هناك آراء كثيرة ونظريات عديدة ومتضاربة حول موقف العالم الألماني المشهور آينشتاين (14 مارس 1879 -18 أبريل 1955)اتجاه إسرائيل والصهيونية وفلسطين، فهناك فريق من الباحثين يؤكد موقفه المضاد للصهيونية والرافض لفكرة قيام دولة تضم اليهود من الشتات، وهناك على النقيض من يؤكد بأنه كان له دور فاعل وبارز في قيام دولة الكيان الإسرائيلي الغاصب، وقد بذل جهدا ً جبارا ً ، واستغل نفوذه العلمي، ومكانته لدى أمريكا لدعم قيام وطن لإسرائيل على أرض فلسطين، وإليكم كثيرا ً من هذه الكتابات التي ترصد حركة آينشتاين على كافة الأصعدة، وباختلاف التوجهات التي قيلت عنه .
ما كُتب حول رفضه لإسرائيل والصهيونية:
في الرابع من ديسمبر 1948 نشرت جريدة "نيويورك تايمز" على صفحاتها رسالة خاصة إلى الشعب الأمريكي، حملت توقيع كوكبة من علماء الفيزياء والفلك ومن بينهم ألبرت أينشتاين.كان الهدف من هذه الرسالة الاحتجاج علنيا على زيارة الرئيس الإسرائيلي مناحم بيجن للولايات المتحدة. وحمل مضمون الرسالة تحذيرا شديدا من مغبة دعم الأمريكان لهذه الدولة الجديدة. وأبرزت الرسالة تفصيليا مدى الفاشية والنازية التي تتمثلها دولة إسرائيل، واستدلت على ذلك بمذبحة دير ياسين، وقتلها لأكثر من 240 شخصا ما بين طفل وامرأة وشخص، وأسر العديد من الرجال. وأن واقعة دير ياسين التي كان ينبغي أن تكون محل خجل بالنسبة لإسرائيل، تعاملت معها باعتبارها محل فخر، ودعت المراسلين الصحفيين لزيارة شوارع قرية دير ياسين، وتصوير الجثث المترامية في كافة أنحائها.وأكدت الرسالة على ضرورة تصدي الشعب الأمريكي لهذه الدولة الفاشية وصهيونيتها النازية.
لكن مع هذا فإن الموضوع جدا ً شائك، ولا ينتهي الخلاف حول آراء اينشتاين السياسية،لاسيما المتعلقة بقضية فلسطين وإنشاء دولة يهودية،ويزعم كثير من الصهيونيين أن أينشتاين واحد منهم، ولكن اينشتاين كان مسالما وكونيا وممقتا للقومية.
حديثا نشر كتاب بعنوان "اينشتاين عن إسرائيل و الصهيونية : أفكاره المثيرة حول الشرق الأوسط" بقلم (فريد جيروم) و قد تمكن من إعادة أفكار اينشتاين عن الشرق الأوسط ثانية إلى دائرة الضوء.و الدليل على موقف اينشتاين من فلسطين و الصهيونية أوضح ما يكون في كلماته هو و أفعاله المتعلقة بالموضوع.فعلى سبيل المثال مثل اينشتاين أمام لجنة التحقيق الإنغلو-أميركية و كانت تناقش القضية الفلسطينية في كانون الثاني 1946، و تحدث ضد خلق دولة يهودية.
و إليكم مقطعا من شهادة اينشتاين أمام القاضي هوتشيسون رئيس اللجنة الأميركي:
- القاضي: قال الصهيونيون أمام لجنتنا إن القلب الغاضب لكل يهودي لن يهدأ حتى تكون هناك دولة يهودية في فلسطين،و يتم التأكيد على وجوب أن يكونوا أكثرية بالنسبة للعرب. و قيل لنا من قبل ممثلي العرب بأن العرب لن يسمحوا بهذا الوضع، أي لن يسمحوا أن يتحولوا من أكثرية إلى أقلية.
آينشتاين:نعم
- القاضي: لقد سألت أولئك الأشخاص العديدين إن كان من الأساسي لحقوق و امتيازات اليهود أن يذهبوا لفلسطين ، إذا كان من الأساسي للصهيونية الحقيقية أن يتبلور هذا المشروع و بهذا يكون لليهود دولة يهودية و أكثرية يهودية دون اعتبار لرأي العرب.هل تتفق مع وجهة النظر هذه ، أو تعتقد بإمكانية معالجة الموضوع وفقا لأسس أخرى؟
- اينشتاين: بالتأكيد نعم، فكرة الدولة لا تنسجم مع قلبي. و لا أستطيع فهم الحاجة لها ،إنها مرتبطة بالكثير من المصاعب و ضيقي الأفق, أعتقد أنها سيئة.
- القاضي : أليس من المفارقة التاريخية التأكيد على خلق دول يهودية؟
- اينشتاين: برأي نعم، أنا ضدها.
عام 1948 بعد مذبحة دير ياسين كتب البيرت اينشتاين رسالة إلى صديق أميركي من المدافعين عن حرية إسرائيل أشار فيها إلى منظمة ارجون بقيادة مناحيم بيغن الذي أضحى فيما بعد رئيس وزراء ، و إلى عصابة شتيرن التي ضمت إسحاق شامير و أصبح أيضا رئيسا للوزراء على أنهما منظمتان إرهابيتان و رفض دعم أولئك الأشخاص "الضالين و المجرمين".البيرت اينشتاين و سيدني هوك و حنا اريندت و خمس و عشرون شخصية يهودية بارزة كتبوا رسالة إلى نيويورك تايمز في الرابع من كانون الأول 1948 اتهموا فيها حزب مناحيم بيغن و إسحاق شامير الليكود بالفاشية و اعتناق خليط من القومية المتطرفة و الإبهام الديني و شعور التفوق العرقي.
عام 1950 نشر اينشتاين التصريح التالي حول مسالة الصهيونية. وقد قال هذه الكلمات أمام لجنة العمل القومية لأجل فلسطين ، في نيويورك عام 1938،و لكن أعاد نشرها بعد إنشاء إسرائيل:" إنني أفضل اتفاقا منطقيا مع العرب على أساس العيش المشترك في سلام عوضا عن خلق دولة فلسطينية، فإذا وضعنا جانبا الاعتبارات العملية ،فان فهمي للطبيعة الجوهرية لليهودية يدفعني لمقاومة فكرة دولة يهودية بحدود و جيش و قوة دنيوية مهما كانت معتدلة. إني أخشى من خلل داخلي يصيب اليهودية و خاصة من جراء تطور قومية ضيقة ضمن صفوفنا ،كان ينبغي علينا محاربتها مسبقا بدون دولة يهودية".
رفض اينشتاين رئاسة دولة إسرائيل و في كتاب "البيرت اينشتاين: سيرة ذاتية" تحدث البريخت فولسينغ حول العرض الذي قدم لاينشتاين ليغدو ثاني رئيس لإسرائيل فقال: " بينما كان بين غوريون ينتظر قرار اينشتاين و يحتسي القهوة سأل مساعده إسحاق نافون الذي أصبح فيما بعد رئيسا: أخبرني ماذا سنفعل إن قال نعم، لقد كان علي عرض المنصب عليه لأن من المستحيل عدم القيام بذلك، و لكن إن قبل سنكون في ورطة".
كتب اينشتاين إلى ابنة زوجته مارغوت بعد رفضه للرئاسة :"لو أصبحت رئيسا، فإنني في بعض الأوقات سأقول للشعب الإسرائيلي أشياء ما كانوا ليحبوا سماعها"
لم يكن اينشتاين صهيونيا و كانت معارضته لإسرائيل معروفة بشكل واسع خلال حياته ، غير أن أسطورة دعمه لإسرائيل ولدت يوم وفاته في نعيه بصحيفة نيويورك تايمز و التي كتبت بوقاحة أنه ناصر إنشاء دولة يهودية الأمر الذي ناقض أفكاره المعلنة على مدى عقود.ففي عام 1930 نشرت مقالة بعنوان "اينشتاين يهاجم السياسة البريطانية الصهيونية " و عام 1946 أخرى بعنوان " اينشتاين يعارض دولة يهودية"و من الواضح أن البيرت اينشتاين لم يدعم الصهيونية السياسية و عارض قيام دولة يهودية على أساس عرقي و اثني. و كانت آراؤه السياسية باستمرار مؤيدة لحقوق الإنسان الكونية. و عارض الحرب و الشوفينية القومية العرقية .و اليوم يبجل كأيقونة سياسية و علمية و لكن للأسف ينسى الكثيرون كلماته الحكيمة عن القضية الفلسطينية و صراعها مع الصهيونية السياسية.
وعلى الصعيد نفسه من الممكن أن نقول لم يكن أينشتاين يتوقع أن يتصادم مشروع الوطن الصهيوني مع مصالح الفلسطينيين ومشاعر العرب القومية. فالوطن الصهيوني، في رأيه، مشروع لتحرير اليهود, لا لقهر الفلسطينيين واستعداء العرب. إذ ليست هناك على أرض فلسطين فواعل التنافر العرقي والتنافس الاقتصادي التي كانت قائمة على أرض "الأغيار" الأوروبيين. فالشعبان الساميان، في نظره، هما "الأقرب نسباً" من وجهة عرقية, وليس هناك، بالتالي، ما يمنع "التعايش والتفاعل الثقافي بين شعبين سبق أن تعايشا ورفدا الحضارة الغربية بقيم خالدة". ولن يكون هناك صراع على ملكية الأرض, لأن الصهاينة لن يتوطَّنوا إلا في أرض يشترونها بالمال: "الأرض التي أقيمت عليها المستوطنات تمَّ شراؤها لا مصادرتها", كما كتب في نهاية العشرينات. وقال أيضاً: "لا نريد مصادرة ممتلكات أو انتهاك حقوق." على مستوى الاقتصاد, تصور أينشتاين أن العلاقة بين الفلسطينيين واليهود ستكون علاقة تكامل في حقل العمل والإنتاج, وتفاعل في مجال الثقافة: إن الصهاينة سيقيمون علاقات تعاون وتوادٍّ بنَّاء مع العرب الذين تربطنا بهم علاقات القربى العرقية. وسنشكل معهم نقابات عمالية مشتركة. وكل شيء يدل على أن الوضع الاقتصادي والصحي قد تحسَّن بفضل الاستيطان. والطبقة العاملة اليهودية هي المؤهَّلة لنسج العلاقات الإنسانية بين الشعبين: وحدها الطبقة العاملة تمتلك القدرة على تأسيس علاقات سليمة مع العرب, وهي أهم المهام السياسية الملقاة على عاتق الصهيونية. إن الإدارات تجيء وتذهب, لكن العلاقات الإنسانية وحدها هي التي تقلب الموازين في حياة الأمم في النهاية.
ما يتحدث عنه أينشتاين من تنظيم نقابي موحَّد يضم العمال الفلسطينيين والصهاينة, إضافة إلى الدور الريادي الذي يَكِلُه إلى الطبقة اليهودية العاملة في عملية التكامل والتفاعل بين الشعبين, يقرِّبه من التيار الماركسي الصهيوني الذي بقي وفياً للمبادئ الأممية، وصديقاً للاتحاد السوفييتي، وخاض حرباً حقيقية, لكن خاسرة, ضد الجناح العمالي الذي كان يقوده بن غوريون الذي انتهج سياسة الفصل العنصري بين العمال الفلسطينيين والعرب تحت شعار "الاستيلاء على العمل". وقد تَمَظْهَرَت سياسة بن غوريون في منع العمال العرب بدءاً من العام 1916 من العمل في المستعمرات أو الانتساب إلى النقابات (الهستدروت). لكن أينشتاين لم يتقرَّ المرامي الانفصالية لسياسة بن غوريون, وثبت على القناعة بأن فلسطين لن تكون وطناً قومياً مستقلاً عن الفلسطينيين وعلى حسابهم, وإنما ستكون بيتاً جامعاً بين اليهود والفلسطينيين تحت سقف دولة ديمقراطية علمانية واحدة، تقدم النموذج النقيض والبديل عن الأوطان والقوميات العرقية الأوروبية.
ويبدو أن هاجس إنقاذ اليهود من "جحيم روسيا وبولونيا"، أولاً, ومن ألمانيا النازية، لاحقاً, أدخل أينشتاين في نوع من تفكير التمنِّي حجب عنه الوجه الاستعماري للمشروع الصهيوني. فقد كتب في نهاية العشرينات: لا أستطيع أن أتصور أن في إمكاننا [اليهود] أن نقوم بأي عمل يمكن أن يُلحِقَ أي أذى بالفلسطينيين. ولذلك نجده يحذِّر القيادة الصهيونية تكراراً من اعتبار فلسطين ملجأ لكل يهود العالم, لأن ذلك يعني قيام وطن يهودي على كامل أرض فلسطين. وجاءت الانتفاضة الفلسطينية الدامية في آب/أغسطس 1929 لتصدم رؤيته المثالية المبسَّطة. فبعث برسالة إلى حاييم وايزمان في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1929، جاء فيها: إذا عجزنا عن إيجاد طريقة للتعاون المخلص والحوار الصادق مع العرب لا نكون قد تعلَّمنا شيئاً من معاناة ألفي سنة ولَّت, وكل ما يحصل لنا تبعاً لذلك سيكون مستحقاً.
لقد انتقد أينشتاين اعتمادَ وايزمان المفرط على أصدقائه الإنكليز الذين يمارسون نهج التفرقة بين اليهود والفلسطينيين؛ فردَّ وايزمان مطالباً أينشتاين بـ"وقف هجماته المؤذية على الصهاينة". لكن أينشتاين لم يُلقِ باللوم في انتفاضة 1929 الفلسطينية الدموية على الإنكليز والقيادة الصهيونية وحسب, وإنما حمل في رسائل كتبها إلى جريدتي المانشستر غارديان والتيمس البريطانيتين على من وصفهم بـ"القوميين العرب" و"الإسلاميين المتطرفين". وقد أثنى، في المقابل، على "عرب قاموا بحماية اليهود من الجمهور المتعصب". كذلك اتهم المفتي أمين الحسيني بإثارة مشاعر المسلمين الدينية وتلفيق إشاعات عن نيات مزعومة للصهاينة بهدم المسجد الأقصى. وقد وصف المفتي بأنه "مغاير سياسي, وأصل المشكلة". وحرص أينشتاين في رسائله إلى الصحيفتين البريطانيتين على تذكير الإنكليز بأن "اليهود لا يرغبون في العيش في أرض آبائهم في حماية الحراب البريطانية"، وأنهم [اليهود] "يجيئون إلى فلسطين كأصدقاء للأمة العربية الأقرب نسباً إليهم".
كان يضاعف خشيتَه من البريطانيين الدورُ الذي كانوا يلعبونه في الهند، حيث كانوا يبذرون بذور الفتنة بين المسلمين والهندوس. وهو يبدو، في تخوفه من دور بريطاني مماثل في فلسطين وفي تحذيره الصهاينة من اعتماد نهج العنف، متأثراً بموقف غاندي من المسألة اليهودية. وهو موقف عبَّر عنه غاندي في رسالة وُجِدَت بين أوراق أينشتاين، جاء فيها: أفهم توق اليهودي للعودة إلى بلاد أجداده. وهو يستطيع أن يفعل ذلك, لكن من دون حراب الإنكليز, ومن دون حراب يهودية كذلك. في هذه الحالة فقط يستطيع اليهودي العائد إلى فلسطين أن يعيش بسلام ووئام تامَّين مع العرب. وفي هذا السياق كان أينشتاين يردِّد: لنحذر التعصب القومي في صفوفنا؛ فإنه خطر عظيم. ولا يمكن استبدال حراب الإنكليز بالعقل والمنطق.
ومن جهة ثانية، وجَّه أينشتاين نداءً إلى "الشعب العربي العظيم"، يطالبه بأن "يُظهِر تفهماً أكبر لحاجات اليهود إلى إعادة بناء وطنهم في مركزه القديم: القدس", مؤكداً قناعته بأن النهضة العربية القائمة على المساحات الواسعة التي يسكنها العرب ستحقق مكاسب من تعاطف اليهود مع العرب, وسأرحب بحوار صريح وحرٍّ لمناقشة إمكانات كهذه. ذلك أنني أعتقد أن الشعبين الساميين العظيمين قد أسهما, كلٌّ على طريقته, بإغناء حضارة الغرب بقيم خالدة, وأن إسهاماً كهذا يؤهلهما لمستقبل عظيم مشترك. وبعد هدأة انتفاضة 1929، تبادل أينشتاين عام 1930 الرسائل مع رئيس تحرير صحيفة عربية كانت تصدر في يافا. وقد جاء في رسالة له، مؤرخة في 15 آذار/مارس 1930: أعتقد أن الصعاب التي تعترض مسار الوفاق هي نفسية أكثر منها حقيقية, وأن في الإمكان التغلب عليها إذا توافرت الاستقامة والإرادة الطيبة.
وهو يعبِّر عن ثقته بأن "مستقبلاً عظيماً مشتركاً ينتظر الشعبين الساميين العظيمين إذا استعاد كل منهما ثقته بالآخر". وقد خلص إلى اقتراح "تشكيل مجلس سرِّي من ثمانية أعضاء, أربعة من العرب وعدد مماثل من اليهود, يمثلون الشعبين ويوفِّقون بين مصالحهم ويحصِّنون أمنهم في مواجهة مخططات الانتداب البريطاني". ويتضمن الاقتراح أن يكون الأعضاء الثمانية "مستقلين عن الأحزاب السياسية كافة, وأن يتمثل كلٌّ من الوفدين بطبيب ومحامٍ ورجل دين وعامل، تنتخبهم مجالسُهم واتحاداتُهم".
وللحديث تتمة
علي المحرقي
24/8/2012م
التعليقات (0)