ما أجمل التأمل في نبتة وهي تنمو وتترعرع شيئا فشيئا، وتنتقل من مرحلة إلى مرحلة متجاوزة قسوة الطقس أحيانا وشدة العطش أحيانا أخرى، تلك هي حال "فرقة العروج للتمثيل المسرحي" وهي ترتقي في مدارج الإبداع شيئا فشيئا. فبالأمس القريب كانت تقدم مشاهد مسرحية قصيرة ومقاطع تمثيلية سريعة وأصبحت اليوم بجدها واجتهادها وإصرار مخرجها تقدم المسرحية التي تحاول أن تتكامل ما ساعدتها الإمكانات، فمن مسرحية تاريخية وقورة إلى مسرحية اجتماعية فكاهية.
1- ما أسعدك وقد حالفك الحظ في أيام العيد فاستطعت أن تسترق الوقت من بين المشاوير العائلية، وأن تسابق الشوارع المكتظة بزحمة السيارات وتدخل مركز السنابس الثقافي فتشاهد مسرحية "دنيا الغرباء" وتخرج منها وقد أشبعت بضحكات سوداء وبإيقاعات فرحة طربة وباكية في آن واحد.
2- مسرحية دنيا الغرباء التي قدمتها فرقة العروج لمخرجها جابر حسن تصدمك منذ العنوان بسيكولوجيا حزينة معروفة لا تجهل، ولكنها جاءت في سياق هذه الأيام الفرحة أيام العيد ولم تكن هذه المعادلة الخارجية "الفرح في مقابل الحزن" لتقف عند المخالفة بين العنوان وسياقه، بل تمتد لتدخل في غور المسرحية ففي الوقت الذي تتعالى فيه الضحكات تتعانق العواطف مع مأساة هؤلاء الغرباء. وكأن الفعل المسرحي الصادر من هؤلاء الشباب ومخرجهم حين يقوم بتوظيف هذا التناقض المعتمل بين الفرح والحزن يقول: ماذا عساك أن تشهد في دنيا الغرباء غير هم جارح ونكد منغص وعيشة لا تطاق، وما عسى الغرباء أن يفعلوا سوى أن يضحكوا لتخفيف آلامهم وأن يقهقهوا حتى لا تجف آمالهم وأن يتمسرحوا مع الآخرين حتى لا تموت أمنياتهم في واقع مأسوي وأيام قاسية لا ترحم، وقد كنت أتساءل في نفسي عما إذا كان المشاهدون بجواري يتفقون معي في أن هذا المعنى لم يكن ليقف عند الحد الذي ذكرت، بل تعدى ليشمل العمل بتمامه حتى الإيقاعات الموسيقية فرحة وباكية معا في اللحظة نفسها سواء في المقدمة أو داخل المسرحية أم أن ما أقوله مجرد ادعاء ومزايدة، حتى التقيت من الإشارات والتلميحات ما وافقني وفاقني في التلقي والتأويل المتعاطف الجميل.
3- إن أول ما يستوقفك في العرض، ذلك المشهد الرمزي الذي بدأت به المسرحية حين يجلس على منصة المسرح ثلاثة رجال بلباس البحر التقليدي الأبيض وتبدو عليهم آثار المشقة والكدح والتعب، إذا تراهم منهمكين في غزل شبك صيد بحري طويل من أول المنصة إلى آخرها ثم يظهر خلفهم ثلاثة رجال متلثمين بلباس أسود ينازعونهم شبك الغزل الذي يتحول إلى حبل طويل بين أيديهم ويقوم كل من المجموعتين بسحبه نحو جهته، وهنا يتقن المخرج في أن يجعل الصراع يحتدم في نفس المتفرج الذي يتمنى لو ينضم لهؤلاء الفقراء وفي هذه اللحظات ينضم طفل لمجموعة الصيادين العمال فيكادون أن ينتصروا في سحب الحبل لجهتهم إلا أن أصحاب البدل السوداء يرمون بالطفل بعيدا ويتغلبون على الصيادين، وكأن المشهد يشير من بعيد إلى الإيمان بالطفولة وبالأمل القادم في المستقبل حين يعود هذا الطفل ليرجح كفة هؤلاء الفقراء، وكم كان سيصبح الفعل المسرحي أكثر جمالا لو أن هذا المستوى من الترميز المسرحي قد تكرر أو استمر في شكل فواصل مسرحية أو بأية حيلة يقترحها المخرج، ما يعمق الدلالات ويذهب بالمعنى إلى أبعد الأغوار.
4- ماذا يعني أن يكون أبطال المسرحية ثلاثة هم أصم وأخرس وأعمى ورابعهم أعرج، والغريب أن مأساتهم في الحياة لم تكن عاهاتهم بالدرجة الأولى وإنما مأساتهم مع أهل هذا الزمن القاسي حين يصارعونهم في السعي للحصول على لقمة العيش، وإبعاد شبح البطالة والعوز.
وعلى رغم عاهاتهم وأنهم من ذوي الحاجات الخاصة فإن المخرج لم يجل ذلك إلا قليلا فهم يمارسون حياتهم بشكل طبيعي ويتصارعون مع دنياهم كغيرهم وكأن مسألة العمى والخرس والصمم والعرج لم تكن إلا لغرض، فهل أراد المخرج أن يعكس مقولة "لا أسمع لا أرى لا أتكلم لا أتحرك" هكذا يراد مني في قبال هذه المآسي.
5- إن هذه الشخصيات الضائعة التي تعيش على الهامش لم تصنع ضياعها بنفسها فهي كما سبق تمارس حياتها بتلقائية متكيفة مع حاجاتها وقدراتها متجاوزة عوزها وإنما نحن الذين صنعنا لها هذا العالم الخاص وأسرناها فيه بمعاملتنا السلبية، وأن هذه الشخصيات قادرة على أن يكون لها شأن بيننا وهذا ما نراه بين أفراد هذه المجموعة حين يتعاركون فيكون أحدهم فائزا ويكون الآخرون خاسرين، فقد شاهد المتفرجون كيف كان الأعمى وهو مكي جاسم في دور "حجي مسعود" يفوز بنهب الأكل من بين أيدي أصحابه بالحيلة والدهاء متغلبا على عماه وعليهم ولإدراك المخرج هذه السمة صنع مشهدا مقابلا للمشهد السابق حين اغتنى هؤلاء الفقراء الغرباء ليقول إن ذلك الأعمى الذي يستغل مهارته وذكاءه في الدهاء بإمكانه أن يكون إنسانا سويا، إذا توافر له العمل الشريف فيصبح قائدا لمجموعته ويوظف ذكاءه في طلب الرزق وذلك حين أصبح مديرا لزملائه يشير عليهم بما يراه لهم من صواب رأيه وسداد حكمته.
6- إن أبرز شخصية في العرض الأول الذي شاهدته هو شخصية مرعوب المضحك بشدة الذي مثله سيد مصطفى وهو الرجل الأخرس وسر التميز أن المخرج قد برع في تحليل هذه الشخصية تحليلا دقيقا حين لحظ المشاهدون كيف تم الممازجة بين حركات الأخرس والمؤثرات الصوتية وكيف استعاض هذا الممثل عن الكلام بالحركات ببراعة فائقة، وحتى الاسم "مرعوب" انضوى ضمن هذه الدلالة لما في الرعب من اضطراب وحركة ويكفيك أن تغني له أغنيته المحبوبة "هلا هلا يمرعوب **** هلا هلا يمرعوب" حتى يترقص لك يمينا وشمالا وفي مقابل هذا الرقص فهو غضوب حاد الطبع وعصبي المزاج، يغضب أشد الغضب إذا لم يفهمه أحد وهو دائما أول الفاهمين بل من المضحك المبكي أنه يقوم بالشرح والتوضيح لصديقه الأصم إن تطلب الأمر.
وإن كان ثمة من نقد مباشر للعرض هو أن الكتلة البشرية أحيانا لم تكن تتوزع على المنصة بشكل مصمم وخطط له ما يخمد بعض الدلالات، فقد كانت أحيانا تتحرك على كل المنصة بشكل عشوائي، ناهيك عن إغفال القدرة على التوظيف الصوتي والتنويع بين الرفع والخفض والداخل والخارج عند بعض الممثلين.
التعليقات (0)