ـ بالنّظر إلى تقدّم العلم واتّساع اختصاصاته، وما ينتج منها من نظريّاتٍ تجد لها صدًى في الواقع الحياتيّ للإنسان، فتفرض عليه أن يتعامل معها بدقَّة من ناحية الدّراسة والتّطبيق، كان لزاماً على سماحة السيّد فضل الله(رض)، التوجّه إلى رؤيةٍ فقهيّةٍ مواكبةٍ لتقدّم العلوم وتعقيداتها، لكشف الخلفيّات الشّرعيّة للموضوعات المستجدّة في حياة النّاس، ومنها مسألة "رؤية الهلال وثبوته ووسائله"..
بدايةً، يتساءل المرء: هل إنّه يصحّ الاعتماد على أهل الخبرة في مجال الدّراسات الفلكيّة وأقوالهم في ولادة الأشهر الهجريّة، وبالتّالي، بناء الفقهاء أحكاماً شرعيّة عليها، تلامس حياة النّاس وعباداتهم؟...
وإليك عرضاً لبعض الآراء، فسماحته في كتابه "المسائل الفقهيّة" [ج2/ ط بيروت، دار الملاك 1996م] يعتبر: "... بداية الشّهر بولادته فلكيّاً، وبإمكان رؤيته من حيث وصوله إلى درجةٍ يمكن فيها الرّؤية لولا العوائق، فإذا ثبت ذلك بقول أهل الخبرة الّذين يفيد قولهم الاطمئنان، ثبت الهلال حتّى لو لم يره أحد...".
وكان سماحته ـ فيما مضى ـ يميل إلى كفاية التّوليد في ثبوت الهلال، وذلك لجهة أنّ الشّهر ظاهرة كونيّة، وليس للرّؤية دخل في موضوع وجوب الصّوم، بل موضوع الوجوب (الحكم) هو تحقّق الشّهر، فإذا تحقّق ـ كونياً ـ وهو خروج القمر من تحت الشّعاع (المحاق)، تحقّق الشّهر ووجب الصوم فهناك وجه للقول بكفاية التولد الفلكي لولا بعض الادلة التي يستفاد منها اشتراط قابلية الرؤية، كما يدلّ عليه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...}[البقرة: 189].
ولكنّه لم يقتصر على شرط الرّؤية الخارجيَّة، لأنّها ليست شرطاً إلا على نحوٍ يثبت بها إحراز الشَّهر عرفاً، فإذا أثبت العلم الفلكيّ قابليَّة الرّؤية، وذلك بمرور الفترة الكافية لاكتساب القمر الضَّوء، ثبت الهلال، وثبت تحقّق الشّهر عرفاً.
ورد هذا العرض في كتاب "حوارات مع السيِّد فضل الله" [ط1/1997م، دار العارف، بيروت]..
ففي رأي سماحته(رض)، فإنّ ولادة الهلال، إذا ثبتت بشهادة أهل الخبرة الّذين يوجب قولهم الاطمئنان المستقرّ ـ تعني ولادة الشّهر الجديد...
ويلاقي سماحته في هذا المضمار سماحة العلامة الشيخ محمد جواد مغنية، في كتابه "فقه الإمام الصّادق" [ج2/48،ط.. قم]، حيث يقول: "... فمتى حصل العلم من أقوال الفلكيّين، وجب على كلّ من علم بصدقهم أن يعمل بأقوالهم، ولا يجوز له إطلاقاً الأخذ بشهادة الشّهود، ولا بشيءٍ يخالف علمه..".
أمّا الشّهيد السيّد محمد الصّدر في كتابه "ما وراء الفقه" [ج2/1994م، دار الأضواء، بيروت]، فيقول ما نصّه: "يمكن الاستفادة من المراصد الحديثة من النّاحية الفقهيّة في عدة موارد:
أوّلاً: يمكن أن يثبت بها أنّ الهلال لا وجود له أصلاً، الأمر الّذي يوفّر الجهد للنّاظرين بمحاولة رؤيته..
ثانياً: أن يثبت بها أنّ الهلال صغير جداً، بحيث لا يكون قابلاً للرّؤية، الأمر الّذي يوفّر الجهد أوّلاً، ويثبت عدم إمكان بدء الشّهر ثانياً..
ثالثاً: أن يثبت أنّ الهلال كبير، بحيث يكون قابلاً للرّؤية، الأمر الذي يمكن به إثبات أوّل الشّهر وإن لم ير بالعين المجرّدة..
رابعاً: أن يثبت بالمرصد جهة وجود الهلال وإحداثيّاته، حتى ينظر نحوها النّاظرون ويركّزوا بها دون أن يبذلوا جهداً ضائعاً في الأطراف الأخرى"..
وبالنسبة إلى بداية الشهر في الهلال الفلكيّ أو في الهلال الرؤيوي، فقد لاحظ سماحة السيد فضل الله أنّ الله تعالى جعل الصّيام منوطاً بعنوان الشّهر {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}، وشهِدَ هنا بمعنى حضَر وليس "رأى"، أي من كان حاضراً غير مسافر فليصمه.
فقد علّق وجوب الصّوم على تحقّق عنوان الشّهر. فالسيِّد(رض) ينظر إلى مسألة الشّهر على أنّه ظاهرة كونيّة، وكلّ الظّواهر الكونيَّة تخضع لأسبابها الطبيعيَّة المودعة في الكون، كما أنَّ اللَّيل يبدأ بالغروب والنّهار يبدأ بالشّروق، سواء أرأينا الغروب أم لم نره، فالرّؤية لا دخل لها في تحقّق الظّاهرة الكونيَّة، فهي حالة ذاتيّة في الرّائي، وليست حالةً موضوعيّةً في الظّاهرة التي تحدث بأسبابها الطّبيعيَّة، سواء أشاهدتها أم لم تشاهدها..
أمّا بالنّسبة إلى النصّ الشّرعيّ الّذي اعتمده الفقهاء من السنّة والشّيعة في مسألة اعتبار الرّؤية أساساً في الحكم في بداية الشّهر أو نهايته: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، فقد يقال إنَّه يستفاد منه أنَّ الصّوم معلّق على الرّؤية، كذلك الإفطار، حتَّى لو قرَّر الفلكيّون أنّ الشّهر قد بدأ..
وفي سياق متّصل، يرى السيد الخوئي أنّ الرّؤية هي وسيلة إثبات وحركة في المعرفة، ولذلك ليس لها موضوعيّة المسألة، بمعنى أن الرائي نفسه ليس شرطاً في تحقق موضوع الرؤية، فالرؤية إن كانت مجرّد وسيلة، فلماذا أطلقها النبي(ص) ولم يحدّثنا عن الهلال الفلكيّ؟!
السبب واضح وبسيط بحسب سماحته، وهو أنّ الوسائل الّتي كان يملكها النّاس في ذلك العصر للتثبّت من بداية الشّهر، لم تكن وسائل متطوّرة، فالوسيلة الوحيدة اليقينيّة هي الوسيلة الوجدانيّة من خلال الرّؤية، ولكن في حال حدثت لدينا وسائل يقينيّة أخرى علميّة في هذا المجال، فنعتمدها ولا مانع من ذلك.
ـ وقد ذكر سماحته حديثاً عن الرسول(ص) يقول فيه: "نحن أمّة أميّة لا نكتب ولا نحسب.."، ويعني هذا أنّ الحساب لم يكن موجوداً عندهم بالدّقّة الّتي يمكن أن نصل فيها إلى نتيجة قطعيّة حاسمة.. ولهذا يرى أنّ النبيّ(ص) لم ينكر الحساب من أصله كمبدأ، وإنما أنكر واقعيّته في حياة الأمّة، وقد ورد حديث سماحته في مقابلةٍ خاصّةٍ لجريدة النّهار البيروتيّة، في تموز - يوليو1995م...
وفي المقابلة الصحافيّة نفسها، يذكر سماحته أنّ دراسته لمسألة الهلال كظاهرة كونيّة، ودراسة عناصر هذه الظّاهرة ومقارنة ذلك بالنّصوص، أظهرت أنّ دورها هو دور الوسيلة للمعرفة، وليس دور العنصر الذّاتيّ للموضوع، وبذلك تكون الفتوى كفاية دخول شهر رمضان وخروجه بمجرد خروج القمر من المحاق ودخوله فيه، وهذا مما يعتمد فيه على أهل الخبرة الّذين وصلوا في التّجربة إلى مستوى يستطيعون فيه أن يحدّدوا هذه القضيّة...
فما يهمّنا من نتائج علم الفلك، هو تحديد ولادة الهلال فلكياً، ومدى دقة هذا التّحديد، إضافةً إلى حساب الفلكيّين لإمكانيّة الرؤية، ومدى دقّة هذا الحساب وإفادته في تحديد بداية الشّهر من النّاحية الشّرعيّة..
اخيرا وليس اخرا من السمات البارزة والمميزة للفقه الشيعي ان يكون من رجالاته مجتهدين كبار في منهجهم الشمولي والواسع دون تاثر بالاجواء الاجتهادية التقليدية مم يدفع بعملية الاجتهاد الى الامام ويمدها بالقوة والخصوبة وهذا ما توفر بحق في شخصية السيد فضل الله رضوان الله عليه..
التعليقات (0)