أكمل سماحة الشيخ إبراهيم الصفا سلسلة محاضراته بحسينية الحاج أحمد بن خميس وذلك للّيلة العاشرة من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هـ ، وتحت عنوان " دروس في حياة السيدة خديجة (رض) " ، ابتدأ سماحته برواية عن رسول الله ( ص ) : " نزل عليّ جبرائيل فقال : بشّر خديجة ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب ". عندما يقف المؤمن ليتطلع و يطّلع على تاريخ الإسلام ومنعطفاته منذ الصدر الاول حتى يومنا هذا ، سيجد أن في هذا التاريخ المشرق أناسًا لا ينبغي أن نتجاهلهم ، لما لهم من فضلٍ كبير في وجود الإسلام ونخبته ، النخبة الصالحة من الرجال والنساء الذين تحمّلوا البلاء والذين صنعوا تاريخ الإسلام ، و على رأس تلك النخبة سيدتنا خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، هذه المراة الجليلة الذي يصادف يوم العاشر من شهر رمضان ذكرى رحيلها ، برهنت على حبّها لله ورسوله ، وأخلصت لله وبذلت كل ما في وسعها لإعلاء كلمة " لا إله الا الله " . التاريخ إما أن يكون قد صنعته أيدي الرجال أو قد صنعته أيدي النساء ، أو أن تشترك المراة بجوار الرجل في صناعته ، نجد في جوار الحيبب محمد ( ص ) إمراة قد فاقت بعزيمتها وإصرارها و ثباتها عزائم الرجال ، وهذه المراة جديرة بتلك المنزلة العالية و أن نجعلها محطة لنستلهم من عطائها ، ولهذه المرأة الجليلة الربانية مقامات عديدة عند الله ورسوله .
من فضل خديجة بنت خويلد ( رض) أنها كانت تحمل وسام أفضل زوجة لرسول الله ، كلّ امهات المؤمنين لهم فضل باقترانهم بالنبي ( ص ) وكونهم ببيت النبوة ، وتتفاوت تلك النسوة حسب إيمانهن وإخلاصهن وتفانيهن في رسول الله ( ص ) ، و هذه المرأة تأتي في طليعة نساء النبي رفعةً ومقامًا ، وبعد رحيلها ما كان النبي ( ص) يفترُ في ذكرها ، و قد كانت زوجة النبي عائشة تغار كثيرًا من خديجة حين يشيد ( ص ) بمقامها ، وتقول " الى متى تذكرها .. هل كانت إلا عجوزاً وقد أبدلك الله خيرًا منها " فيغضب النبي (ص) ويقول " والله ما ابدلني الله خيرًا منها ، والله لقد آمنت بي اذ كفر بي الناس و آوتني اذ رفضني الناس وصدقتني اذ كذبني الناس ، ورزقتني الولد حيث حرمتموه " ؛ وإنه ( ص ) لا يشيد بالمظاهر الجمالية الخارجية الزائلة فلا يمكن للنبي محمد ( ص ) أن يؤسس للغيرة ، بل كان يؤكد على الأبعاد العميقة التي يحبها الله . لا يمكن أن يصل نساء النبي الى مقامها فمناط التفاضل بينها وبين الثمان الأخريات اللاتي تزوجهن النبي الجوانب القلبية و التقدير والاحترام والخلق الرفيع ، و لها مقامٌ آخر وفضل آخر تتميز به أنها امرأة اصطفاها الله ، لايوجد في خلق الله أعظم وأشرف وأطهر وأنقى من ابي للقاسم محمد ( ص ) ، فاصطفاه الله لا ليكون نبيًا لأمته فحسب بل صار حجة على الانبياء . هذه المرأة عندما نقف في تاريخها ونتأمل في الرواية عنه (ص) " إن الله تعالى اختار من النساء أربع ، مريم بنت عمران و آسيا بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد " فقد كانت محل الإصطفاء لا لآثارٍ ظاهرية بل لمقامات رتبية ، المراتب القلبية العالية و مراتب الإيمان والتقوى . كلنا نختلف في الشكل والمقام ومعيار التفاضل هو التقوى ، من سورة الحجرات " إن أكرمكم عند الله اتقاكم " ، فاذا كان ميزان التقوى لديك ثقيلًا فثق بأنك من المقربين لديه عز وجل .
اصطفى الله عز وجل خديجة الى جوار تلك النساء لما لها من مناقب عديدة ، حيث كانت من السابقات للإسلام و تلك ميزة ليست بالهيّنة ، عندما آمنت خديجة بالنبي محمد ( ص) كان ظرف الإيمان خطرًا جدًا و الذين آمنوا بدعوة النبي في ذلك الوقت قد وضعوا أرواحهم على أكفهم و وضعوا السيوف على أعناقهم ، هذه المرأة الجليلة الوجيهة التي كانت تعرف بمقامتها الإجتماعية والاقتصادية أعلنت ايمانها وإسلامها بزواجها من النبي محمد ( ص ) ، وقد هجرها الكفار و قطعوها أهلها حتى حين ولدت فاطمة الزهراء ، وقد تضررت تجارتها بعد أن آمنت بالله . المقام الآخر الذي تجلى في هذه المراة هو مقام التضحية والبذل ، فقد ضحت بكل ما تملك من أجل النبي ( ص ) ، فقد كان لها قوة إقتصادية كبيرة ، حيث يقول بعض المؤرخين بأنّ هيمنتها على الإقتصاد المكي كان واضحًا ، وكان عندها ثمانين ألف ناقة تخرج وتتحرك الى الشام و غير الشام بمختلف البضائع ، فقد كانت قوة الإقتصاد في يدها ، و لمّا تزوجها النبي وقفت الى جوار البيت و أعلنت ان كل ما تملكه من مالٍ وعقارٍ وجمالٍ وابل كله لمحمد يتصرف فيه ما يشاء ، من سورة الضحى " أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى " ، وهذا تصريحٌ خطير ؛ لان قوة المشركين التي تحركهم هي اموالهم و سيوفهم وكل تلك القوة قد نقلت الى النبي ( ص ) ، فحين خرجت فاطمة و خطبت مطالبةً بحقها وفدك مع أنها امراةٌ زاهدةٌ ؛ لان له قوة اقتصادية وريع اقتصادي ، لا لنفسها بل للحاكم الحق العادل .
متى ما تضعضت أي حكومة اقتصاديًا تسقط هيبتها و تكون عاجزة في أن تلبّي التزاماتها الدولية ، الحكومة الإسلامية العادلة تحتاج الى الإقتصاد القوي ، فعندما نقلت ثروتها كلها للنبي ، كان له من الأثر العظيم لاسيما لما ضرب المشركون الحصارَ على بني طالب و آل هاشم ، فكانت الأموال التي تبذلها خديجة مصدر انعاشٍ لهم ، وقد بذلت ( رض ) كل ما تملك دفاعًا عن النبي محمد ( ص ) و كانت ترفع ذراعها لتتلقف الأحجار المرمية عليه لدون وصولها لجسده . ينبغي لنا أن نتعلّم دروس الفداء و الإخلاص و التضحية منها . حين قرب موعد وفاتها ( رض ) جلس النبي الى جوارها وهي تعالج ألم الموت وسكرات الرحيل ، وقد أوصته (رض) ثلاث وصايا ، الوصية الأولى طلبت منه الصفح منه عن أي تقصيرٍ بدر منها ، وقد شكر لها النبي سعيها ، الوصية الثانية ، أشارت للطفلة الصغيرة فاطمة الزهراء وأوصته بها وبكت بكاءً موجعًا ، الوصية الثالثة ، أوصت ابنتها أن تطلب من النبي ( ص ) أن يكفنها بردائه لخوفها من القبر وخجلها من الطلب من رسول الله بذلك بالرغم بكل ما أعطته وفدته للنبي ( ص ) ، وقد كفنها النبي بردائه وحين توفت رضي الله عنها ، أعلن ( ص ) عام الحزن و الألم والتوجع .
التعليقات (0)