* ( إنّي أُريدكم لله ، وأنتم تُريدونني لأنفسِكم ) .
عظمة وخلود شخصيّة أمير المؤمنين (عليه السّلام) من الأمور المتسالم عليها في التاريخ الإسلاميّ ، وبين أتباع جميع الفِرق الإسلاميّة ، حتّى الخوارج ـ الذين جاهروا أمير المؤمنين (عليه السّلام) بالعداء ـ أبدَوا ندمهم في الفترات اللاحقة ، بل أنكروا أنّهم عادَوه وحاربوه يوماً ما ، وحتّى أتباع الاتّجاه العثماني ، والذين يعدّهم الوهّابيون أسلافهم في الحديث والسُّنّة ـ الذين لاموا أمير المؤمنين (عليه السّلام) على خوضه الحروب التي أُجبر على خوضها واقتحام أُتونها ، والذين عدّوه مَدعاةً للفُرقة بين المسلمين ـ لم يلبثوا إلاّ قليلاً حتّى عادوا بعده ، فأقرّوا بعظمة شخصية الإمام (عليه السّلام) ، والشاهد على هذه المقولة مسند أحمد بن حنبل ، المشحون بفضائل أمير المؤمنين (عليه السّلام) .
أمّا إعجاب غير المسلمين بشخصيّة أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقد أبرزته كلمات العديدين منهم . من بينهم ـ على سبيل المثال ـ : جورج جرداق وبولس سلامة وسليمان كتّاني وجبران خليل جبران ، وغيرهم كثير من المؤلّفين المسيحيين العرب الذين تعرّفوا على شيء من أبعاد شخصيته الفذّة (سلام الله عليه) .
ومن الحكايات الشيّقة ، حكاية تعامل الصدر الأعظم القاجاري مع كاتبٍ له كان قد دوّن ( عهد الإمام عليّ (عليه السّلام) إلى مالك الأشتر ) . قيل : إنّ كاتباً كتب ( عهد الإمام (عليه السّلام) إلى مالك ) بخطّ جميل وأخذه إلى الصدر الأعظم القاجاري فسلّمه إليه ، وكان المجلس مكتظّاً ، فأمره الصدر الأعظم بالجلوس والانتظار ، فلمّا انفضّ المجلس وتفرّق الناس قال له : لماذا فعلتَ ما فعلت ؟ قال : أنت الصدر الأعظم ، ويمكنك أن تستفيد من هذا العهد . قال الصدر الأعظم : لو كان لهذه المدوَّنة قيمة ، لكان عليّ بن أبي طالب قد أفاد منها في حكومته ، فلم يبقَ وحيداً ، ولم يُستشهَد ! سأل الكاتب : فلِمَ لم تَقُل ذلك أمام الناس ؟ قال : لو كنتُ قلتُه ، لثاروا في وجهي وخالفوني . قال الكاتب : إنّ هذا الأمر يدلّل بنفسه على أنّ شخصيّة الإمام علي (عليه السّلام) ـ بوضعها الذي تصفه ـ قد حظيت بالقبول بحيث إنّ صدراً أعظم مثلك لا يجرؤ بعد ألف سنة ونيف على أن يتفوّه بشيء ضدّه أمام الناس ، بينما نرى معاوية ـ الذي انتصر في الظاهر ـ قد أبغضته القلوب بحيث إنّ أحداً لا يمكنه التصريح بمتابعته وحبّه.
* الإمام (عليه السّلام) مع الناس :
بقي التشيّع يجسّد على مدى التاريخ ـ وخلافاً للتسنُّن ـ حركة المعارضة ورفض الانسياق للأكثريّة ، فقد بايع أكثر الناس في حادثة السقيفة أبا بكر ، بينما تابع عدد يسير منهم الإمام عليّاً (عليه السّلام) سرّاً أو علانية . وتكرّر الأمر في عصر الإمام الحسن (عليه السّلام) ، ثمّ في عصر الإمام الحسين (عليه السّلام) ، أي أنّ أئمّة أهل البيت ( عليهم السّلام ) لم يحظوا بمتابعة الأكثريّة .
ولقد وَلِيَ أمير المؤمنين (عليه السّلام) الخلافة فبايعه أكثر الناس ، لكنّهم سرعان ما انفضّوا عنه ليلتحقوا بمعاوية ، حتّى أهل العراق الذين ساندوه ، لم يلبثوا أن شطّت بهم الأهواء عنه .
وقد جاء في التنزيل العزيز أنّ هذه المسألة تعرّض لها الأنبياء السابقون ، الذين مثّلوا مع أتباعهم الأقليّة في مجتمعاتهم ، بينما وقف مخالفوهم في صفّ الأكثريّة . وعلى الرغم من أنّ هذه المخالفة كانت ترجع في أصلها إلى أمر الإيمان بالدين الذي جاء به أولئك الأنبياء ، إلاّ أنّهم كانوا يشكّلون ـ على أيّ حال ـ الأقليّة مقابل الأكثرية الساحقة ، وهو أمرٌ قد يجعل البعض يتساءل عن مدى الملازمة بين الأكثريّة وبين الاستمساك بالحقّ .
إنّ قاموس الدين الذي يتعامل مع الحقّ والباطل على أساس المعايير السماويّة ، والذي تستأثر فيه النصوص الدينيّة بالقول الفصل ، قد صرّح بأنّ الحقّ سيبقى حقّاً ولو لم يتّبعه حتّى نفر واحد ، وهذا هو الأساس الذي آمن به الإمام عليّ (عليه السّلام) وتحرّك على ضوئه . وعلى الرغم من أنّ الإمام لا يمكنه ـ بدون متابعة الناس وحضورهم في الساحة ـ أن يَشْرَع في عمله التغييري ، لكنّ ذلك لا يعني أن يعتبر الحقّ تابعاً لرأي الناس ؛ لذا وجدنا أمير المؤمنين (عليه السّلام) يخاطب أصحابه : ( لا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ وجُوعُهَا طَوِيلٌ ) .
والأساس الذي يقوم عليه العمل في قاموس الدين هو حُكم الله ورسوله ، وليس ثَمَّة حاجة ـ إذا قضى الله ورسوله أمراً ـ لاتّباع رأي الناس ؛ لذلك رأينا الإمام (عليه السّلام) يعتبر حضوره في الساحة يستند إلى حضور الناس ، لكنّه ـ مع ذلك ـ يصرّح بأنَّ رسالته هي إجراء الأحكام الإلهيّة ، لا متابعة آراء الناس .
وقد ذَكَرَ ـ دونما مؤاربة ـ أنّه غير مستعدّ إلى التشاور مع الناس في ما يعلم أنّ الله تعالى حَكَمَ به ، يقول (عليه السّلام) في الخطبة (205) من نهج البلاغة ، مخاطباً طلحة والزبير :
( واللَّهِ ، مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلافَةِ رَغْبَةٌ ، ولا فِي الْوِلايَةِ إِرْبَةٌ ، ولَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا وحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا . فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ ، نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ومَا وَضَعَ لَنَا وأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ ، ومَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ ( صلَّى الله عليه وآله ) فَاقْتَدَيْتُهُ ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا ولا رَأْيِ غَيْرِكُمَا ، ولا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .ومن هنا اعتبر أمير المؤمنين (عليه السّلام) خلال تبيينه الواجبات التي تقع على عاتق الإمام ، والحقّ الذي للإمام على الناس ، أنّ العمل بكتاب الله وسُنّة نبيّه وإحياء سيرة النبيّ الأكرم هو المنهج الذي يسير على ضوئه ويلتزم به .
يقول (عليه السّلام) في الخطبة (170) بعد إشارته إلى مُخالفة مَن خالفه : ( ولَكُم عَلَينا العمَلُ بكتابِ اللهِ ، وسيرةِ رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، والقيامُ بحقِّه والنَّعْشُ لسُنّته ).
* تعامل الناس مع الإمام (عليه السّلام) :
تجربة الإمام عليّ (عليه السّلام) في التعامل مع الناس تجربة فذّة ، فقد تسنّم الإمام منصب الخلافة بطلبٍ من عامّة الناس ، ثمّ تفرّق عنه مريدوه فبقي وحيداً . ونقصد بالناس هنا عامّتهم . أمّا شيعة الإمام (عليه السّلام) ، فقد بايعوه على أساس الموالاة ، وحفظوا له حقّه في الطاعة والمودّة والاحترام . وقد نقل الطبري أنّ طائفة من الناس بايعوا عليّا (عليه السّلام) على أن يوالُوا مَن والاه ويُعادُوا مَن عاداه ، وهم الخواصّ .
وعلينا أن نذكّر ـ قبل أيّ شيء آخر ـ أنّ التغيير الاجتماعي والسياسي له مناهجه وقوانينه الخاصّة التي لا يتخطّاها ، وأنّ بالإمكان التعرّف على هذه القوانين إلى حدود معيّنة . وأنّنا إذا تعرّفنا على السنن الإلهيّة الجارية في المجتمع ، وتعرّفنا على طبيعة وتركيبة المجتمع الذي نرغب في دراسته ، فإنَّنا سنتمكّن من متابعة مسيرة التغيير في ذلك المجتمع على نحوٍ أفضل .
إنّ أسئلة من قبيل : ( لماذا وصل الشخص الفلاني أو الدولة الفلانية إلى سُّدَّة الحكم ؟ ولماذا سقط الشخص الفلاني أو الدولة الفلانيّة ؟ ) لها إجاباتها العلميّة الخاصّة التي تستند إلى تركيب أفراد المجتمع ، ووضع قدرة أولئك الأفراد في المجتمع والأحزاب والقبائل والأشراف ، ومواضعهم وعلاقاتهم . وقد ترتبط أحياناً بوجود أفراد من ذوي القدرة ، وبوجود الصفوة والرؤساء ، وبطائفة من الآداب والعادات والعقائد والأفعال وردود الأفعال التي حصلت في ذلك المجتمع . ولو سادت مجتمعاً ما حسّاسياتٌ أخلاقية أو دينية أو قَبلَية أو عسكريّة وسلطوية ذات خصائص معيّنة ، فإنّ التغيير الأساس سيدور حول ذلك المحور المعيّن .
وكان للمجتمع الذي استُخلف فيه أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد 25 سنة من وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، تعقيداته الخاصّة التي ينبغي دراستها من جانبيَن :
الجانب الأوّل : بلحاظ التعرّف على القبائل ومحاور النفوذ والقدرة .
الجانب الثاني : بلحاظ الآثار التي تركتها السنوات المتصرّمة منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وهناك ـ في الجانب الأول ـ عدة ملاحظات :
1 ـ إنّ القوّة كانت في يد قريش وحدها ، وإنّ الآخرين لم يكن لهم القدرة على تشكيل دولة تضمّ جميع الأطراف .
2 ـ أنّ قبيلتَي تَيْم وعَدِيّ القرشيّتَين ، ونفراً من بنيّ أُميّة ( عثمان ) ، قد تصدّوا للحكم خلال السنوات التي أعقبت وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وانتهت بخلافة أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأنّ هذه القبائل القرشيّة ، بل قريش بأجمعها ـ عدا بني هاشم ـ قد خسرت الميدان .
3 ـ أنّ مرشّحي الجناح الآخر لحزب قريش ـ وهم بنو هاشم ـ قد وصلوا إلى الحكم مدعومين من قبل سائر الأحزاب الأخرى ـ أي من قِبل قبائل العراق . وقد ساهم التاريخ المشرق لهذا المرشّح ، وتميّزه بعدم اختلاطه بالحكومات السابقة ، في حيازته تأييد الأحزاب المخالفة ، كما كان لشيعته دور فعّال في الدعوة إليه وفي إرساء قواعد حكومته .
4 ـ إنّ الأجنحة القرشيّة الأخرى شرعت بمخالفة أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد أن بايعه الناس ، وخاضت ضدّه حربَي الجَمَل وصِفِّين ، وشقّوا اتّحاد قبائل العراق في متابعته ؛ فنشأ اتّحاد جديد ضدّه يتألّف من قبائل الشام وبعض قبائل العراق .
5 ـ وها هو أمير المؤمنين (عليه السلام) يقف وحيداً سنة 40 هجريّة ، وقد تفرّق جُنده عنه ـ وكانوا يفتقرون إلى تركيبة قبليّة منسجمة ـ فانحاز بعضهم إلى الخوارج وشبّوا في معسكره نار حربٍ داخليّة جديدة ، وبقي البعض الآخر لا حول له ولا قوّة ، بينما يتحرّك ـ في المقابل ـ اتحاد جديد أوجَدَه معاوية بين القبائل المعارضة ، في طريقه إلى السلطة نيابةً عن الجناح القرشيّ المهزوم . وقواعد لعبة السياسة الماكرة تقتضي هنا أن يكون معاوية هو الفائز في الميدان .
وقد استند هذا التحوّل إلى حقيقة الدور الكبير الذي لعبته القبيلة : ابتداءً من الأهميّة الكبيرة للمنافع القبليّة ، ومروراً بالعناصر الثلاثة التي قادت مسير هذه التحوّلات :
1 ـ قريش .
2 ـ موضع سائر القبائل .
3 ـ الإسلام والمنزع الإسلامي .
فقد كانت السيادة لقريش ، وكانت القبائل الأخرى هي الوسيلة لوصول قريش إلى الحكم . ونقصد بقُريش : بنو تَيم وبنو عَدي وبنو هاشم وبنو أُميّة ، وكان الإسلام الذريعة التي استخدمتها غالبيّة قريش وعامّة الناس للوصول إلى السلطة ، وكان الجميع ـ بطبيعة الحال ـ يصلّون ويحجّون .
أمّا الإمام وخواصّه ، فقد انحصر همّهم في أن ينظروا إلى كلّ شيء من خلال الرؤية الإسلاميّة الخالصة ، أي من رؤية كتاب الله وسُنّة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، بينما لم يتجاوز هذا الأمر لدى الآخرين مجرّد الذريعة التي يتوصّلون بها إلى مقاصدهم ، إذ لم ينظروا إليها إلاّ في حدود منافع قبائلهم التي تقوم على أساس من رعاية منافع النُّخبة .
وحسب تعبير الإمام (عليه السّلام) نفسه ، كان الفاصل الكبير الذي يفصل بينه وبين الناس : أنّه كان يفكّر في الإسلام ، وأولئك كانوا يفكّرون في أنفسهم ؛ فكانوا ـ لذلك ـ يريدون إماماً يضمن لهم منافعهم الشخصيّة . أمّا أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فكان يريد قوماً يقيم بهم حدود الإسلام . يقول (عليه السّلام) : ( إني أُريدكم لله ، وأنتم تُريدونني لأنفسكم ! ) .
وكفى بذلك فارقاً كبيراً بين الطرفَين ، فقد كان الإمام (عليه السّلام) ينظر نظرةً إلهيّة دينيّة ، بينما لم يتجاوز نظر الناس منافعهم القبَليّة . كان الناس يريدون منه أن يحفظ مركزيّة العراق ، ويُغدق عليهم الغنائم من الثغور ، وأن يعيشوا في رفاه واستقرار ، وأن يصلّوا ـ بطبيعة الحال ـ ويصوموا ، وأن يستخدموا الأعاجم من إيران والروم لتأمين منافعهم ، وأن يكون للأشراف والنّخبة منافعهم الخاصّة التي تمكّنهم من استقطاب عامّة الناس ، وبغير ذلك فإنّهم سيثورون ويمدّون أيديهم إلى عدوّ عليّ (عليه السّلام) اللدود كما فعلوا ذلك فيما بعد .
والأمر الآخر الذي ينبغي مناقشته هو الوقائع التي جرت خلال هذه السنوات الخمس والعشرين :
1 ـ جرى في بادئ الأمر تحرّك سريع لقمع مخالفي تيّار السقيفة ، تبعها ـ في المرحلة اللاحقة ـ فتوحات وانتصارات متلاحقة وتدفّقت الغنائم على نحوٍ تغيّر معه وضع المسلمين كليّاً . وكان الطرف الآخر في هذه الحروب الكفّار ، لا أهل القِبلة ، أي أنّ المسلمين كانوا يجاهدون في هذه الفتوحات دون أن يدور بينهم اختلاف ما .
2 ـ حصل في هذه المرحلة اجتماعي مهمّ ، هاجرت خلاله قبائل كثيرة من جزيرة العرب إلى العراق والشام ، فتشكّلت ـ على نحو هادئ ـ إمبراطورية عظيمة مركزها المدينة ، وحاكمها ( الخليفة ) .
3 ـ حصل تحوّل في المجتمع العربي في العراق والشام من جراء تزايد الأعاجم بالهجرة أو بالأسر ، ممّا جعل إدارة أمورها أصعب وأعسر من قبل .
4 ـ ظلّت دفّة الحكم بيد قريش ، وكانت الدولة ـ كلّما اقتربنا من عهد عثمان ـ تصطبغ بالتدريج بصبغة قريش ، بل بصبغة بني أُميّة ، وظهر نظام ملكي واسع يحاول الاستئثار بكلّ شيء ، ويسعى إلى إدارة هذه الإمبراطورية الكبيرة من خلال أُفق ضيّق قبلي وعربيّ ، بعيداً عن الإسلام وروحه ، وقد عبّر عن سذاجته في إدارة الحكم بحصره جميع المنافع في الأُمويّين ، ممّا أثار حفيظة باقي القبائل ، ودفعها ـ وقد رأت منافعها مُصادرَةً لحساب الآخرين ـ إلى الثورة .
5 ـ تمّ في هذه المرحلة ـ جرّاء السياسات الماليّة للخلفاء ـ إرساء نوعٍ من التفرقة الطبقيّة الخاصّة بين الناس ، ففُضّل العرب على العجم ، وفُضّل المهاجرون والأنصار على سواهم ، فكان في ذلك خدش للعدالة الاجتماعيّة .
6 ـ وكان الصحابة الذين تفرّقوا في المدن المختلفة يديرون الأمور باللحاظ الفكري ، ولم يكن للخليفة في المدينة حظّ كبير في العِلم ، ولم يكن الصحابة ـ من الجانب الآخر ـ قد تلقّوا تعليماً منظّماً ، فظهر إثر ذلك اختلاف في وجهات النظر في الدين والفقه، وتزايد الغموض والإبهام لانعدام المرجعية العلمية الواحدة ، وظلّت الأسئلة تُطرح دون أن يُجيب عليها أحد ، وكان موج من المسائل الجديدة يتدفّق من أطراف الإمبراطورية من قِبل الذين أسلموا حديثاً ومن قبل غير المسلمين ، فيزيد في الغموض والإبهام .
واستتبع مجموع هذه المشاكل أن يفكّر الناس بعد الثورة على عثمان ـ نتيجة سخط سائر أجنحة قريش على حكومة عثمان وبني أُميّة ، وسَخط قبائل العراق على الجناح القرشيّ الحاكم ـ أن يفكّروا في مصلح يُعيد تنظيم الأمور ويُقرّ العدل في توزيع الثروات . وكان هناك أفراد قلائل يستهدفون في ثورتهم إحياء الإسلام ، وهو نفسه الهاجس الرئيس لدى أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، إلاّ أنّ الأكثرية كانوا يرغبون في أن يُعاد تقسيم الثروات على أن يكون للخواصّ والأشراف امتيازاتهم الخاصّة .
وكان الشيعة يهدفون إلى القضاء على الفساد المستشري ، وإلى تحقيق العدالة الاجتماعية ، وإلى الاستمداد من عِلم الإمام بوصفه آخر الأوصياء في الإجابة عن المسائل العالقة ، ويأملون في إقرار حكومة لا تفكّر في الغنائم والفتوحات كثيراً ، بل تضع نَصب عينها حماية الفكر والأخلاق في المجتمع الإسلامي ، وتغلّ أيدي بني أُميّة المتطاولة وتكبح جماع شرّهم .
وكان الإمام عليّ (عليه السّلام) يريد الناس لله ويريدهم لإحياء السُّنّة النبويّة ، فبدأ عمله في الإصلاح ضمن هذا الإطار ، فلقيَ تجاوباً جماهيريّاً في بادئ الأمر ، وعَمِل (عليه السّلام) على الانتصاف للمظلومين من ظالميهم ، وعلى إزالة الفواصل الطبقيّة بين الأشراف والأتباع . فلمّا يئس الأشراف والخاصّة من باطله ـ وكان لهم نفوذهم بين الناس ـ قاوموه . ولم يكن الإسلام قد استحكم في النفوس ، ولم يكن عامّة الناس قد تلقّوا طوال السنوات الخمس والعشرين تربية ثقافية تُذكر ، وكان للقبيلة مركزها الكبير الذي زاد تأثيره خلال الفترة التي أعقبت ارتحال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؛ فلا عجب أن يعبّر أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن قلقه من هذا الوضع ، في قوله (عليه السّلام) في الخطبة (192) : ( فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ ونَخَوَاتِهِ ، ونَزَغَاتِهِ ونَفَثَاتِهِ . واعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ ، وإِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ ، وخَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ ، واتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وبَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ ... أَلا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وكُبَرَائِكُمْ ، الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ ... فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ ودَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وسُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ ) .
لقد ترسّخت الممارسات التي استُعملت طوال السنوات السابقة فأضحت سُنّة ، ولم يكن للناس دين راسخ يوحّدهم ، ولا حميّة يدافعون بها عن كيان العراق مقابل عدوّهم في الشام ، وكان همّهم في الغنائم ، ذلك الهمّ الذي ورِثوه وألِفوه .
وقد ذكر أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخطبة السالفة تحليلاً مفصّلاً عن الوضع التاريخي لبني إسرائيل ، وأسْرهم مِن قِبل الأكاسرة والقياصرة والفراعنة ، ثمّ خاطبهم بقوله : ( أَلا وإِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ ... واعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً ، وبَعْدَ الْمُوَالاةِ أَحْزَاباً . مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الإِسْلامِ إِلاَّ بِاسْمِهِ ، ولا تَعْرِفُونَ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ ... أَلا وقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الإِسْلامِ ، وعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ ، وأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ ... ) .
ثمّ احتدمت الحرب ـ في مسيرة الإصلاحات ـ بين الإمام ومخالفيه ، وكانوا من أهل القبلة ، واختفت الغنائم في هذه الحرب فلم تَعُد على الناس بنفع مادّي ؛ لذا نلحظ أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهو يشير إلى صعوبة الحرب مع أهل القِبلة ، ويبيّن أنّ أصحاب البصائر هم وحدهم الذين يمكنهم تشخيص الحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل .
يقول (عليه السّلام) في الخطبة (173) : ( وقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، ولا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلاَّ أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ والْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ ، فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ ، وقِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ، ولا تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا ) .
وعلى أيّ حال ، فقد تزايدت الشُّبهات خلال هذه الحروب المدمّرة التي راح ضحيّتها عدد كبير ، وكان معاوية يستعمل الدين كذريعةٍ ليس إلاّ ، وكان من مصلحته ـ لذلك ـ أن تزداد الشبهات لدى أهل العراق . وكانت هناك أرضيّة ـ بطبيعة الحال ـ لرواج مثل هذه الشُّبهات ؛ فقد شهد الناس حضور زوجة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حرب الجَمَل ، كما شاهدوا في صفّ خصوم أمير المؤمنين (عليه السّلام) صحابيَّين من كبار صحابة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، هما : طلحة والزبير . وكان مثيرو الشُّبهات لا يبرحون يقولون : انظروا كيف يُعامَل أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) !
وأدّى تزايد الشُّبهات واستحكامها في النفوس إلى تفرّق الناس عن الحقّ ، وكان عدد أنصار أمير المؤمنين (عليه السّلام) يتناقصون بمرور الأيّام ، ولا ينبغي نسيان الحِيَل التي كان معاوية وأعوانه يستخدمونها في إلقاء الشُّبهات ، وفي بثّ بذور التفرقة في صفوف الإمام عليّ (عليه السّلام) . كما لا ينبغي ـ من جانبٍ آخر ـ تناسي روحيات أهل الكوفة الذين كان من أبرز سماتهم الاندفاع والتدخّل في شؤون الحكومة وعدم رعاية أسرارها .
وكان لرؤساء القبائل دور رئيسي في تسيير الناس والتأثير عليهم في الانحياز إلى أحد أطراف المواجهة ، وكان الناس في ذلك العصر ـ ونقصد بالناس المستضعفين ذوي الوعي القليل ـ قد ابتعدوا عن الإسلام باعتباره المحور الأساسي للتحرّك ، بل تخلّوا عن أهل البيت ، أحد الثقلَين اللذين أوصى بهما رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . ثمّ جاءوا إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) يبايعونه وينتظرون منه أن يسير بهم سيرة ( عمر ) ، فيفضّل أشراف المهاجرين والأنصار ، ولم يكونوا يدركون الأبعاد الحقيقية لأمير المؤمنين (عليه السّلام) باعتباره إمام أهل البيت (عليهم السّلام) . يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) : ( قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ ، وأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ ، وأَرَزَ الْمُؤْمِنُونَ ونَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ، نَحْنُ الشِّعَارُ والأَصْحَابُ والْخَزَنَةُ والأَبْوَابُ ، ولا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلاَّ مِنْ أَبْوَابِهَا ، فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً ) .
وكان لحضور الناس وكثرتهم أهميّة في نظر الإمام (عليه السّلام) في قبوله تحمّل المسؤولية في قيادتهم . أمّا إذا عجز الإمام ـ وهو القائد ـ عن الانتصاف للمظلوم وعن تطبيق أحكام الدين ، فإنّ الرغبات المنحرفة لأكثريّة الناس لن يكون لها في نظره أيّ اعتبار ، وحكومتهم على هذا الأساس ستكون لديه أدنى من عَفطة عَنز كما في تعبيره الرائع (عليه السّلام) ؛ فإنّ العارف برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبأهل بيته ( عليهم السّلام ) حقّ المعرفة إذا مات على معرفته ، كان من الفائزين ولو مات على فراشه .
يقول أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخطبة (190) : ( الْزَمُوا الأَرْضَ ، واصْبِرُوا عَلَى الْبَلاءِ ، ولا تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وسُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ ولا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَكُمْ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وهُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وحَقِّ رَسُولِهِ وأَهْلِ بَيْتِهِ ، مَاتَ شَهِيداً ووَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) .
* الدعوة إلى الإصلاح ، ونكوص الناس :
بدأ الإمام عليّ (عليه السّلام) حركته الإصلاحية الواسعة ، وخصّص أكثر خُطَبه في بيان معرفة الله ورسوله وأهل بيته ، وسعى دائباً ـ في المرتبة اللاحقة ـ إلى تحذير الناس من الميول الدنيويّة الهابطة ، وجاهد في إحياء السُّنّة النبويّة ، وفي القضاء على الظلم والفساد ، وفي إرساء قواعد العدل والقضاء على الامتيازات الظالمة .
يُشير علم النفس الاجتماعي إلى أنّ الفساد إذا ساد مجتمعاً ما ، ولمس أفراد المجتمع الأضرار المترتّبة على ذلك الفساد ، وعانَوا منه الأمرَّين ؛ فإنّهم سيقفون إمام الفساد الجديد ، ويتّجهون إلى الإصلاح ويتَّبعون المُنادين به . أمّا إذا قلّت معاناة أفراد المجتمع من الفساد ، فإنّهم على العكس ، سيعارضون مَن يحارب الفساد ويُنادي بالإصلاح . ولذلك يعمد أصحاب الحيلة والمكر إلى دراسة الظروف السائدة في المجتمع في فترة معيّنة ، ويتعرّفون على رغبات الناس ، ثمّ ينظّمون شعاراتهم على أساس تلك الرغبات ، فيكسبون الناس إلى جانبهم .
لقد كان المجتمع قبل خلافة الإمام (عليه السّلام) في طريقه التدريجي إلى الانحراف ، وكانت الفتوحات قد أثمرت غنائم وجواري وعبيداً ، وكان الكثير ممّن ثاروا على عثمان إنَّما يطالبون بحصتهم من تلك الغنائم ، ويستنكرون استئثار بني أُميّة بكلّ شيء .
وكان هؤلاء يتصوّرون أنّ الإمام علياً (عليه السّلام) ـ وقد استُخلف الآن ـ سيقدّم لرؤساء قبائل العراق ( الذين ثاروا على عثمان ) ما استأثر به بنو أُميّة . وكان الهدف الأساس للكثير منهم هو أصلاح الوضع السائد في عهد عثمان ، لا العودة إلى السيرة النبويّة الأصيلة التي نادى بها الإمام ، وكان ذلك هو السبب في رفض الإمام (عليه السّلام) في البداية للتصدّي لمقام الخلافة ، ولم يقبل بها إلاّ بعد أن عاهدوه على إجراء السيرة النبويّة .
وكان إصرار الإمام (عليه السّلام) على العودة إلى السيرة النبويّة يسلتزم الدعم الجماهيريّ ، فقد كان بعض الناس يُصرّح بأنّ على الإمام أن يسير بسيرة من سبقه من ( الخلفاء ) ، أي أن يلتزم بسياسة التفرقة بين العرب والعجم التي سار عليها مَن سبقه ، بذريعة أنّ العرب هم أُسّ الإسلام وأساسه ، وأنّ الأعاجم أدنى منهم في الدين .
ولذلك كان كلّما زاد وتعالى نداء الإمام بالإصلاح ، تباعد عنه مَن حوله وتشتّتوا . وقد شاهدنا أنّ طلحة والزبير اللذين وقفا بالأمس القريب ضدّ عثمان ، كانا يتوقّعان من الإمام (عليه السّلام) أن يُشركهما في الحكم ، فلّما رأيا إصراره على الالتزام بالسيرة النبويّة ، ابتعدا عنه ـ مع أنّهما يفتخران بصُحبتهما وسابقتهما ـ وأثارا عليه العوامّ .
ومن العجب أنّ المُناداة بشعار الإصلاح تجعل أكثر الناس يفرُّون ، تماماً كما في قوله تعالى:
( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ) إذ ليس المقصود بهذه الآية أنّ القرآن ـ نعوذ بالله ـ سبب لإضلال الناس ، بل يعني أنّ مَن يحبّ الفساد سينفر من دعوة الحقّ ، فينغمس في الباطل والفساد أكثر فأكثر .وفي مثل هذه الظروف ، فإنّ دعوة الناس إلى الهداية كلّما زادت قلّت استجابتهم لها ، بل إذا أدرك هؤلاء الناس أنّ هذا المنادي يقصد هدايتهم وإصلاحهم فإنّهم سيفرّون منهم فرارهم من الأسد .
وقد أظهرت تجربة حكومة أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، أنّ الناس قد وقفوا بالتدريج في وجه حكومة الإمام عليّ (عليه السّلام) العادلة ، على الرغم من انثيالهم عليه بادئ الأمر ، وإصرارهم على مبايعته ؛ نقمةً منهم على فساد عثمان ، ذلك أنّ ترجيحهم للدَّعة والراحة لم يسمح لهم أن يكونوا في ركاب الإمام (عليه السّلام) لتحقيق أهدافه الكبيرة ، لأنّهم تعوّدوا على الباطل وألِفوه ، أكثر ممّا أحبّوا السُّنّة ورغبوا فيها .
يقول أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخطبة (176) في تقسيم الناس إلى قسمين : ( وإنّما الناس رَجُلان : مُتَّبِعٌ شِرعَةً ، ومُبتدعٌ بِدعةً ، ليس معه مِن الله سبحانه بُرهانُ سُنّةٍ ولا ضياءُ حُجّة ) .
وليسَت هذه البدع التي يُشير إليها الإمام (عليه السّلام) إلاّ المسيرة المنحرفة التي وُجدت في عصر الخلفاء قبله . وقد وصف أمير المؤمنين (عليه السّلام) الناسَ في خطبه بمجانبة الحقّ والانحياز إلى صفّ الباطل ، وكان يدعوهم إلى التزام الحقّ ولو رأوا في الباطل نفعاً دُنيويّاً عاجلاً ، يقول (عليه السّلام) في الخطبة (125) : ( إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ ـ وإِنْ نَقَصَهُ وكَرَثَهُ ـ مِنَ الْبَاطِلِ وإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وزَادَهُ ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ ؟!ومِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ ؟! ... مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا ، ولا زَوَافِرِ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا ، لَبِئْسَ حُشَّاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ !! أُفٍّ لَكُمْ !! لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً ، يَوْماً أُنَادِيكُمْ ويَوْماً أُنَاجِيكُمْ ، فلا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ ، ولا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاءِ ) .
ونلاحظ أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) يستعمل أحياناً تعبيرات شديدة في وصف اختلاف الناس وتفرّقهم عن الحقّ ، وكان ذلك منه (عليه السّلام) في وقتٍ كان يرى فيه معاوية على شرف الانتصار في الحرب ، ويرى أصحابه يَعصُون أمره ، فكان يناديهم بـ ( أشباه الرجال ) ؛ لأنّه كان يشاهد عياناً أنّ معاوية على وشك الهجوم على العراق ، وأنّه (عليه السّلام) استنفر أهل الكوفة فلم يجتمع له منهم ـ بشقّ الأنفس ـ إلاّ أقلّ من ألف نفر ، فخطبهم (عليه السّلام) ( الخطبة 131 ) قائلاً :
( أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَةُ والْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ والْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ ، أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ وأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الأَسَدِ ! هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ الْعَدْلِ أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ ) .
والخطب التي تتحدّث عن فرار الناس عن الحقّ كثيرة ، جاء في الخطبة (175) قوله (عليه السّلام) : ( أيُّها النَّاسُ ... مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللَّهِ ذَاهِبِينَ ، وإِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ ... ) .
وفي الخطبة(39) قوله (عليه السّلام) : ( مُنِيتُ بِمَنْ لا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ ، ولا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ ، لَا أَبَا لَكُم! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ ، أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ ولا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ ؟! ) .
وفي الخطبة (180) قوله (عليه السّلام) في ذمّ أصحابه : ( أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ ، وإِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ ، إِنْ أُمْهِلْتُمْ خُضْتُمْ وإِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ ، وإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ ، وإِنْ أُجِئْتُمْ إِلَى مُشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ ... مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ والْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَكُمْ ؟! فَوَاللَّهِ لَئِنْ جَاءَ يَومِي ولَيَأْتِيَنِّي لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنِي وبَيْنِكُمْ وأَنَا لِصُحْبَتِكُمْ قَالٍ ، وبِكُمْ غَيْرُ كَثِيرٍ ... للهِ أنتم! أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ ، ولا حَمِيَّةٌ تَشْحَذُكُمْ ؟! أَولَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَةٍ ولا عَطَاءٍ ؟! وأَنَا أَدْعُوكُمْ ـ وأَنْتُمْ تَرِيكَةُ الإِسْلامِ وبَقِيَّةُ النَّاسِ ـ إِلَى الْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ ، فَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وتَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ ؟! ) .
* الحسرة على الرجال الصادقين الراحلين :
تطرّق الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في أواخر أيّامه ـ ضمن انتقاده الأشخاص الذين خذلوه في مسيرته لتحقيق الأهداف الإسلاميّة الأصيلة ـ إلى الكلام عن الرجال الصادقين الذين عاصروا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكانوا في إيمانهم وأعمالهم فُرسانَ ساحة الإسلام والإنسانية ، وكان يتحسّر لفراقهم ، ليس لكونهم الأكثريّة ، بل لسبقهم إلى الحقّ ، وتسابقهم إلى التضحية والفداء من أجل المبدأ .
يقول (عليه السّلام) في الخطبة (121) : ( أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الإِسْلامِ فَقَبِلُوهُ ، وقَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ ، وهِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلادِهَا ، وسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا ، وأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً ، وصَفّاً صَفّاً . بَعْضٌ هَلَكَ وَ بَعْضٌ نَجَا . لا يُبَشَّرُونَ بِالأَحْيَاءِ ، ولا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى . مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ ، صُفْرُ الأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ ، عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ ، أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ ؛ فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ ، ونَعَضَّ الأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ . إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ ويُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً ، ويُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ ، وبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ ، فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ ونَفَثَاتِهِ ، واقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ ، واعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) .
وقد بيّن (عليه السّلام) في خطبته المفصّلة(182) نقاطاً مهمّة ، حيث يقول نَوْف البَكاليّ : خَطَبنا بهذه الخطبة أميرُ المؤمنين عليّ (عليه السّلام) بالكوفة ، وهو قائم على حجارةٍ نصَبها له جعدة بن هُبَيرة المخزوميّ ، وعليه مِدرَعة من صوف ، وحَمائلُ سَيفه لِيفٌ ، وفي رِجلَيه نَعلانِ من لِيف ، وفي جبينه ثَفنة من أثر السُّجود :
( مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ ـ وهُمْ بِصِفِّينَ ـ أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً يُسِيغُونَ الْغُصَصَ ، ويَشْرَبُونَ الرَّنْقَ ! قَدْ ـ واللَّهِ ـ لَقُوا اللَّهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ ، وأَحَلَّهُمْ دَارَ الأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ . أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ ومَضَوْا عَلَى الْحَقِّ ! أَيْنَ عَمَّارٌ ! وأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ ! وأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ ! وأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ ، وأُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ ! ) .
قال : ثمّ ضَرَب بيده على لِحيته الشريفة الكريمة فأطال البُكاء ، ثمّ دعاهم إلى الجهاد .
وقد سبق أن ذكرنا أنّ أتباع الإمام كانوا صِنفَين من الناس :
ـ عامّة الناس ، وهم الذين تركوا أمير المؤمنين (عليه السّلام) وانحازوا إلى معاوية خلال عواصف المسيرة ومنعطفاتها .
ـ وشيعته المخلصون ، وكان يُدعَون بشَرَطَة الخميس ، وهم الذين اعتمد عليهم الإمام في حركته التغييرية الكبيرة ، وقد خاطبهم (عليه السّلام) في الخطبة (118) بقوله : ( أَنْتُمُ الأَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ ، والإِخْوَانُ فِي الدِّينِ ، والْجُنَنُ يَوْمَ الْبَأْسِ ، والْبِطَانَةُ دُونَ النَّاسِ . بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ ، وأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ . فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ ، سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ ) .
وهؤلاء الأتباع المخلصون هم الذين وقفوا إلى جانب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في جهاده العظيم ، وكانوا يقبلون النصيحة ويَفُون بالعهد الذي عاهدوا عليه إمامهم (عليه السّلام) في أحلك الأوقات . وكان الشيعة الحقيقيّون يلمسون عياناً السيرةَ النبويّة وقد تجسّدت في السيرة العَلَويّة ، فيحفظون مودّتهم ونُصرتهم لعليّ (عليه السّلام) وأهل بيته على هذا الأساس .
* تَعارُض الرغبات :
و لابدّ من الحديث عن مَعلَم آخر في السيرة العلويّة ، وهو أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان يسعى في شرح مواقفه وآرائه للناس ـ وكان قد رأى عصيانهم وتخاذلهم ـ أن لا يحملهم على ما يريد بالقوة والإكراه ، ويتجلّى ذلك في قوله (عليه السّلام) في الخطبة (208) :
( لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً ، وكُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً ، وقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ ولَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ ) .
* معاوية ومُداراة الناس :
تمكّن معاوية بدهائه من جذب عامّة الناس إلى معسكره ، فحفظ منافع الشام لنفسه ، وكسب رضا الناس ، فمنحوه طاعتهم وأسلَسوا إليه قِيادَهم .
وإذا كانت الأكثريّة في صفّ معاوية ، والأقليّة في صفّ الإمام عليّ (عليه السّلام) ، فما هو الفارق الأساس بينهما ؟
لقد أجاز معاوية لنفسه استخدام سلاح الترغيب والترهيب في كسب الناس إلى صفّه ، بينما رفض أمير المؤمنين (عليه السّلام) هذا الأسلوب ولم يُجِز لنفسه اتِّباعه ، فقال (عليه السّلام) : ( أتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ ) ؟!
* أمير المؤمنين (عليه السّلام) المدافع عن حقوق الناس :
ولا يُنافي جميع ما ذكرناه كَون الحكومة مكلّفة بالدفاع عن حقوق الناس المشروعة ، وحقيقة كون أمير المؤمنين (عليه السّلام) المُدافعَ الحقيقي عن تلك الحقوق المشروعة التي تستتبع كونهم مواطنين ، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الذمّة .
وقد عدّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) من أهم واجبات الإمام : رعاية أحوال الناس وإجراء العدالة بينهم ، وتوعيتهم على أحكام الدين . وكان (عليه السّلام) يأمر جميع ولاته برعاية الناس وكسب ودّهم ، حيث قال (عليه السّلام) في هذا الشأن :
( إِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاةِ : اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ ، وظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ ) .
وكَتَب (عليه السّلام) إلى أحد ولاته على الأمصار :
( أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ ) .
وعدّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخطبة (
136) مهمّته الأساسيّة : الانتصاف للمظلوم من الظالم ، على شرط أن يُعينه الناس في ذلك، حيث يقول :( أَيُّهَا النَّاسُ ، أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ . وايْمُ اللَّهِ ، لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ ، ولأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وإِنْ كَانَ كَارِهاً ) .
ولأمير المؤمنين (عليه السّلام) خُطب كثيرة تحدّث فيها عن العدالة وعن رعاية حقّ الناس ، وَرَدَ معظمها في كتاب " الغُرَر والدُّرَر " للآمُدي .
وكان (عليه السّلام) يعتبر أنّ من واجبات الإمام أن يجعل حياته في مستوى أدنى طبقات المجتمع وأفقرها ، حيث قال (عليه السّلام) ـ وقد استكثر عليه البعض زُهدَه المتناهي ـ :
( وَيْحَكَ! إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ ؛ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ ، كَيْلا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ ) .
لقد دافع أمير المؤمنين (عليه السّلام) طوال حياته الثرّة الطافحة بالبركة عن حقوق الناس ، وعن المستضعَفين منهم على الخصوص ، وواسى فقيرَهم وعطف على أراملهم وأيتامهم ، لكنّهم ظلموه وغمطوا حقّه ولم يَفُوا معه بعهده ، حتّى قال (عليه السّلام) :
( لَقَدْ أَصْبَحَتِ الأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا ، وأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي ) .
رسول جعفريان - موقع مكتبة الروضة الحيدرية المطهرة
التعليقات (0)