أكمل سماحة الشيخ إبراهيم الصفا سلسلة محاضراته بحسينية الحاج أحمد بن خميس وذلك لليلة السادسة من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هـ ، وتحت عنوان " من قصص القرآن الكريم " ، ابتدأ سماحته بآية من سورة التوبة " و على الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا " ، القرآن الكريم هو المعجزة التي أنزلها الله سبحانه و تعالى على نبيّه المصطفى (ص ) فأصبح الآية الدالة على صدق نبوة النبي محمد ( ص ) ، عندما نقف مع القرآن فلا يجب علينا أن نقف مع القرآن فقط بأنه معجزة النبوة فالقرآن أبعد من ذلك ، فهو مشروع حياة ومشروع لصناعة الإنسان ، و عندما نتصفح أوراقه نجد أن ما بين الدفتين فيه درر لا حصر لها و يوجد فيه أحكام شرعية و آداب معنوية ، و تاريخ للأمم البائدة والماضية ، ويوجد فيه قصص كلها عبر ، و الليلة نكون مع قصة قرآنية نستلهمُ منها درسًا في واقعنا المعاصر .
عندما نقف مع القصص القرآنية فنجد فيها الكثبر من القصص وهذا أسلوب من أساليب التاثير ، فمن سورة الأعراف "ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون " ، القصة سبيل للتذكير و التفكّر والتدبّر ، وليس ترفًا أدبيًا وإنّما سيق في السياق الإعجازي ليكون طريقًا لتغيير واقع الأمّة واستلهام الدروس ، و الآية التي بدأنا بها الحديث من سورة التوبة تتحدّث عن ثلاثة أفراد ، الأول هو كعب بن مالك ، والثاني هو مرارة بن الربيع و الثالث هو هلال بن أمية ، عندما تحركت جيوش الروم ، وكانت الروم من الدول الكبرى - على اصطلاحنا الحالي - التي تمتملك ما تمتلك من الجيوش ، و قد تحرّكت نحوَ الدولة الإسلامية ، قد أمَر النبي بالخروج نحو تبوك و القتال هناك ، و لكنّ المنافقون روّجوا بأن من سوف يخرج مع النبي سوف لن يعود ، و قد خرج الغيارى المخلصون في الصفوف الأولى و البعض تأخر ، و أخذ المنافقون يقعّسون القوم ، و هؤلاء الثلاثة تقاعسوا عن الخروج ولكن ليس نفاقًا ولا عنادًا ، ولكن كسلًا وتسويفًا ، و خرجت الجيوش وهؤلاء يعدّون أنفسهم بأنهم سيخرجون .. كلّ يوم يُحدثون أنفسهم بأنهم سيخرجون ، الى ان عاد النبي بجيشه فاستقبلوه لأنهم يحبّونه ، لكن التسويف حال بينهم دون أن يكونوا تحت رايته ( ص ) ، وقفوا يُسلّمون على النبي ( ص ) فأعرض عنهم ( ص ) و لم يرد عليهم السلام ، ما إن رأى الصحابة فِعل النبي ( ص ) ، حتى قاموا بالمقاطعة الإجتماعية ، وبدأت كعصا للتأديب ، فقاطعوهم اقتصاديًا و اجتماعيًا و أسريًا ، و استشعروا بأنهم جزءٌ غير مرغوبِ فيه ، وضاقت الأرض عليهم بما رحبت ، فذهبوا الى الجبل ، وأخذوا يبكون الى الله لعلّه يغفر لهم ، وقد كان أولادهم يأتون لهم بالخبز والطعام ويذهبون عنهم ، في اليوم الثالث التفت كعب بن مالك الى أصحابه وقال لهم " لقد سَخَط الله علينا وسَخَط نبيّنا عَلينا .. فلِم لا يَسخطُ بَعضنا على بَعض ! " ، بعد ذلك تفرّقوا في الجبل وَهُم يَنتحبون ويبكون الى لله عزّ وجل ، فنزلت آية التوبة عليه ( ص ) ، وتاب الله عليهم فعادوا الى المجتمع ليكونوا افرادًا صالحين .
عندما نتأمل في الآية وسبب نزولها والإجراء العملي الذي اتخذته القيادة ، نستخلص من ذلك عدة دروس ، الدرس الاول هو خطورة المقاطعة كأداة من أدوات الضغط ، فلا تستهلّ بإسلوب المقاطعة في معالجة القضايا ، هناك عدّة أساليب لمعالجة قضايا إجتماعية و قضايا سياسية . وقد تكون تارة المقاطعة من الادوات التي تستعمل كأداة للتغير على مستوى الفرد ، فعندما يوجد إنسان يجاهر بالمنكر ، فتكون عند ذلك المقاطعة اداة من أدوات الرّدع ووسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وردع الضالين والمنحرفين .. لا لذواتهم بل لسلوكهم وأفعالهم ، فمتى ما غيروا تصرفاتهم رُفعت عنهم المقاطعة ، بعض الحالات تكون المقاطعة واجبة ، فإذا حضرنا في مجلس من المجالس و ذُكر أحد المؤمنين الغائبين بما يكره ، فالمرتبة الأولى هي النّهي عن المنكر والأمر بالمعروف ، فإن لم ينفع ذلك فالأولى أن تقاطع المجلس الذي لا يمكنك أن تغيّر فيه ؛ لأنه من العقوبات التي تسلب التوفيق العبادي ، فمن دعاء أبي حمزة الثمالي " كُلَّما قُلْتُ قَدْ تَهَيَّأتُ وَتَعَبَّأتُ وَقُمْتُ لِلصَّلاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَناجَيْتُكَ، اَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعاساً اِذا اَنَا صَلَّيْتُ، وَسَلَبْتَني مُناجاتِكَ اِذا اَنَا ناجَيْتُ.. مالي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلَحَتْ سَريرَتي، وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابينَ مَجْلِسي، عَرَضَتْ لي بَلِيَّةٌ اَزالَتْ قَدَمي، وَحالَتْ بَيْني وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ؟!.. سَيِّدي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَني، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني مُسْتَخِفّاً بِحَقِّكَ؛ فَاَقْصَيْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني مُعْرِضاً عَنْكَ؛ فَقَلَيْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَني في مَقامِ الْكاذِبينَ؛ فَرَفَضْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني غَيْرَ شاكِر لِنَعْمائِكَ؛ فَحَرَمْتَني .. اَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَني مِنْ مَجالِسِ الْعُلَماءِ؛ فَخَذَلْتَني " من الانعكاسات على الحضور في مجالس المعاصي والغيبة والنميمة ومواطن معصية الله ، أنه يسلب حلاوة العبادة وطعم الطاعة وعظيم المناجاة ، فالمقاطعة أسلوب من اساليب التغيير . فهي أداة من أدوات الضّغط السياسي و قَد تُؤدّي الى شلّ دولً عظمى ، و ضرب رؤوس المفخمين والأغنياء والمتغطرسين ، ووقوع كيانهم ، وهي من الأدوات السّلمية التي استخدمها أهل البيت عليهم السلام ، كأداةِ من أدوات الضّغط والحرب النفسية التي يشنّونها على الأعداء ولا سيّما على ظَلمةِ زمانهم ، و وسيلة من وسائل الضغط المعاصرة التي يتعاطاها الشعوب من أجل التغيير .
الدرس الثاني هو علاقة المقود مع القائد ، والأمة مع قائدها والرعية مع الراعي ، فكلّنا نترقّب ونشتاق لظهور امامنا ، ولكن لنسأل نفسنا ، ما هي طبيعة العلاقة بيننا كرعية وبين قاداتنا العليى الربّانية ، هناك نماذج متعددة من السيرة النبوية وهناك أكثر من صنف في تبوك ، الصنف الأول هم السبّاقون وفي طليعتهم الإمام علي عليه السلام فهم بمجرّد إشارة القيادة تجدهم في الطليعة فلا يناقشون ولا يسألون ، الصنف الثاني صنف المتقاعسون و المسوّفون الكسالى ، فقلوبهم كانت مع النّبي وحبّهم مع امام زمانهم و يذوبون فيه ولكنهم سوّفوا فخسروا مواقعهم ، الصنف الثالث هم الذين تخلفوا في البداية لكنّهم انطلقوا بعد ذلك ومن ضمنهم ، ابي ذر و ابو خزيمة الذين مضيا الى النبي ( ص ) ، وإن تخلّفوا أيامًا ، لكنّ نيتهم كانت مع امام زمانهم . الصنف الثالث صنف هو الصنف الذين تخلّفوا تخلّف نفاق ، فوقفوا وقالوا " والله لا يعود من ذلك الجيش ابدًا " و أخذوا يقعّسون الناس وهؤلاء من أهل النّفاق فهم يظهرون الحب لإمام الزمان والولاء له ، ولكنّهم أول من يحارب ويقاتل الإمام و يطعنه في ظهره . ماذا فعلنا لنكون من أنصار الإمام ؟ اذا كنّا في كل يوم نقول أننا سَنغيّر من أنفسنا و نزداد دراية ونحشو قلبنا ليزداد ايمانًا و نعد ما استطعنا من قوة ، ونجد أنفسنا في النهاية ما اعددنا شيء يُذكر ، ومع كل هذا أُؤمّل نفسي أن أكون من أنصاره ، فلنبدأ مشروع التغيير من يومنا هذا ونصلح انفسنا و نتوب من خطايانا ، و نؤسس لعلاقة وطيدة مع إمام زماننا ، كلٌّ له طاقة وعقل ، لكنّ الكسل هو الذي أخّر قومًا و قدّم قوماً .
التعليقات (0)