أكمل سماحة الشيخ إبراهيم الصفا سلسلة محاضراته بحسينية الحاج أحمد بن خميس وذلك للّيلة التاسعة من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هـ ، وتحت عنوان " المرونة والعنف في الإسلام " ، ابتدأ سماحته بآية من سورة آل عمران " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ، القرآن الكريم ومن خلال آياته المباركات يؤسس لقاعدة رصينة تحدد طبيعة علاقة الإنسان في الحياة وتبيّن مناط العلاقة بين الإنسان واخيه الانسان وتؤسس لقاعدة تنطلق من محورين ، المحور الأول المرونة واللين والرفق ، والمحور الثاني هو العنف والشدة ، والإنسان يتحرّك بهذين المحورين في هذه الحياة .
هناك فرق بين المرونة وبين العنف في كتاب الله عز وجل ، أمّا المرونة التي أمر الله بها ، فتُحمل بمفهومين أحدهما سلبي و الآخر ايجابي ، فاذا كان المراد من اللّيونة في التعامل هو عبارة عن التساهل والإهمال في تطبيق الأحكام والحدود فهذا أمرٌ سلبي منهيٌّ عنه ، أمّا اللّيونة الايجابية في مفهومها الايجابي المراد منها في اللغة الرفق واللين والتسامح ، فهذا هو ما يؤسس له الإسلام ، علاقتنا من الآخرين لا تنطلق من اللين السلبي حيث تتجاوز عن الأخطاء والزلات و الحقوق ، فما يؤسس له الإسلام هو اللين الذي يحمل بالمفهوم الايجابي و الرّفق في التعامل ، فعن رسول الله ( ص ) " ما كان الرِّفْقَ فِي شَيء إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ " . الرفق واللين أمرٌ مطلوب ، القران الكريم يؤسس للطافة العلاقة ولينها ولا وجود في كتاب الله لكلمة العنف ، فلو تصفحت في كتاب الله فلن تجد مفردة بمعنى العنف ولكن توجد الفاظًا تؤسس لمعنى العنف مثل لفظ الغلظة ، فالله عز وجل يأمر في بعض الموارد بالغلظة واحيانًا الشدة ، و حين نضم الغلظة و الشدة فإننا نؤسس للعنف ، والعنف تارةً يكون إيجابيًا وتارة يكون سلبيًا ، فمن سورة براءة " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير "
ومن نفس السورة " ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين " . الخطاب الآخر العام لكافة المسلمين هو أن يؤسسوا علاقة الغلظة مع الكافر الحربي و المنافقين و أن يؤسسوا علاقة الرحمة فيما بينهم ، من سورة الفتح " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا " .
العنف ليس سلبي دائمًا ، هناك في كتاب الله موارد لا يصلح فيها الا الشدة والعنف ، ومن ضمنها تطبيق حدود الله ، فلا مجال فيها للين والتساهل ، فمتى ما فجر انسانًا و زنى - و العياذ بالله - وكان محصنًا فإنه يُرجم ، و يُمارَس عليه عنفًا يُتقرّب به الى الله لأنه حد من حدود الله و لا تساهل في تطبيق الأحكام ، وكذلك شرب الخمر والسرقة و اللواط ، كلها لها حدود لا تساهل وتراخي في تطبيقها و نجد في بعضها الشدة والغلظة والعنف . المورد الآخر الذي قام على أساس العنف هو التعامل مع الكافر الحربي وهو الكافر الذي يستهدف الكيان الاسلامي وبيضة الدين ، و لو تمكّن من المسلمين لسلب ارواحهم ونهب أموالهم ، فلا مجال الا للغلظة و الحدة والعنف . يوجد موارد يؤسس الاسلام فيها للشدة و لكن ليس كما فهمها "المتأسلمون" من الجهلة اللذين استعملوا العنف مع أبناء جِلدتهم ممن يقولون "لا اله الا الله" واستخدموا أبشع الطرق في قتلهم و تفجيرهم وسلب أرواحهم و كلها ارهاب لم يقرّه الله عز وجل ، فمثل هؤلاء لهم عذابان يوم القيامة ، العذاب الأول لأنهم أراقوا وقتلون نفسًا محترمة ، و العذاب الآخر لأنهم شوّهوا اسم الاسلام الذي يقوم على اللّطف واللّين في الحياةِ الإنسانية .
الجانب الآخر وهو جانب اللّين ، عندما يتحرّك الإنسان في دوائر حياته الإجتماعية أو الأسرية أو المهنية أو في مختلف مجالات الحياة ، فإن الإسلام يُؤكّد على ضرورة مراعاة الرّفق واللّين ، و من الضروري أن يصل الى الأهداف التي أرادها الله ، وهناك بعض الدوائر التي أسّس الإسلام فيها اللّين والرفق ، أولًا الدائرة العبادية و التي كلها رفق و لين ، فإذا وجدت عبادةً فيها مشقة فهذه العبادة ليست من الدين ، قال تعالى في سورة البقرة " لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا " و في سورة الحج " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ " ومن سورة البقرة " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ " ومن سورة التغابن " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ " . الإسلام الحنيف كله يُسر ، فالصلاة على سبيل المثال يأتي بها المكلف على الوضعية التي تناسب تكليفه ، وصلاة الجماعة تكون على مستوى أضعف المصلين وذلك لاحتواء أكبر قدر ممكن من المصلين وتيسير الصلاة ، الدين لا يمكن ان يتشدد او يتصلّب في موقفه فهو قائمٌ على اليسر و شرعت الاحكام على مرحلتين ، المرحلة المكية و المدنية . في مكة لا توجد تكاليف كالزكاة و الخمس ، وإنما كانت الأحكام تأسيسًا للعقيدة و صياغة الرؤية الكونية التي ينبغي أن يكون عليها المسلمين الأوائل . وامّا في المدينة فقد بدأ تشريع الاحكام تدريجًا الى أن حرّم عليهم أمورًا و حلّل عليهم أمور . الاسلام شفيق رحيم في تطبيق الأحكام ولا يوجد شدة في كل الموارد ، الرفق هو الذي يسهل على الناس دين الله القائم على اللطف .
ثانيًا دائرة الرفق في تربية الانسان واعداده ، فالاسلام أمر باستعمال الرفق ولم يسمح للانسان ان يتجاوز الرفق الى الحدة ، وقد أمر بالتدريج في تعليم الطفل للصلاة والوضوء ، و التدريج في تعليم الصبي و هناك شروط لضرب الصبي وهم أن لا يحمر الجسد ولا يسود ولا يخضر و أن لا يتحوّل الأبوان في التربية الى جلاّديْن ، بل الهدف من الضرب هو التربية ، و عندما يبلغ الولد خمسة عشر عامًا يُصبح حكمه حكم سائر الناس و ضربه عدوان فلا ولاية على الأبوين في الضرب ، و عندما أمر المولى عزّ وجل الضرب على الطفل فإنها تنطلق من موارد الرّفق التي تصنع إنسانًا صالحًا ، حيث أن صناعة الإنسان لابد أن تكون على الرفق في حياته .
دائرة استعمال الرفق في الحياة الزوجية و هي مهمة جدًا ، فما بُني في الإسلام بناء أفضل من التزويج . صنفت البحرين في المرتبة السادسة كأكثر الدول في حالات الطلاق بسبب انعدام الرفق بين الزوجين والذي يتمثل في عنف الكلمة و عنف اللفظ والأسلوب وقد يصل الى الضرب و الإعتداء . عن رسول الله ( ص ) " من مد يده ليضرب زوجته فكأنما مد يده إلى النار " ، فهذا عنف وليس رفق ، لابد للعلاقة الزوجية أم تقوم على أساس الرفق والمحبة والمودة و لهذا نجد ان العلاقة الزوجية متى ما قامات على هذه العلاقة حفظت . من سورة النساء " وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً " هناك تدرج الموعظة ، حيث لا ينبغي أن نبني حوارًا يقوم على العقل و الدليل والبرهان الذي يوجد النقص والتقصير الذي يقود الى زيادة المشاكل ، بل يجب أن نبني حوارًا قائمًا على القلوب و استعمال الرفق والرقة ويوجد الألفة .
التعليقات (0)