلا يُغني الظن ولا الشك ولا الإحتمال ، فالوسوسة تؤدي الى مرض النفس .
العامل الثالث هو عامل الأخلاق ، الأخلاق السليمة هي التي حثّ عليها العقل والفطرة والشرع و التي بعث من أجلها النبي " انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " تجعل الانسان سليمًا في نفسه ، و الاخلاق البعيدة عن الدين تؤدي الى مرض وفساد في النفس ، العامل الرابع هو الإنسان نفسه و كيف يتعامل مع الدين ومع الخلق ومع العلم ، العامل الخامس هو عامل الإحباطات التي يلاقيها الإنسان في حياته ، هناك الكثير من الإحباطات سواء داخل البيت او في التعليم أو في المحيط فيعيش الإنسان حالة من الإحباطات ، وتعالج هذه الإحباطات من خلال قول الإمام الحسن ( ع ) ودعوته للإرتباط بالله في كل هذه الحوادث حيث يقول " و اعلم أن ما لم تحصل عليه من طلباتِ الدنيا ، اجعله بمنزلة ما لم يخطر ببالك " وهذا علاجٌ نفسي ، فلا تفكّر بما فاتك من الدنيا لكي لا يؤثر في نفسك ، نظر الإمام الحسن في كل هذه العوامل في خطابه وهناك عدة عوامل للعلاجات ، عامل الزهد و الصبر و الحلم و الكرم . عرّف الإمام الحسن الحلم في جنبتين ، وهما كظم الغيظ ومُلك النفس . هناط عدة مجالات من الممكن أن يكون فيها الحلم علاجًا ، المجال الأول هو الداخل ، أنت بحلمك تحافظ على ضبط داخلي ، لمّا تقابل الأمور بالحلم وبالهدوء و الإتزان كأنّما جنبت نفسك الإحتراق الداخلي فحافظت على داخلك ، العامل الثاني هو تعديل للسلوك ، فالفرق بينك وبين الإنسان الغضوب بأنه يكسر ويحطم ما أمامه ومن أمامه بينما أنت تعالج الأمور بحكمة وهدوء لما تقابل الامور بالحلم ، العامل الثالث ، الحلم يعطي للانفعال الثائر مسارات مفيدة ، ويحوّله من شيء مدمّر الى شيء معمّر ، وقد قال ( ص ) " ليس القوي بالصُرعة و إنما القوي الذي يملك نفسه عند الغضب " . المجال الرابع هو اللغة ، نلاحظ الفرق بين لغة الإنسان الغضبان وبين لغة الإنسان الحليم ، بأن لغة الإنسان الغضبان كلها سبابٌ و شتمٌ و هابطة ، و يجب علينا أن نقابل الإنسان الذي لغته كلها سبابٌ وشتمٌ بالتي هي أحسن و نستخدم لغة الإستقامة .
هناك آثار للحلم ، الأثر الأول هو الأثر الأخلاقي فهو يضبط العواطف الثائرة و يحولها الى استثمارات مفيدة للبشر ، كظم الغيظ في اللغة هو كظم الشيء يعني أغلقه بإحكام ، وهناك نوعين لكظم الغيظ ، نوع يخفيه تمامًا وهو للأنبياء ، لا نستطيع نحن فعل ذلك ، فالغيظ فطرة انسانية تحتاج للتعديل ، النوع الثاني أن تظهره أحيانًا ولكن بإظهار مؤدب ، الأثر الثاني هو الأثر الجسدي ، يوجد في العلوم السيكلوجية علم الطب الجسدي النفسي ، النفس تؤثر على جسد الإنسان و تؤثر عليه في عقله ، فالسليم النفسي تقلّ عنده الأمراض الجسدية ؛ لأن أحد عوامل الأمراض الجسدية من القلب وقرحة المعدة و الاثني عشر والجلطة الدماغية والذبحة الصدرية والضغط وغيرها هو السقم النفسي . أما الحليم يمكن أن يُقال بأنه أقل تعرّضًا لتلك الأمراض . الأثر الثالث هو الأثر الوقائي ، فالحلم منهج تربوي تدريبي وقائي ، وللجانب الوراثي والتربوي أثر . الأثر الرابع هو الأثر الإجتماعي ، كل المجتمعات البشرية تعتقد بأن للإنسان المتزن الحليم وقار ومكانة اجتماعية وبالعكس ، يُعتبر الغضوب عند كل الناسِ أحمقًا ، والأحمق صحبته بلاء ، ومن يكون تحت ادارته يضيع ، ولا يصاحبه الناس الا على اضطرار . الأثر الخامس هو الأثر الإرادي ، الحليم هو الذي تتغلّب ارادته وعقله على غضبه وشهوته ، فالغضب والشهوة من الأمور التي تؤدي للإنحراف .
العلاج الثاني للصحة النفسية هو الكرم ، الكرم عند الحسن ( ع ) هو المعروف ، و كلمة المعروف كلمةٌ مطلقة ، العطاء يعني أن تأخذ شيئًا وتعطي ، كما يقول ( ع ) " العطاء هو الذي يكون بعد السؤال فانت تعطيه بمقدار ما بذل لك من ماء وجهه " ؛ لأن السؤال ذلٌّ ولو على الطريق . أما المعروف عند الإمام فيكون أولًا الكرم الإبتدائي ، ثانيًا لا يسبقه مطال و لا يتبعه منٌّ و لا أذى ، الكرم هو الذي يحافظ فيه على ماء وجه السائل ، وكلها ذلك طبّقه الإمام الحسن ( ع ) . أولًا من شروط الكرم أن يكون بنية القربة ؛ لأن الكرم والسخاء فريضة ، فيقول في شعره " إن السخاء على العباد فريضة ** لله يُقرأ في كتابٍ مُحكمِ " ، ومن يقوم به مثابٌ ومأجور ، ومن يبخل يكون مأثومًا ، حيث يقول في شعره " وعد العباد الأسخياء جنانه ** و أعد للبخلاء نار جهنم " . الإمام يعتبر الكرم راحة وعلاج نفسي ، ويعتبر البخل مرضًا نفسيُا وهمًّا ، ويقول في شعره أيضًا " وخلقت الخلائق من قدرة ، فمنهم سخيّ ومنهم بخيل -- فأمّا السخيّ ففي راحة ** و أما البخيلُ فحزن طويل " . البخيل يخاف على أمواله ، ويتأسف على إعطاءه شيء منها ، فيعيش الحزن ، و يعتبر أن ما قد خرج من يده تلفًا ، فبالعكس ضمن الله لكل منفقٍ خلفًا ولكلّ ممسك تلفًا . الحسن كان دائمًا يُحافظ على كرامة السائل ، فيسأله أن يكتب حاجاته في رُقعة ، لأن الرسالة تكون محفوظة الكرامة ، الإمام علي لمّا سئل عن ذلك قال " لألا أرى على وجهه ذل السؤال و في نفسي " ؛ لأن الإنسان أحيانًا قد يُعجب بنفسه و عمله .
التعليقات (0)