أكمل سماحة الشيخ إبراهيم الصفا سلسلة محاضراته بحسينية الحاج أحمد بن خميس وذلك للّيلة الثامنة من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هـ ، وتحت عنوان " أسباب إنحراف العلماء و المثقفين " ، ابتدأ سماحته بآية من سورة الأعراف " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " ، الوقوف مع آيات القرآن الكريم و التدبّر في عطائها يوصلنا الى الكثير من الحقائق التي تلامس واقعنا الحياتي والمعاصر ، فالمولى عز وجل ومن خلال قوله أعلاه يتحدّث عن رجل من بني إسرائيل يدعى بلعم بن باعر و يعتبر بلعم من طبقة العلماء والمثقفين و أصحاب الريادة المعرفية فبدلًا من أن يوصله علمه نحو السعادة ويقوده علمه للكمال و أن يقف في صف الحق فقد انسلخ مما اعطاه الله ، بالرغم من أنه كانت تظهر على أياديه مظاهر المعاجز والكرامات وكان قريبًا كلّ القرب من الله عز وجل ، وما هي الا ساعة واذا الله يخاطبه في الآية التي تعقبها " ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون " ، فلم ينفعه علمه وما قرّبه علمه نحو الله ، و اللّيلة نثير موضوعًا مهمًّا وهو يدورحول سبب انسياق العقول المفكرة والعمائم العلمية والطبقة المثقفة نحو جادة الإنحراف .
هناك مقدمتان قبل موضوعنا ، المقدمة الأولى عندما نتكلم عن القران فإنه يؤسس جملة من الأحكام ، فإذا القرآن أسّس حكمًا ما ، فلماذا نجد بعض المعصومين يأتي بحكم آخر ؟ ما يأتي إلينا من سيرة المعصومين مما لا يتوافق ظاهرًا مع كتاب الله لا يُعد انحرافًا من قبل المعصوم ؛ لأن العترة هي عِدل القرآن فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عزوجل وعترتي أهل بيتي .. ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض " القرآن الكريم يطرح الدليل العام ، والمعصوم يطرح الرأي الخاص ؛ ففعل المعصوم و قوله وتقريره حُجة ، فجميع أفعاله تبيانًا لحكم الله . المقدمة الثانية هي الاختلافات الاجتهادية بين العلماء ، فالاختلاف في موارد الاستنباط ليس انحرافًا في العلماء ، فكلّ فقيه يبذل الجهد في الأدلة ، متى ما اختلف العلماء في فهم النصوص وانعكاس ذلك في فتواهم فهذا ليس انحرافًا ، فحين يقول النبي ( ص ) " صوموا لرؤيته " نجد بأن هناك عدة اختلافات فيها و جميعها ليست بدعة ولا انحراف ، بل بذل الوسع من أجل استنباط الحكم .
كلامنا اليوم حول سبب انحراف من هم في القامات العلمية و من تزيّوا بزية أهل العلم و ضلالهم عن الإستقامة ، و سبب انزلاق قدم أهل التنوير والطبقة الواعية المثقفة ، فانحراف هؤلاء قد يؤدي الى أن يهجر البعض المدرسة التي ينتمي اليها ، القرآن الكريم أكّد على قضية "الإستحمار" وهو موضوع خطير جدا ، وهو مفهوم مشتق من الآية القرآنية من سورة الجمعة " كمثل الحمار يحمل أسفارا " ، يوجد أناس من الطبقة المتنورة من يُبتلى بـ"الإستحمار المعرفي " فهو يحمل جميع أساليب الحياة ولكنه يموت ، وكذلك لمّا يأتي العالم ويضلّ عن الطريق ، وجمجمته تكاد أن تنفجر ممّا تحمله من العلم و أدمغتهم تكادُ تشتعل من المعارف ، ويفاجئك بآراءٍ تحارب الله ورسوله . هناك العديد من الأسباب ومن أهمّها انعدام التقوى ، لابدّ في أي مضمار اكاديمي أو حوزوي أن يكون البناء بناءان ، فحركة البناء بالنسبة للإنسان احداها صاعدة و احداها نازلة ، فمن يرتفع بالعلم يجب أن يتواضع ، البناء العلمي و الفكري و العقلي ما لم يكن مصحوبًا ببناء تقوائي فإنه يمثل خطورة على المجتمع ، و العلم بلا خوف من الله سبحانه وتعالى يعد كالقنبلة التي ستنفجر في أي وقت ، يقول الله عز وجل " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " . كل علم ما لم يفضي الى التقوى فهو وبالٌ على صاحبه ، فالعلم هو الطريق للكمال و عندما تذوب معاني التقوى والاخلاص والمعاني الروحية وكان القلب ضعيفًا وكان العلم بلا تقوى و بلا ورع و بلا خوفٍ من الله عزّ وجل يكون هذا العلم مؤهلًا للسقوط في الوحل .
السبب الثاني هو الحسد ، وهو من أخطر الأمراض التي تصيب الطبقة المتعلمة ، قال الباقر (ع) : إنّ الرجل ليأتي بأيّ بادرة فيكفر ، وإنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب ، مرض الحسد قد يجعل الإنسان ينقاد الى الشيطان وينحرف بل و يتسسبب في غواية أمة ، فموقعة العالِم خطيرة جدًا ، عن علي عليه السلام " صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس : العلماء والأمراء " ، المثقفون سبب تنوير الأمة و الحسد يقود الإنسان للانحراف و يقود الأمة الى ويلاتها . السبب الثالث هو البناء العلمي الركيك ، فليس من المعقول ان يطارح ويناقش العلماء ويرد على المتخصصين الذين لهم باعهم انسان قليل الدراسة والخبرة ، يجب ان يبني الإنسان نفسه بناءً صحيحًا ، ليست العمامة وحدها أو الشهادة من تصنع الإنسان رائدً من روّاد العلم ، فالبناء الصحيح لا يفضي الا الى نتائج صحيحة . السبب الرابع هو الإعتداد بالنفس و الغرور وهو من الأمور الخطيرة التي تبتلى بها الطبقة المثقفة وتكون لاعبًا مؤثرًا في الأمة ، الغرور لا يجرّ الا الى الضياع فهو لا يضع حرمة للمرجعية ولا الى العلماء ، فيقوم بالتفسيق والإسقاط وقد يصل الى إدّعاء الربوبية ، وعادةً ما يأتيه نقد وتوجيه ونصح ليضع قدمه على جادة الاستقامة لكنه يرفض ويتعالى وفي ذلك نماذج كثيرة كالحجّاج و المأمون و غيره . العبرة ليست بالغرور ، مهما قرأنا من الكتب واطّلعنا من العلم ، يجب علينا أن نعيش التواضع . السبب الخامس هو اعمال الرأي ، فالدين رصين والفكر الاسلامي رصين ، فمن يريد أن تكون له رؤية كونية حول الثقافة الاسلامية فعليه أن يبني عقله برصانة وأن يتحلى بالوعي والحكمة . لا ينبغي أن نحكّم عقولنا دون الرجوع الى الدليل ، فمن حكّم عقله أمام دين الله يتيه .
التعليقات (0)