أكمل سماحة الشيخ إبراهيم الصفا سلسلة محاضراته بحسينية الحاج أحمد بن خميس وذلك للّيلة الرابعة عشر من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هـ ، و تحت عنوان " الإنسان بين منطق القوة و قوة المنطق " ابتدأ سماحة الشيخ بآية من سورة المائدة " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين " القرآن الكريم ومن خلال هذا المقطع يحدثّنا عن فصل من فصول قصة ولدي آدم قابيل وهابيل ، وفي هذا الموقف يحدّد لنا طبيعة الخلاف بين ولدي آدم ، وكيف أنّ الصراع قد نَشَبَ بينهما بعد اِن اِشتعلت جَذوة الحَسَد ، كانَ قَابيل يعملُ فلّاحًا ويَحرِثُ الأَرض ويزرعها ويُعرف بالشدّة والَقسوة والصّلابة و كان هابيل في قبال ذلك ، كان يعمل راعيًا للأغنام وكان رجلًا عطوفًا حنونًا لطيفًا ، ولمّا قدّم - الأخوان من بطن واحد ولأب واحد - كلّ واحد منهما قربانًا لله ، وكان في ذلك العهد اذا تقبّل اللهُ قربانًا للعبد أرسل اليه نارًا فأحرقته فهذه علامة القبول ، وقد قدّم قابيل أسوأ ما لديه من المحاصيل و ما كان يزهد فيه ، في قبال ذلك قدّم هابيل أجود شاة لديه وأفضل قربان ، فنزلت النار على قربان هابيل ، و تقبّل الله قُربان هابيل ولم يتقبّل قُربان قابيل ، واشتعلت نارُ الحسد فيه وقال له " سأقلتلنك " و جرى بينهما حوار و قد تحدّث القرآن عنه ، فردّ عليه هابيل " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " ، وقتل أخيه نائمًا وهي أوّل جريمة قتلٍ في التاريخِ الإسلامي ، " فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين " . كان قابيل منطقه القوة ، و كان هابيل يتمتع بقوة المنطق والخطاب والمحاورة والحجة والدليل ، ولهذا صُلب بحثنا الليلة هو أساليب الحوار والتواصل بين الإنسان وأخيه الإنسان ، إما ان ينطلق من منطق القوة أو من قوة المنطق .
المراد من قوة المنطق هو أن يكون الإنسان يتملّك أمرين ، يملك أولًا قوة الدليل والحجة والبرهان و يملك ثانيًا قوة البيان ، أي يكون عنده معرفة وعلم ويمتلك قدرة بيانية للوصول الى مراده ، وقوة المنطق سلاحٌ يُهزم فيه الأشدّاء والعلماء والمفكرون و يُفضي الى قوة الإقناع وتغيير الموقف ، وأمّا منطق القوة فالمراد منه هو انعدامُ الخطاب والبيان واللجوء للعنف والشدة و اراقة الدماء وانعدام الحجّة . نحن بحاجة أن نتعرف الى هذين الأسلوبين ،كان فرعون يتمتع بمنطق القوة ووزراءه يتمتّعون بقوة المنطق ، حيث في سورة الأعراف " وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ، فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ، قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ " أمّا فرعون فكان يتمتّع بمنطق القوة " قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ " . وبالعكس بلقيس ملكة سبأ ، فقد كانت تتمتع بقوة المنطق و كان وزراءها يتمتّعون بمنطق القوة ، من سورة النمل " قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ، إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ " فلم يأتِ وزراءها للخيار السياسي و الدبلوماسي ، بل لجأوا الى منطق القوة والعنف " قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ " و كانت المرأة أحكم منهم " قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ "
الإنسان إمّا أن ينطلق في تعامله مع الآخر من منطق القوة أو أن ينطلق من قوة المنطق ، ولهذا لو جئنا للقرآن ، فإن منطق القوة قد يكون خيارًا محسومًا لا مجال لنا في تجنبه بعد أن تنفد خيارات المنطق ، والقرآن يعطينا نماذج عديدة من استخدام بعض الأنبياء خيار منطق القوة بعد نفاد خيار قوة المنطق وعدم تأثيره في قلوب الكافرين ، حيث نموذج نبينا لوط يوضّح لنا ذلك ، بعد أن بذل كلّ شيءٍ مع قومه ، و كان قومه منحرفين شاذين ، ويكتفون بالرجال ، وعندما علموا بوجود ضيفين عند نبي الله ، استخدم معهم ( ع ) في البداية قوة المنطق و بدأ يعظهم و ينصحهم ، من سورة هود " وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ، وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ " و لمَا آيَس منهم تغيّر المنطق " قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ، فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ، مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ " وهنا اتحضحت القوة الالهية . يعرض لنا القرآن نموذجًا آخرًا وهو نبي الله نوح حيث استخدم قوة المنطق مع قومه لـ 950 سنة ، من سورة العنكبوت " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ، فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ " ، و من سورة الفرقان " وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا "
لابدّ أن يعرف كل واحدٍ منّا خطورة الأساليب التعاملية في مختلف جوانب الحياة ، أولًا في الجانب التربوي ، حيث يجب استخدام قوة المنطق في تربية الأبناء و اعدادهم ، ؛ لأن منطق القوة يذوق فيه الأبناء الويل ، و المجال التربوي لا يصلح معه منطق القوة اذا أردنا ان ننشأ جيلًا نشأً صالحًا ، فعلينا استخدام قوة المنطق ، والإسلام لمّا أمَرَ بضرب الصبي فالضرب هنا يندرج تحت قوة المنطق و التأديب وليس العنف ، ولو تجاوزنا عالم التربية وأتينا الى عالم الحية الزوجية ، نجد أن الزوجان اللذان يمتلكان منطق القوة يكون فيه البيت منفجرًا ، فلا يوجد أفضل من قوة المنطق والبيان والنقاش والحوار الزوجي ، من سورة النساء " وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً " ، لا يستطيع الإنسان الوعظ الا اذا امتلك قوة المنطق و الخطاب لكي يؤثر في زوجته ، وقد نهى رسول الله من انتهاج منطق القوة في الحياة الزوجية حيث قال ( ص ) " من مد يده الى زوجته ليضربها فكأنما مد يده الى النار " ، الزوج يملك ولاية على الزوجة ، ولكنّ هذه الولاية تتجمد عندما تؤدي الولاية لفعل الحرام ، فلا ينبغي للمؤمن أن يسب أو يضرب أو يؤذي زوجته ، فإذا أراد المؤمن أن يتعامل مع زوجته فمن الأفضل مناقشتها ومحاورتها و أن يفتح بابًا للحوار باسلوب نافذ للقلب . في جانب برّ الوالدين ، لابد للولد أن يرقّ على والديه حتّى لو أساء أبواه عليه ، فلا يجوز أن يلجأ الولد الى منطق القوة ، حيث قال رسول الله ( ص ) " من نظر إلى أبويه نظر ماقتٍ وهما ظالمان له ، لم يقبل الله له صلاة " وهنا يشير النبي الى أنّ النظر القاسي يندرج الى منطق القوة ، ويجب ان يستعمل قوة المنطق والحوار . في جانب الحياة السياسية ، توجد معارضات وحكومات امّا أن تمتلك قوة المنطق أو أن تمتلك منطق القوة ، حينما يوجد نظام سياسي لا يملك قوة منطقٍ ولا قوة دليلٍ ولا حجة ولا مبرّر قانوني ليعطيه قوة في الموقف ، ينقلب النظام من قوة المنطق الى منطق القوة ، ويبدأ خطاب الضرب بيدٍ من حديد و خيار السجن والتبعيد والقتل وإراقة الدم و اسلوب العنف هو من يتكلّم . لا يوجد أفضل من قوة المنطق للدخول في قلوب الناس و تغيير الواقع .
التعليقات (0)