موقف ابن حزم الأندلسي من ابن ملجم :
قال ابن حزم في فقهه ( المحلى ) ج 10 ص 482 : مسألة : مقتول كان في أوليائه غائب أو صغير أو مجنون ، اختلف الناس في هذا. ثم نقل عن أبي حنيفة أنه يقول : إن للكبير أن يقتل ولا ينتظر الصغار. وعن الشافعي : إن الكبير لا يستقيد حتى يبلغ الصغير ثم أورد على الشافعية بأن الحسن بن علي قد قتل عبد الرحمن بن ملجم ولعلي بنون صغار ، ثم قال : هذه القصة ( يعني قتل ابن ملجم ) عائدة على الحنفيين بمثل ما شنعوا على الشافعيين سواء سواء ، لأنهم والمالكيين لا يختلفون في أن من قتل آخر على تأويل فلا قود في ذلك. ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليا رضي الله عنه إلا متأولا مجتهدا مقدرا على أنه صواب ، وفي ذلك يقول عمران بن حطان شاعر الصفرية :
يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا ً فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا ً
أي لأفكر فيه ثم أحسبه ، فقد حصل الحنفيون في خلاف الحسن بن علي على مثل ما شنعوا به على الشافعيين، وما ينقلون أبدا من رجوع سهامهم عليهم ،ومن الوقوع فيما حفروه. فهلم معي نسائل كل معتنق للإسلام أين هذه الفتوى المجردة من قول النبي (ص) في حديث صحيح لعلي عليه السلام : قاتلك أشقى الآخرين. وفي لفظ : أشقى الناس. وفي الثالث : أشقى هذه الأمة كما أن عاقر الناقة أشقى ثمود ؟ أخرجه الحفاظ الأثبات والأعلام الأئمة بغير طريق ، ويكاد أن يكون متواترا على ما حدد ابن حزم التواتر به. منهم : إمام الحنابلة أحمد في المسند 4 ص 263 ، والنسائي في الخصايص ص 39 ، و ابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1 ص 135 ، والحاكم في المستدرك عن عمار 3 ص 140 ، و الذهبي في تلخيصه وصححاه ، ورواه الحاكم عن ابن سنان الدؤلي ص 113 وصححه وذكره الذهبي في تلخيصه ، والخطيب في تاريخه عن جابر بن سمرة 1 ص 135 ، وابن عبد البر في الاستيعاب ( هامش الإصابة ) 3 ص 60 ذكره عن النسائي ثم قال : وذكره الطبري وغيره أيضا ، وذكره ابن إسحاق في السير ، وهو معروف من رواية محمد بن كعب القرظي عن يزيد بن جشم عن عمار بن ياسر ، وذكره ابن أبي خيثمة من طرق ، وأخرجه محب الدين الطبري في رياضه عن علي من طريق أحمد وابن الضحاك ، وعن صهيب من طريق أبي حاتم والملا ، ورواه ابن كثير في تاريخه 7 ص 323 من طريق أبي يعلى ، وص 325 من طريق الخطيب ، والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6 ص 411 عن ابن عساكر والحاكم والبيهقي ، وص 412 بعدة طرق عن ابن
عساكر ، وص 413 من طريق ابن مردويه ، وص 157 من طريق الدار قطني ، وص 399 من طريق أحمد والبغوي والطبراني والحاكم وابن مردويه وأبي نعيم وابن عساكر وابن النجار.
وأين هذا من قوله الآخر (ص)لعلي : ألا أخبرك بأشد الناس عذابا يوم القيامة ؟ قال : أخبرني يا رسول الله ؟ قال : فإن أشد الناس عذابا يوم القيامة عاقر ناقة ثمود و خاضب لحيتك بدم رأسك. رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 ص 298. وأين هذا من قوله الثالث: قاتلك شبه اليهود وهو يهود أخرجه ابن عدي في الكامل ، وابن عساكر كما في ترتيب جمع الجوامع 6 ص 412. وأين هذا مما ذكره ابن كثير في تاريخه 7 ص 323 من أن عليا كان يكثر أن يقول : ما يحبس أشقاها ؟ وأخرجه السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6 ص 411 بطريقين عن أبي سعد وأبي نعيم وابن أبي شيبة ، وص 413 من طريق ابن عساكر. وأين هذا من قول أمير المؤمنين الآخر لابن ملجم : لا أراك إلا من شر خلق الله ؟ رواه الطبري في تاريخه 6 ص 85 ، وابن الأثير في الكامل 3 ص 169 وقوله الآخر عليه السلام : ما ينظر بي إلا شقي ؟ أخرجه أحمد بإسناده كما في البداية و النهاية 7 ص 324. وقوله الرابع لأهله : والله لوددت لو انبعث أشقاها ؟ أخرجه أبو حاتم والملا في سيرته كما في الرياض 2 ص 248. وقوله الخامس : ما يمنع أشقاكم ؟ كما في الكامل 3 ص 168 ، وفي كنز العمال 6 ص 412 من طريق عبد الرزاق و ابن سعد. وقوله السادس : ما ينتظر أشقاها ؟ أخرجه المحاملي كما في الرياض 2 ص 248.
ليت شعري أي اجتهاد يؤدي إلى وجوب قتل الإمام المفترض طاعته ؟ أو أي اجتهاد يسوغ جعل قتله مهرا لنكاح امرأة خارجية عشقها أشقى مراد ؟ أو أي مجال للاجتهاد في مقابل النص النبوي الأغر ؟ ولو فتح هذا الباب لتسرب الاجتهاد منه إلى قتلة الأنبياء والخلفاء جميعا ، لكن ابن حزم لا يرضى أن يكون قاتل عمر أو قتلة عثمان مجتهدين ، ونحن أيضا لا نقول به. ثم ليتني أدري أي أمة من الأمم أطبقت على تعذير عبد الرحمن بن ملجم في ما ارتكبه ؟ ليته دلنا عليها ، فإن الأمة الإسلامية ليس عندها شيء من هذا النقل المائن ، أللهم إلا الخوارج المارقين عن الدين ، وقد اقتص الرجل أثرهم واحتج بشعر قائلهم عمران.
اللهم ؟ ما عمران بن حطان وحكمه في تبرير عمل ابن ملجم من إراقة دم ولي الله الإمام الطاهر أمير المؤمنين ؟ ما قيمة قوله حتى يستدل به ويركن إليه في أحكام الإسلام ؟ وما شأن فقيه ابن حزم من الدين يحذو حذو مثل عمران ويأخذ قوله في دين الله ، ويخالف به النبي الأعظم في نصوصه الصحيحة الثابتة ويردها ويقذف الأمة الإسلامية بسخب خارجي مارق ؟ وهذا معاصره القاضي أبو الطيب طاهر ابن عبد الله الشافعي يقول في عمران ومذهبه هذا.
إني لأبرأ مما أنت قائله
عن ابن ملجم الملعون بهتانا
يا ضربة من شقي ما أراد بها
إلا ليهدم للإسلام أركانا
إني لأذكره يوما فألعنه
دنيا وألعن عمرانا وحطانا
عليه ثم عليه الدهر متصلا ً
لعائن الله إسرارا ً وإعلانا
فأنتما من كلاب النار جاء به
نصّ الشريعة برهانا وتبيانا
وقال بكر بن حسان الباهلي :
قل لابن ملجم والأقدار غالبة
هدّمت ويلك للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدم
وأول الناس إسلاما وإيمانا
على أن قتل الإمام المجتبى لابن ملجم وتقرير المسلمين له على ذلك صحابيهم وتابعيهم حتى أن كل أحد منهم كان يود أنه هو المباشر لقتله يدلنا على أن فعل اللعين لم يكن مما يتطرق إليه الاجتهاد فضلا عن أن يبرره ، ولو كان هناك اجتهاد فهو في مقابلة النصوص المتضافرة ، فكان من الصالح العام لكافة المسلمين اجتياح تلك الجرثومة الخبيثة ، وهو واجب أي أحد من الأمة الإسلامية ، غير أن إمام الوقت السيد المجتبى تقدم إلى تلك الفضيلة كتقدمه إلى غيرها من الفضايل. فليس هو من المواضيع التي حررها ابن حزم فتحكم أو تهكم على الشافعية والحنفية والمالكية وإنما هو من ضروريات الإسلام في قاتل كل إمام حق ، ولذلك ترى أن القائلين بإمامة عمر بن الخطاب لم يشكوا في وجوب قتل قاتله ، ولم ير أحد منهم للاجتهاد هناك مجالا ، كما سيأتي في كلام ابن حزم نفسه : إنه لم ير له مجالا لقتلة عثمان. فشتان بين ابن حزم وبين ابن حجر ، هذا يبرر عمل عبد الرحمن وذاك يعتذر عن ذكر اسمه في كتابه لسان الميزان. م ـ ويصفه بالفتك وأنه من بقايا الخوارج في تهذيب التهذيب 7 : 338]. وابن حجر في كلامه هذا اتبع أثر الحافظ أبي زرعة العراقي في قوله في طرح التثريب 1 : 86 : انتدب له "لعلي" قوم من الخوارج فقاتلهم فظفر بهم ثم انتدب له من بقاياهم أشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي ، وكان فاتكا ملعونا فطعنه]. ( انظر الغدير ، ج1/323 ).
نهاية ابن ملجم :
في يوم 21 شهر رمضان سنة 40 هـ، وبعد استشهاد أمير المؤمنين، قتل ابن ملجم لعنه الله ثم أحرق بالنار.وكان الناس جاءوا إلى أمير المؤمنين بعد أن ضربه ابن ملجم، فقالوا له: يا أمير المؤمنين مرنا بأمرك في عدو الله، فلقد أهلك الأمة وأفسد الملة.فقال أمير المؤمنين: (إن عشت رأيت فيه رأيي، ولئن هلكت فاصنعوا ما يصنع بقاتل النبي، اقتلوه ثم حرّقوه بعد ذلك بالنار).فلما قضى أمير المؤمنين وفرغ أهله من دفنه، جلس الحسن وأمر أن يؤتى بابن ملجم، فجيء به، ثم أمر فضربت عنقه، واستوهبت أم الهيثم بنت الأسود النخعية جيفته منه لتتولى إحراقها، فوهبها لها، فأحرقتها بالنار.
قال ابن بطوطة المتوفى سنة 779 هـ: ورأيت بغربي جبانة الكوفة موضعًا مسودًا شديد السواد في بسيط أبيض، فأخبرت أنه قبر الشقي ابن ملجم، وإن أهل الكوفة يأتون كل سنة بالحطب الكثير فيوقدون النار على موضع قبره سبعة أيام.
وفي مصدر آخر : وفيه قُتل ابن ملجم بضربة واحدة بالسيف ليُلقى في الدرك الأسفل من الجحيم. فلمّا قضى أميرُ المؤمنين (صلوات الله عليه) وفرغ أهله من دفنه، جلس الحسن (عليه السلام) وأمر أن يؤتى بابن ملجم، فجيء به ثمّ أمر (عليه السلام) بضرب عنقه، واستوهبت أمُّ الهيثم بنت الأسود النخعية جيفته منه لتتولّى إحراقها، فوهبها لها فأحرقتها بالنار (بحار الأنوار: 42 / 232، 246، 298 ؛ ينابيع المودّة: 2 / 32).
وبعد قتله هجمَ الناسُ على قطام الفاسقة الملعونة وقتلوها، وأُحرقت خارج الكوفة (بحار الأنوار: 42 / 298 ؛ الأنوار العلوية: 390 ؛ نفائح العلام: 410).
وفي بعض المصادر نجد صورة أخرى لمقتل ابن ملجم ونهايته، إذ جاء فيها : فمات علي بن أبي طالب غداة يوم الجمعة، فأخذ عبد الله بن جعفر، والحسن بن علي ومحمد بن الحنفية عبد الرحمن بن ملجم، فقطعوا يديه ورجليه، فلم يجزع، ولم يتكلم، ثم كحلوا عينيه بملول (حديدة الكحل) محمى، ثم قطعوا لسانه، وأحرقوه بالنار".
ويعلق السيد جعفر مرتضى العاملي على هذا النص بقوله: ونقول: والصحيح هو أن الناس هم الذين فعلوا فيه ذلك، فعن عمران بن ميثم :" لقد رأيت الناس حين انصرفوا من صلاة الصبح أتوا بابن ملجم لعنه الله، ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم سباع، وهم يقولون: يا عدو الله ، ماذا فعلت ؟! الخ" . وذكر ابن شهر آشوب أنه (ع) قال لهم: " ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي ونهى عن المثلة . وذكر نص آخر : أن أم الهيثم بنت الأسود النخعية استوهبت جيفته من الإمام الحسن (ع) فوهبها لها، فأحرقتها بالنار " .
والخلاصة: أننا لا نشك في أن الإمام الحسن (ع) لا يخالف وصية أبيه من جهة. ولا يرتكب مخالفة لحكم شرعي وهو تحريم المثلة، ولو بالكلب العقور من جهة أخرى. فإن كان ابن ملجم قد تعرض لشيء من ذلك، فلا بد أن لا يكون ذلك عن رضى من قبل الحسنين (ع)، بل قد يكون فاعل ذلك هو الناس الذين أخذتهم حالة الهياج والحماس كما هو صريح كلام أبي الفرج. أو أم الهيثم كما ذكره أبو الفرج وابن شهر آشوب " (علي والخوارج، ج2/335).
علي المحرقي
11/8/2012م.
التعليقات (0)