إذا كان دور الرجل واختصاصه يتوزع على جهات مختلفة في الحياة، فإن دور المرأة بالإضافة إلى دائرتها الحياتية التي لا تنقص عن دائرة الرجل إلا في حدود يجيزها العقل والعلم فضلاً عن الشرع .. فإن دور المرأة في المجتمع الإسلامي يلامس أخطر شيء في حياة المجتمع الإسلامي، ألا وهو تنشئة الجيل وفق الرؤى الإسلامية وإعداده إعدادا مؤهلا كي يديم الحياة، ويساهم في تطويره وباتجاه تكامل الحياة.
وإذا كانت المرأة في المجتمع الإسلامي قد أدت دورا رائعا بفضل إيمانها بالعقيدة الإلهية التي صاغت منها وجودا طاهراً وفاعلا، فإن نموذج المرأة التي اشتركت في واقعة الطف كانت قد بلغت القمة في ذلك الدور، وتألقت في آفاق الإنسانية لتخلد بخلود الموقف، وأصبحت بعد هذه الملحمة البطولية المثل النسوي الذي جسد المبادئ الإسلامية.
لقد انتصرت المرأة في كربلاء أكثر من مرة.. مرة للحق باعتبار أن موقف الإمام الحسين (عليه السلام) كان موقفاً عادلا.. ومرة للإنسانية، لأن رسالة الحسين (عليه السلام) كانت من أجل الإنسانية..
ومع أن المرأة المسلمة مارست دوراً رائداً في واقعة الطف وملحمة الخلود كربلاء، إلا أن التاريخ لم يعكس على صفحاته ذلك الدور وبحجم واقعه الحقيقي على الأرض، ولم تلق من قبل الباحثين والكتاب وكأنها عنصر هامشي في هذا الموقف الخطير. فبلحاظ أن التعبئة لثورة الحسين (عليه السلام) كانت شاملة لعنصري الرجل والمرأة في كافة مراحلها. إلا أننا نجد أن التاريخ قد سلط الضوء على دور الرجل دون المرأة فيما وقع بأيدينا من صور تلك الملحمة البطولية.
إن تخطي التاريخ الواضح للمرأة وتهميش دورها في صياغة الحدث التاريخي إذا كان له بعض المصاديق المبعثرة هنا وهناك. فإن تغييب هذا الدور شكل ظاهرة غريبة في واقعة الطف. وبالتغيير القائل أن هذا التخطي ناتج عن نظرة المجتمع الضيقة للمرأة بشكل عام. فإن هذا التفسير لا يصمد مطلقا أمام المحاكمة، ولا يقدم أي إجابة علمية للضياع الواضح الذي اختزل بموجبه التاريخ دور المرأة في ملحمة الطف، بما تضمنت هذه الملحمة من فصول التحم فيها موقف المرأة بموقف الرجل بصورة لم يعهدها الوضع القائم آنذاك. ولربما صدمته إلى درجة أحس فيها أن هذه الظاهرة الحضارية قد تشكل سابقة خطيرة على وضع السلطة، ومن هنا تبدأ قصة التاريخ مع العنصر النسوي في واقعة الطف.
جهاد المرأة
اقترنت كلمة الجهاد في الأذهان بمهمة حمل السلاح في المعركة لمنازلة الأعداء، في حين أن الجهاد مفهوم واسع لا يتحدد بالقتال فقط، فهو مفهوم عام يشمل كل الأعمال التعبوية التمهيدية التي تسبق وقوع المعركة أي معركة بصفحاتها المتعددة بالإصلاح العسكري تتطلب جهوداً متنوعة لاتتشابه بالاختصاص ولكنها تنتظم بمحصلتها النهائية كي تشكل فعلا تراكميا باتجاه المواجهة الشاملة. وهذه الجهود والفعاليات المتنوعة حسب مراحل المعركة، فمنها ما يتطلب إنجازه قبل وقوع المعركة، ومنها ما يتعلق بوقوعها أثناء المعركة، أما القسم الثالث فهو يختص بالمرحلة التي تلي انتهاء المعركة.
والإسلام لم يفصل بين حمل السلاح مثلا وإعداد الطعام، أو إسعاف الجريح في أجواء الحرب. بل تندرج كثير من الأفعال في إطار الجهاد ومنها على سبيل المثال الفعل الذي يؤدي إلى إضعاف معنويات العدو أو ما يصطلح عليه حاضراً بالحرب النفسية، ويبقى الفرق بين مختلف الأعمال في الميزان الإسلامي على ضوء المساهمة الفاعلة التي يفرزها التوجه الإنساني الخالص الذي يقصد به التقرب إلى الله تعالى، ويترتب على الأداء المقرون بالنية الخالصة الأجر.
إن الحرب بمعناها القديم أو الحديث تتضمن مراحل متعددة واختصاصات متنوعة لا يمكن أن تتم بالصورة المطلوبة إلا بعد توزيع المهام المختلفة على الأفراد ولتكون محصلة الجهود المشتركة هو الفعل القتالي، ولا ينكر تأثير الأعمال التعبوية والتموينية الخدمية في شروط النصر المادية، ولعل التاريخ يروي لنا قصصا مثيرة حول الانتصارات التي سجلتها الجيوش بفضل التنظيم الذي ميز الجانب الاسنادي للمعركة. والإسلام لحظ قابلية المرأة ودرجة استعدادها قبال الأعمال التي يميزها طابع العنف والقسوة، وقد وجدها تستطيع أن تنجز كافة الفعاليات العسكرية ذات الطابع الإسنادي للمعركة، وعهد مهمة القتال البحتة إلى الرجال فيما سمح لها أن تحمل السلاح في حالة الدفاع عن نفسها وقد اجمع فقهاء المذاهب الإسلامية على جواز استخدامها للسلاح في الحالة الأخيرة.
إن الإسلام منع المرأة من القتال في حالة واحدة فقط وهي حالة الجهاد الاتبدائي، والجهاد الاتبدائي كما هو معروف دعوة الناس للدخول في الدين، ويأبون ذلك، فحينئذ يجب قتالهم. وبهذا نستنتج أن الشارع المقدس قد أجاز للمرأة القتال في موقع ومنعاه في موقع آخر في ذات الوقت الذي سمح لها أن تشترك في كافة الأعمال الجهادية ذات الطابع غير القتالي.
المرأة في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
أولا: بين العاطفة والموقف
تحرك الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه الأفذاذ في وسط اجتماعي وسياسي مرتبك نتيجة السياسة الأموية التي اعتمدت القمع والتمويه من أجل تركيع المجتمع وقبوله السلطة الجديدة. ولذلك فإن المعارضة السياسية للحكم الأموي وإن كانت عريضة في المجتمع الإسلامي آنذاك، إلا أنها كانت غير شجاعة، وبدت غير واعية لمسؤوليتها تجاه ما يجري عندما لم تعلن موقفها بصراحة من هذه السلطة علنا وتلتحق بركب الإمام الحسين (عليه السلام) وإذا استثنينا موقف الحسين (عليه السلام) باعتبار أن مستوى سلوكه لم يبلغه أحد، فإن أصحابه (عليه السلام) كانوا أفرادا كباقي أفراد المجتمع آنذاك، والتمايز الوحيد الذي وصفوا به أنهم أمنوا بالإمام الحسين (عليه السلام) وصواب موقفه الرافض للظلم إلى حد الموت… هذا الإيمان جاء بطبيعته عند حالة فهم صحيحة، وإحساس عال بالمسؤولية، فهم وجود صحيح في واقع مريض. وهناك بالتأكيد أمثالهم في المجتمع ولكن الفرصة لم تتح لهم كي يأخذوا موقعهم في المعركة.
وفي ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) تبرز صورة فريدة في التاريخ انعدم مثيلها في أحداثه.. تلك هي المجموعة الفدائية التي رافقته حتى ألقت بنفسها في وسط الموت وهي تعي ما تقوم به رغم كل العروض المتكررة من الإمام (عليه السلام) في تخيير أصحابه بين القتال معه أو الانسحاب في قطع الليل المظلم، وتصريحه بالرضا عنهم بكلتا الحالتين. وإذا كان هؤلاء هم جنود الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنه كما نعرف لم يأت بهم من ثكنة عسكرية تلقوا فيها التدريبات إنما هم أفراد يعيشون وسط المجتمع وبين عوائلهم. وهنا يلح سؤال مهم: هل أن المحيط العائلي لهؤلاء الصحابة كان بمعزل عن صناعتهم كأبطال. ويستتبع هذا السؤال منطقياً سؤال أخر: إذا كان هؤلاء الأبطال من صناعة التربية، فمن الذي صنع المرأة البطولة، والمرأة الموقف،التي تجاوزت في بعض صور المعركة على الرجل فيما تحملته من أعباء وفيما أدته من أفعال مذهلة حقا؟؟.
إن تاريخ ثورة الحسين (عليه السلام) كشف عن جزء بسيط من الإجابة على هذا السؤال ولو قسراً. ولم يلتقط الأجزاء المهمة لعناصر الارتباط الواقعية لشخصية الأبطال الذين صنعوا هذه الثورة مع قائدهم. فالمدار العائلي لجنود الإمام الحسين (عليه السلام) كان قائما باعتبارهم جزء من مجتمع. لكن عندما تميزوا عن مجتمعهم ذلك بالصورة العجيبة تلك، لابد إذن من مساحة معينة لعبت فيها المرأة دورا في صناعة البطل الذي سطر كل تلك الملاحم. فأصحاب الإمام (عليه السلام) صحبوه من مجتمع، وانطلقوا معه بكامل عوائلهم ولو كان الوضع العائلي لهؤلاء الأبطال يتجه سلبا لكانت هناك حتما نتائج سلبية على مستوى الموقف على الأقل. فمصاحبة المرأة للرجل تكفي وحدها لاعتبارها المؤشر الأول على دور المرأة في دفع موقع الرجل باتجاه تثبيت الموقف والتمسك به حتى اللحظة الأخيرة. إذا أن هذا القبول الإيجابي من جانبها يترك تأثيراً نفسياً على ذات الرجل في تحرير الإدارة، وعدم التفكير بالتراجع بالحجة المتداولة (العيال) ويصبح وجود المرأة إلى جانب الرجل في تنفيذ اختيار الالتحاق بركب الإمام الحسين (عليه السلام) عاملا مؤثرا في دفع السلوك الإنساني للاهتمام بالوضع الجديد دون النظر إلى الخلف، على اعتبار أن التركة (العيال) في مكان والموقف في مكان آخر يساهم في اقتطاع جزء من تفكير المقاتل وتوجهاته لغير صالح أهداف المعركة، والاستعداد لها نتيجة إحساسه بالمسؤولية العائلية هذا مع أن افتراق المرأة عن الزوج في الرأي حول شيء ما.. يقطع به الأخير لابد أن يترك آثارا معينة في سلوكه وبمستوى الرابطة بين الاثنين، كلما كانت الزوجة أو حتى الأم ذات علاقة قوية بالزوج أو بالابن كلما كان التأثير أقوى والعكس صحيح، على أن مخالفة الرجل عن رؤية خاصة به لطموحات المرأة في بعض الأحيان نتيجة إصراره قد يثلم بهذه الفكرة، لكن النظر إلى هذه من زاوية عامة لا يمنع القول بصحتها.
ثم إن طبيعة المرأة السيكولوجية، والعاطفة الشديدة التي تفرزها العلاقة الزوجية أو علاقة الأخوة تدفع المرأة إلى الخوف من أي حركة يخطوها الرجل زوجا أو ابنا إذا كانت هذه الحركة تؤدي في نتائجها نوعا من الخطورة أما إذا كانت هذه الحركة هي من نوع المشاركة في القتال فإن شعور المرأة في هذه الحالة هو شعور تشاؤمي على الأغلب طالما أن أجواء المعركة والقتال مملوءة بمشاهد الدم والقتل، وتصبح المرأة التي تتقبل قرار الرجل بالانخراط في مهمة القتال بل والتعايش مع هذا القرار إيجابا.. تصبح لونا جديدا نتيجته ظاهرة التمرد على العاطفة في ظروف تتجه نحو العكس، والارتفاع فوق الإحساس، وسحق السلطة القاهرة للعطف. إن امرأة من هذا النوع لابد أنها صياغة جديدة بعد صراع قاس بين الإرادة والقلب.. بين العقيدة والعاطفة.. بين المبدأ والذات، هي بهذا المستوى الذي بلغته تكون قد صهرت نفسها تماما بالمبادئ السامية، واندكت بتفاصيله لتعلن عن ولادة للمرأة في زمن الثورة الحقيقية.
إن الثورة التي تبشر بالعدل والقيم الإنسانية الرفيعة لا بد أن تسبقها ثورة في ذات الإنسان الثائر كي تؤهله لخوض المعركة حتى من جانبها العنيف، على اعتبار أن الإعلان عن بشرى الثورة والخوض في تفاصيلها، والانتماء لها كليا يستوجب قرارا بالتضحية والاستمرار حتى الشوط الأخير من دون جدل في نتائجها ونوع الكسب فيها. والمرأة التي تدخل في حدث الثورة بكامل وجدها، وتستعد لتحمل صعابها ومرارتها، وتربض في خطها الأول لهي أصدق عناوين الثورة وأجرأ قراراتها بعد أن قلنا أنها كيان مملوء بالعاطفة والحنان، وهكذا كانت جميع النسوة اللاتي انتسبن لثورة الأحرار في كربلاء، وستجد عند استعراض مواقفهن إنهنّ كنّ نساءاً بهيئة أبطال لم تقل أدوارهن عن أدوار الرجال الذ ي صنعوا تلك الملحمة الخالدة على مر الأزمان.
ثانياً: في مناخ الرعب السياسي
لقد كان لدور السلطة السياسية أثرا كبيرا في تسييس الرأي العام باتجاه سلبي، وتخبط الناس في اتخاذ المواقف، على رغم أن القناعات الداخلية شبه العامة كانت لصالح الثورة الحسينية، ولعل كلام شبث بن ربعي يوضح هذا المعنى بشكل دقيق حينما قال: (ألا تعجبون إنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه آل أبي سفيان خمس سنين، ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية ضلال يالك من ضلال).
وقيمة هذا الكلام في أنه يمثل اعترافا صريحا من الخندق الذي قابل خندق الإمام الحسين (عليه السلام) فحالة التذبذب أصبحت حالة شائعة وسط مناخ القمع السياسي وشراء الذمم والضمائر بالمال المبذول من مال المسلمين، وبالحيلة والمكر اللذان غلبا على طابع السياسة الأموية، وكان من نتيجة ذلك أن تخاذل المجتمع وسط ذهول غريب حقا بين الولاء للثورة والخوف من قمع السلطة.
أنّ أصدق تصوير للوضع السياسي القائم قبل وصول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء هي تلك الجملة الوجيزة التي لحظت جواب الفرزدق الشاعر حين سأله الإمام الحسين (عليه السلام) بين لي خبر الناس خلفك؟ فقال الفرزدق: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.
وعندما تتحرك المرأة في المناخ السياسي القمعي فلك أن تتصور خلفية هذا التحرك الذي ينم عن وعي مضاف إليه عنصر الإقدام والشجاعة. فقد يكون الوعي أحياناً لا يصنع الموقف إذا كان هذا الوعي مهزوما نفسيا وعليه ارتفاع مستوى وعيها إلا أنه من جانب آخر كان يمثل تجاوزا عظيما حققته هذه المرأة في الانفلاق من الوعي الجمعي المتردد الذي سبب في صنع تلك المأساة الإنسانية.
فقد ينظر البعض إلى الموقف مقرونا بالنتائج المترتبة عليه، ويستخلص بأن موقف الرجل انتهى إلى حتمية الموت الصادر بقرار السلطة، في حين كانت النتيجة المترتبة على موقف المرأة غير هذا بكثير بالنظرة التي ترى في المجتمع العربي آنذاك لا يأخذ بأفعال المرأة إلى حد القتل وأن يجنح دائما إلى العفو عنها..
لكن هذا إذا صح فسيلغي دور الإرادة التي ينبعث عنها الموقف، والصحيح أن الأصل هو الموقف والاستثناء هو النتيجة، ولهذا فإن الثوار لا تكون نهايتهم واحدة، فمنهم الشهيد، ومنهم الجريح، ومنهم من يبقى على قيد الحياة، وعلى ضوء ذلك تكون نتيجة الموت مختلفة باختلاف الأدوار التي تصنع الحدث وفرصة العدو التي تسنح له في الانقضاض المبيد على الثوار مع أن الموقف ذاته يصبح قاسما مشتركا يجمع الثوار من جهة الأداء السياسي والجهادي قبل حصول النتائج.. هذا الموقف يبقى وساما شاخصا يتوج الأبطال سواء مضوا إلى ربهم أم بقوا على قيد الحياة ليعطروها بأجواء الحرية والشجاعة. أما إذا نظرنا إلى هذه المسائل من جانب آخر وهو أن تكون المرأة ذات موقف ومرتبطة برجل من رجال المعركة (زوجاً أو أخا أو ابناً) فإن موقع المرأة يتقدم على موقع الرجل بلحاظ التضحية الكمية التي تقدمها في سبيل الموقف.
فالمهم هي الإرادة التي تصنع الموقف، والإعلان عن الموقف هو بحد ذاته ثورة، أما النتائج فإنها لا تحسب في ظل تفوق الموقف، وإذا كان الثوار هم مشاريع التضحية فإن حصول النتيجة لا تضر بالموقف مطلقاً.
وقلما نجد ظاهرة اجتماعية أو قضية اجتماعية إلا وتقوم على في أساسها على طبيعة الفعل الذي يأخذ أشكالا مختلفة ومظاهر متنوعة تتباين باختلاف البنى الحضارية الثقافية للمجتمعات، وما زالت طبيعة الفعل والعوامل المؤثرة فيه، وعلاقته بالأطر الاجتماعية المحيطة به تشكل موضوعا أساسيا من موضوعات علم الاجتماع.
ثالثا: في قلب المعركة
لحد الآن كنا نتجول في أجواء الواقع السياسي القائم قبل حصول المنازلة يبن قائد لا خيار أمامه سوى القتال، وبين سلطة تستعجل قطف رؤوس الثوار وخنق الصوت المدوي قبل أن يتشظى في ساحة الأمة ويغير موازين القوى لصالح الثورة. وإذا كانت الفترة التي سبقت الاصطدام المسلح بين طلائع الثورة وجيش السلطة الأموية تسمح بشيء من المرونة في الموقف تنسج فيه الإرادة المترددة بعض مظاهر الولاء الخجلة للثورة الحسينية ولقائدها الإمام الحسين (عليه السلام) فإن المواجهة المسلحة، وتخندق الفريقين وجها لوجه لا تسمح مطلقا بوجود حالات من هذا النوع، ويصبح أي موقف دون مستوى الإصرار النهائي على المواجهة، والاندفاع الكلي نحو القتال المقدس والحماس المطلق لخوض الصراع من جانبه العنيف هو موقف غريب على خندق الحسين (عليه السلام)، بل أن جبهته (عليه السلام) لا يمكن أن تستوعب غير الحالة التعينية في انتخاب الموقف.
إن الأبرار الذين خاضوا الصراع إلى جانب الإمام الحسين (عليه السلام) كانوا أقدس حالة من حالات الاعتقاد بالمبدأ وأشرف موقف على طول التاريخ في تمييزا الحق من الباطل.. وأصح أجزاء الآية التي أصيبت أكثر أجزائها بالغفلة والتردد. وقمة الوعي الحقيقي الذي يعبر عن الشعور العالي بالمسؤولية.. إنهم صورة رائعة من صور الإيمان العظيم، ونموذج فريد في تجربة الإنسانية، لأنهم اختاروا الموت من بين خيارات الحياة الكثيرة.
لقد قال الإمام الحسين (عليه السلام) لأصحابه (أما بعد، فقد أتانا خبر فظيع : قتل مسلم ابن عقيل، هاني بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا. فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام).
وهنا تشّرحت المواقف، وتمحّصت النفوس، وتخير الناس بين استقبال الموت بشجاعة، وبين الانصراف إلى فسحة الأجل. وتسرب بعض الرجال في قطع الليل المظلم، وقطعوا أنفسهم عن الموقف، وفصلوا وجودهم عن الثورة، وكان بإمكان النسوة اللاتي اشتركن في المعركة أن يسلكن سلوك الذين تسربوا بما يشكله كلام المرأة من ضغط ذو وقع خاص على نفس الرجل إذا أرادت ذلك بطريقة الإلحاح على الزوج أو الابن أو الأخ، ولو بمقدار تملصها هي من موقف الثورة.
لكن ذلك لم يحدث مطلقا بل أصرت المرأة على الالتحاق بالموقف والوفاء له حتى النهاية واستقبلن أجواء الحرب الصاخبة بقناعة، وتجحفلن مع طلائع الثورة، وهنا يصبح دور المرأة في ملحمة الطف ذرى القمة. فما الذي يمنعنا من اعتبار أن هذا الموقف هو أكبر من موقف الرجل بلحاظ طبيعة المرأة؟
المرأة الزوجة
عبد الله بن عمير من أبطال الملحمة الذين انتخبوا بوعي طريق الشهادة إلى جانب الإمام الحسين (عليه السلام). وقد كان متزوجا من امرأة صالحة لها شعور كباقي النساء تجاه زوجها ولا نتصور أن شيئا يخيف المرأة أكثر من خوفها على مصير زوجها، ولعل رابطة الزوجية تترك تأثيرا واضحا على موقف المرأة في الحالات التي يقترب منها الخطر من حياة الزوج، ولنفرض أن المرأة استطاعت أن تحبس عاطفتها بين أضلاعها، وتكتم حبها وتعلقها صبرا، وتسحق على سلطان قلبها بإرادتها، لكن ذلك لا يعني أن لا تتسلل دمعة عفوية رقيقة من بين ثغرات هذه القوة لتحكي عن وداعتها. فلحظة الفراق قاسية، ودقائق الوداع عصيبة، وحتى هذا القدر الطبيعي من شعور المرأة لم يظهر في واقعة الطف…
قال عبد الله بن عمير لزوجته أنه يريد المسير إلى الحسين فقالت له زوجته: (أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك افعل وأخرجني معك، فخرج بها حتى أتى حسيناً فأقام معه).
إن التاريخ وإن قضم فصول مهمة من هذه الملحمة المثيرة، إلا أن المتتبع يستطيع أن يستنتج الكثير من هذه النصوص التي قطعها التاريخ عن الاتصال بمجمل الحياة القائمة آنذاك وتفاصيلها. فجواب زوجة عمير يعطينا صورة واضحة المعالم عن موقف المرأة ومدى مواكبتها للأحداث السياسية، وفحصها الدقيق لحاجة الأمة في إنقاذ نفسها من مأزق التحكم وانحراف مسيرة الدولة الإسلامية التي أسس قواعدها الرسول (صلى الله عليه وآله).
هذه المرأة المؤمنة تشير بكل وضوح إلى قوة عقيدتها، وشدة ارتباطها بالإسلام وتفهمها الكبير للدور الذي عليها أن تلعبه إزاء الأوضاع السياسية العاصفة، وهي بهذه الكلمات تختصر إحساسها العميق بالمسؤولية، وتطلب من زوجها أن يخرجها معه لاعتقادها بأن الواجب يتطلب تعبئة عنيفة، وإن الموقف يحتاج إلى أكثر من التضحية بالزوج، وأن الثورة لا بد لها أن تقع، وأن الأمة يجب أن تنهض بعد طابع التراخي الذي غلب عليها، والخوف الذي استمكنها. ثم وقعت المعركة، وتقابل الطرفان، وحان موعد الموت الأكيد. ترى ماذا كانت تشعر هذه المرأة؟ وكيف تصرفت؟ عندما برز زوجها عبد الله بن عمير ليقاتل أخذت هي عمودا ثم أقبلت نحو زوجها تقول: قاتل فداك أبي وأمي دون الطيبين من ذرية محمد.
فأخذت تجاذب ثوبه بعد أن حاول أن يردها نحو النساء ثم قالت:
إني لن أدعك دون أن أموت معك.
فلم يتمكن زوجها عبد الله بن عمير من إرجاعها لأنها أمسكت بالسيف الذي كان بيده اليمنى التي جمد عليها الدم نتيجة الصولة الأولى له، والتي حصد فيها جملة من شجعان الكوفة وفرسانها ومنهم يسار مولى زياد وسالم مولى عبيد الله ، وبسبب تقطع أصابع يده اليسرى، فإنه لم يستطع ردها فاستنجد بالإمام الحسين عله يردها إلى النساء فقال (عليه السلام): (جزيتم من أهل بيت خيرا فإنه ليس على النساء قتلا).
ولما قتل زوجها خرجت بخطوات واثقة بالنصر، وشموخ إيماني عظيم، واتجهت تمشي نحوه حتى جلست عن رأسه الشريف تمسح عنه التراب وتقول: هنيئا لك الجنة، أسأل الله الذي رزقك الجنة أن يصحبني معك .لقد كانت هذه المرأة تستحق بجدارة أن تكون أول شهيدة في جبهة الحسين (عليه السلام)..
التعليقات (0)