أن ينظر للموكب الحسيني في أحد تجلياته على أنه ظاهرة مسرحية فهذا بحث جميل وأمر يغري بالمرء أن ينطلق فيه لما في الموكب من مظاهر مسرحية متعددة تمكن من ( التآويل الواسعة الخلابة) وقد قدمت لذلك في دراسة سابقة تكلمت فيها عن اعتبار بعض نقاد الأدب والمسرح والباحثين والمستشرقين أن ما يقوم به المجموع الشيعي في البقاع الإسلامية من تمثل لواقعة كربلاء في عشرة محرم من أول كل سنة باسم الموكب الحسيني يعد من أبعد النقاط المسرحية شعبيا لتأصيل الحركة المسرحية في البيئة العربية، منهم جون باجوت اجلوب ألماني وعلي عقلة عرسان ومحمد الخزاعي وغيرهم، وما محاولة تأصيل المسرح العربي نفسه من خلال هذه الظاهرة إلا لبعدها تاريخيا فهي حركة إحيائية تعطي نفسها بعدا تاريخيا يتصل بالفترة الأموية إلى العباسية إلى ما بعدها، وهي ظاهرة غنية مسرحيا تستثير المتلقي بما يمكنه من تأويلها بأكثر من شكل مسرحي ليس أولها ولا أخرها مسرح احتفالي أو مسرح شارع أو مسرح ديني أو مسرح تغيري. وإن أصبحت أرى أنه لا حاجة لكل هذه العناوين المستعارة لأن في الظاهرة غنى وتفردا خاصا بما يمكن من اعتبارها ظاهرة مسرحية خاصة مستقلة بذاتها فنيا.
تمثيل عزاء بني أسد
وقريبا من اعتبار الموكب في شكله العام ظاهرة مسرحية بأكثر من تأويل كان بودي أن يتم بحث الزاوية المسرحية في مواكب العزاء في البحرين مباشرة وذلك بدراسة تاريخية توثيقية حول التمثيل المسرحي في المآتم الحسينية خصوصا ما كان يقام بها من مشاهد المعركة بحواراتها وصراعاتها الدامية بين جماعة تمثل الجيش الأموي وجماعة تمثل جيش الحسين في صبيحة يوم عاشوراء في أكثر من منطقة كقرية سترة أو بني جمرة أو الدراز، أو ما كان يقدم قبل عقدين أو ثلاثة عقود مضت من الزمن تقريبا، في ليلة الثالث عشر من المحرم في قرية السنابس باسم عزاء بني أسد والتي كان يقوم عليها في القرية مأتم بن خميس فما زال في الذاكرة الطفولية شيئا من ألق تلك الليلة وما زالت الأرض التي تمثل عليها تلك المشاهد ماثلة بين بيوتات السنابس، حينها كنا صغارا لا نتذكر سوى بداية ألق تلك الليلة وتجمع الناس حول موقع العرض لأن النعاس كان يغالبنا وينال من أجسامنا الطرية في ذلك البرد في الساحة المفتوحة بالقرب من السيف، وفي الصباح بعد أن نصحو تكون تلك الأرض قد امتلأت بوقع حوافر الخيل وبقع اللون الأحمر لون الدم وقد امتزج بالتراب وبالحفر التي كانت تمثل قبور الشهداء.
فضاء المكان قرب السيف
بعد موسم العشرة وبعد انقضاء ليلة العاشر من المحرم تلك الليلة التي تسمى الفاجعة والتي تحمل الثقل الأكبر بين ليالي محرم، بعدها كان الناس يجتمعون في ليلة الثالث عشر لعزاء بني أسد، وتخصص أماكن للرجال وأماكن للنساء لمشاهدة هذا العرض التمثيلي، وفي هذه الليلة المهيبة بعد جو تعبوي حزين استمر في الليالي السابقة يتم تمثيل مشهد جنائزي حزين هو من أقسى المشاهد إنسانيا، مشهد تمر به المعارك بعد النصر أو الهزيمة حيث تتوزع الجثث من القتلى والشهداء على الأرض، مقطعة الأعضاء وأشلاؤها متناثرة هنا وهناك، وفي هذا المشهد يتم إعداد أرض تمثل الساحة التي جرت فيها المعركة وسقط عليها الشهداء وتكون الأرض بمقدار مساحة 200 في 150 متر أو يزيد تقريبا في شكل مستطيل كمنصة عرض يتحلق حولها المشاهدون ويتم بها حفر مجموعة من الحفر لكي تكون قبورا جاهزة للحسين وبنيه، ويتم كذلك حفر ما يشبه غدير الماء ويؤتى بقدر كبير ليوضع في تلك الحفرة بما لا يدع الأرض تتشرب الماء وليمثل ذلك المشرعة أو النهر الذي وصل إليه العباس مخترقا صفوف الجيش حتى يأتي للأطفال بالماء.
ويوضع في هذه الأرض مجموعة "الشبيهات" وهي عبارة عن دمى لأجساد مقطعة الرؤوس ومضمخة بلون الدم الأحمر القاني، وهي مبتورة الأيدي والأرجل لتمثل جثث الشهداء بعد تساقطها في المعركة الدامية، وتوزع على أرض بالشكل التالي: في البداية من جهة الغرب الشمالي يوضع جسد مدمي يمثل شيخا كبيرا هو جسد الشهيد حبيب بن مظاهر الأسدي، وبعده بخطوات جثة مقطوعة الرأس ممتلئة بالسهام والنبال المصنوعة من سعف النخل وبها سهم ذي ثلاث شعب يستقر في وسط الصدر ويخرج من الظهر، وبجانب هذه الجثة جسد طفل صغير مقطوع الرأس لتمثيل الحسين الذي أصيب بالسهم الثلاثي وطفله الرضيع، وقد قتل من الوريد إلى الوريد كما هي عبارة المقتل، وبالقرب منها بخطوات جسدان لشابين مقطوعي الرأس يمثلان القاسم بن الحسن وعلي الأكبر بن الحسن مضمخين بالدماء والسهام تملؤهما، وتنصب كذلك في أحد الجوانب خيمة تمثل خيمة الحسين أو هي خيمة لبني أسد بعد عقدهم النية على المكوث هذه الليلة لدفن الأجساد، وما يلحظ أن هذه الأجساد في صورتها البسيطة والمباشرة هي ما تسمح به المخيلة العقيدية عادة في محاولة تمثيل الحادثة التاريخية حذرة شيئا ما على عدم التحريف المباشر أو الانحراف عن نص السرد التاريخي، وإن كانت المخيلة في تعاطيها الطقسي لهذه المأساة تستكمل كثيرا من المشاهد بما يجلي حالة المظلومية الواقعة على الذات في تعاطيها مع الواقع وما تمارسه الأنظمة القامعة فتحاول أن تتصور الحدث من خلال القدرة على استكمال النص من الذات المقموعة.
سرد الحدث بعد المعركة
وخلال هذه المشاهد يتم تمثيل الحدث الأساسي وهو إجراء مراسم دفن الشهداء من خلال سرد مأساوي للحادثة حيث يحضر مجموعة يمثلون نساء ورجال بني أسد الذين كانوا يسكنون قريبا من منطقة كربلاء متجهين إلى غدير الماء، فيشاهدون هذه الأجساد المقطوعة الرؤوس ممددة على الأرض وبعد تفاجئهم من وقع وهول المشهد يتساءلون عن هذه الأجساد وأصحابها وكيفية دفنهم وهم من غير رؤوس وقد تناثرت أشلاؤهم أعضاءهم من أيدي وأرجل على ساحة المعركة حينها يلوح لهم فارس قادم من بعيد فيخافون ويرتاعون لهذا القادم فهم في جو من مشاهد تبعث على الرهبة والرعب في النفس ويجعلهم يخشون من أي قادم، لذلك قاموا بوضع حارس على الجادة من الطريق لعلمهم بأي طارئ، فيقترب الفارس القادم ويخبرهم بأنه علي ابن الحسين جاء لدفن أبيه وإخوته وأبناء وعشيرته والأنصار الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله وسقطوا تحت راية الإسلام واستشهدوا بين يدي إمامهم الحسين، فيضج المكان من تفاعل الجمهور بالندب والنعي المختلط بالبكاء منادين في صرخات واحسيناه واغريباه واشهيداه، وبعد ذلك يقوم هذا الفارس بالدلالة على هذا الأجساد وبيان أصحابها راويا كيفية حدوث المعركة والمقتل بالتفصيل مما يعيد شحن الجو من جديد بالبكاء والندب مع سرد مقتل كل شخصية على حدة فهذه الجثة للشاب القاسم بن الحسن وتلك الجثة لعلي الأكبر بن الحسين وتلك الجثة التي بالقرب من النهر للعباس المقطوع اليدين، وذلك الطفل هو طفل الحسين وقد ذبح على صدر أبيه عطشانا في مشهد مأساوي كبير وهذا الجسد الممزق الأعضاء ذو السهم الثلاثي للحسين ابن علي بن أبي طالب وهكذا بعد تعريفهم بالأجساد وأصحابها يقوم ومعه بنو أسد بتجميع الأعضاء ودفنها كل في مكان سقوطه.
الشخوص وأهم الممثلين
بالرغم مما يشوب هذا المشهد التمثيلي من بساطة في الأداء المسرحي لكن ثمة شعور بالتفاعل العميق يجعلك تقول ما أكثر بلاغة التوصيل التي يقدمها الخطيب جرّاء المهارة والقدرة الصوتية المتمكنة لديه، ولذلك فإن الشخصية الأساسية في هذا المشهد التي هي شخصية علي بن الحسين لم يكن ليمثلها سوى الخطيب الحسيني حيث يقوم باستعادة رواية المقتل في هذه الليلة من جديد، مع أبيات من الشعر الحسيني بأطوار النعي المعروفة القريبة من المقامات العربية والأطوار العراقية والبحرانية، وأما بقية الشخصيات فتكون مثل مجموعة الكورس المدعمة للمشهد بالرغم من دورها الأساسي من خلال التساؤلات المتعددة لتمثيل حلة الحيرة والتفاجؤ واستثارة الجوى الإنساني الغاضب المتعاطف مع الشهداء والغاضب على أعدائهم ومن ساقهم لمثل هذا المقتل، ويكون الجميع قد ارتدى الثياب التاريخية ذات الألوان المختلفة وقد أحضروا معهم أدوات الحفر.
ومن أهم الخطباء توالوا على التمثل في عزاء بني أسد لسنين عديدة ومتوالية هم الخطيب الحسيني عبد الوهاب الكاشي "رحمه الله" و الخطيب الحسيني السيد جاسم الكربلائي"رحمه الله" والملا الحاج حسن سهوان"رحمه الله" والد الرواديد المشهورين في البحرين والملا أحمد بن ناصر المعلم والملا عبد العزيز المشيمع"رحمه الله" أما بقية الرجال الذين يمثلون رجال بني أسد فالبعض قد توفي رحمهم الله والبعض الآخر ما زال موجودا ولديه الكثير من الذكريات حتى أن البعض منهم قد لحقته بعض الأسماء من ذلك المشهد التمثيلي الذي تعاقب على تمثيله في كل عام.
فترة التوقف
أما عن سبب توقف تمثيل عزاء بني أسد فهو لرفض بعض الخطباء التمثيل لما دار في تلك الفترة من حرمة بعض الفقهاء للتشبيه أو تمثيل الشخصيات المقدسة أو ما كان يصاحب تلك المشاهد من عدم انضباط حالة الجمهور وانتظامه مما كان يسبب إهانة لتلك الفعاليات والشعائر الحسينية أو لتغيير مكان الأرض التي يقام عليه التمثيل أو للرغبة التي اجتاحت فترة الثمانيات من محاولة جعل قلب هذه الفعالية التمثيلية إلى مسيرة نظرا للدور الكبير الذي كانت تقوم به المسيرة العزائية في تلك الفترة متناسين أهمية مسألة التنويع في الفعاليات ومدى قدرة والمسرح وحالة التمثيل على خلق سعة شديدة من التواصل الفاعل والقادر على خلق التغيير الكبير الذي يراد من هذه الفعاليات في أبلغ تعبير.
أمل وتطلع
وقد شهد فترة التسعنات وما بعدها حالة من التسارع نحو استعادة هذه الفعاليات في أكثر من منطقة من خلال مجموعة من العروض المسرحية لمجموعات عديدة في مختلف مناطق البحرين من الشباب الجادين الذي يجتهدون سنة بعد سنة لتقدم قضية الإمام الحسين مسرحيا والذين يؤمل لهم أن يتطورا فنيا ويكون تمثيلهم بمستوى الحدث في التعبير عن أهداف ثورة الإمام الحسين التغيرية مع مراعاة أهمية التمكن من الأدوات المسرحية لتقديم نص أجمل، وعرض أكمل، وأداء أفضل.
التعليقات (1)
أبو مقداد الكويت
تاريخ: 2010-12-07 - الوقت: 11:05 صباحاًتحويل العمل الواقعي وبالذات المأساوي إلى مشهد درامي تمثيلي إنما يعني كيفية الاستفادة من فرص الواقع وما أكثر هذه الفرص لكن الإنسان لا يستفيد من أكثرها وتدخل ضمن النسيان ولا يكون الإنسان حكيماً ومفكراً وهو يقضي يومه وليلته كما قضاهما بالأمس دون استفادة واتخاذ عبر ومأساة كربلاء كعمل درامي يجعل الأمة تفتخر بأبطالها وقادتها ، والتمييز بين إمام حق وإمام باطل وهذا التصور والفكر يهاب منه النواصب لذا ألقوا جام غضبهم وحقدهم على المآتم الحسينية ، بينما الإنسان الحر وصاحب ضمير حي ولو لم يكن مسلماً يتفاعل مع هذا الحدث