عندما صار علي عليه السلام على فراش المرض بعد أن ضربه عبدالرحمن ابن ملجم بسيفه في محرابه بمسجد الكوفة سنة 40 هجرية، وصف الأطباء اللبن دواءً وغذاء للإمام، فبادر الناس حتى الفقراء والمعدمون في الكوفة بجلب ما يتمكنون من اللبن إلى بيت الإمام، حمل الإمام الحسن، واحداً من أقداح اللبن إلى الإمام علي، فلما شرب منه قليلاً ناول ولده بقية القدح وقال: «خذوه لأسيركم أطعموه مما تأكلون واسقوه مما تشربون الله الله في أسيركم».
لم تمنع حرار شفير السيف الغائرة في رأس علي، عقله، وقلبه، من تذكر قاتله، والإشفاق عليه، وهو يقترب من الموت بسببه، فساق إليه سُؤْره من اللبن، وهو الأقدر أن يهلكه جوعاً، بل وقتلاً وتمثيلاً، في طرق الكوفة وزقاقها، فهو أمير الدولة الإسلامية، وسيد القرار فيها، إلا أنه اختار أن يضرب مثلاً يرسخ في ذاكرة الإنسان.
لم يكن للانتقام في قلب علي مساحة يتحرك من خلالها، فقد كان هذا الرجل الشامخ أنموذجاً راقياً للتعامل مع الأقليات من مختلف الأديان، حتى هام في حبه النصارى، قبل المسلمين، وملأوا بعهده الزاهر المضيء مكتباتهم، وعلى رغم تسلمه إمرة المؤمنين إلا أن الهائمين فيه، والمغرمين برقيه، وإدارته للحكم، ومكنته في تكوين مجتمع متعايش بين الجميع، كثيرٌ منهم من غير المسلمين، ومازالت كتبهم تدون شهاداتهم التي لن تسقط من ذاكرة التاريخ.
وقد عشنا قبل أيام ذكرى استشهاد هذا النموذج للشريعة السمحاء، نسمع بنماذج عديدة تروّج بأن الإسلام محصور في قناعاتها الجاهلية، التي أعطت صورة مغايرة للإسلام، ولطخت وجهه بالدماء التي تجريها كجريان الماء، حتى صار جزّ الرؤوس، ورمي الجثث من أعالي الجبال، وإحراق الكنائس، وبث الرعب في نفوس النساء، صورة من صور الإسلام الجديد الذي لا يمتُّ للإسلام الأصيل بصلة.
بقلم عقيل ميرزا
التعليقات (0)