شارك هذا الموضوع

إيران وحديث الدولة والثورة

بعد احتفالات طهران بيوم مقارعة الاستكبار العالمي
إيران وحديث الدولة والثورة


بعد انتخابات الرئاسة السادسة في التاسع والعشرين من يوليو 1993 والتي انتُخِبَ فيها الشيخ الرفسنجاني رئيساً للجمهورية الإسلامية الإيرانية لولاية ثانية؛ بدأ الحديث يتزايد حول العلاقة بين الدولة والثورة في إيران وهل مالَ الميزان لصالح الأولى على حساب الثانية عنمحمد عبد الله طريق تحديث الأطر والهياكل المسلكية الثورية وتحويلها إلى أجهزة إدارية وفنية مُثبَّتة على أرضية براجماتية  تُقدم المصالح على الشعارات والقيم، خصوصاً وأن حكومة الشيخ الرئيس اتّسمت باستحواذ التكنوقراط عليها رافعة شعار الإعمار والبناء لما خلّفته حرب الثمان سنوات المفروضة ..


كان ذلك الحديث قد بدأت تضوع رائحته بهدوء بعد الانتقال الأليم لروح الإمام الخميني (قد) في النصف الثاني من العام 1989، إلاّ أنه بقي طي الكتمان بعد ذلك لأربع سنوات تقريباً وكان المُروجون لتلك الأحاديث خليط من الأصدقاء والأعداء معاً من دون التقاء في المصالح أو الأهداف أو حتى النوايا .


أكيد (بالنسبة لي علي الأقل) أن ذلك التحليل غير دقيق ويُذكرني بحديث للزعيم الصيني جيانغ تسه مين منذ بضع سنوات عندما ذكر في لقاء مع أحد رؤساء الدول الأجنبية والذي كان يزور بكين عام 1999 أنه ينام قرير العين عندما يتذكر أمرين؛ الأول : أن شاباً مثل (هو جين تاو) هو نائب الرئيس وأن مقاليد أمور الصين بيديه، والثاني : أن الأمريكيين لا يعرفون حقيقة الصين، أقول هذا الكلام (مُدعياً) بأنني مُتابع عن كَثَب الداخل الإيراني (وربما) خارجه أيضاً، وهو ما قد يتيح لي أن أتناول الفكرة من جانب آخر، وقد أتجرأ لأن أدعي أن الكثيرين قد لا يُحسنون فهم الداخل الإيراني وتركيبته الطلسمية المتداخلة والمتشابكة بين الدين والدولة والمصالح والمقدسات وكل مصطلحات الحياة والآخرة .. فإيران ومنذ أن انتصرت الثورة فيها (وبالتحديد بعد عامين من إعلان نظام الجمهورية الإسلامية) بدأت عملية المساوقة بين متطلبات الثورة ومتطلبات الدولة، وكان من الأجدر على الأحزاب والحركات وحتى الدول الإسلامية أن تعي أن أرض إيران ليس مؤسسة خيرية تساعد كل مُستضعف في هذه الدنيا وتحميه من شر الشرور وتُقدم له ما يُقدمه الباري عزّ وجل في جنات النعيم (رغم أنها فعلت وتفعل ذلك أو ما يُقاربه بدرجة أدنى) فهي قبل كل شئ كيان يعيش بين عشرات الدول يُشكلون فسيفساء سياسية تتشكل في منظمة أممية لها علاقاتها وأنظمتها، كما أنها تتجاور وتتشاطئ مع العديد من الدول التي تحكمها مصالح وجيرة فرضتها سطوة الجغرافيا منذ آلاف السنين، وبعد كل ذلك (وهو الأهم) ففي أحشائها يهجع أكثر من سبعين مليوناً من البشر يريد كل واحد منهم أن يعيش بأمان ويعمل ويأكل ويشرب ويترفه بتدلّه، ورغم كل تلك الاعتبارات وبمعيتها ظروف الحرب المأساوية والحصار الاقتصادي آوى ذلك البلد من آوى من البشر وأعطى ما أعطى، ولم يستنكف منهم كاستنكاف روما (وهي بلد موفور المال) استضافة ستمائة ألباني لجئوا إليها مضطرين مُكرَهين خلال أزمة كوسوفو .


كانت الثورة الإسلامية في إيران حَدَثاً عجيباً، كما يقول فوكو " من أجل إسقاط نظام ما نحتاج إلى أكثر من هذه العواطف الجيّاشة في القرن العشرين، نحتاج إلى سلاح، إلى مركز قيادة، إلى تنظيم وإلى دعم لوجستي ولكن ما حدث في إيران جعل المراقبين في حيرة من أمرهم، فلا توجد في الثورة تأثيرات صينية ولا كوبية ولا فيتنامية، بل هو زلزال بحري بدون جهاز عسكري، بدون طلائع وبدون حزب " كان فوكو يرى بأن الثورة الإسلامية هي أول ثورة ما بعد الحداثة في عصرنا الحاضر أو بعبارة أخرى أول تمرد كبير ضد الأنظمة الأرضية ..


وأحدث أشكال الانتفاضة " قارئاً لها من خلال (1) النموذج المادي الفيزياوي والتنظيم أو ثنائية نهاية بنية مشاريع الحكومات الإنسانية (2) تمرد المعارف والعلوم المنقادة والمحلية على الحقائق الغالبة المستقرة والمصدَّق بها، بالإضافة إلى الروحانية والمعنوية الدينية التي هي بمثابة تقنية ونهج لبناء القدرة وفرضها من الأسفل (3) الإبطال النسبي لتقنيات السلطة .


أضف إلى ذلك أن الثورة الإسلامية ألغت النظريات ذات العلّة الواحدة في مجال دراسات علم الثورة كنظرية الصراع الطبقي (كارل ماركس) والتضامن الاجتماعي (ميل دوكهايم) والكريزما والتحرك الاجتماعي (ماكس فيبر) والواقعية السياسية (ويلفردي بارتو) ونظرية علم النفس الفردي (دوتوكيل)، كما لم تتسق إرهاصاتها ولا حركتها مع النظرية البنيوية (تيدا سكاج بل) التي ترى أن أهم عوامل الثورة هي العوامل البنيوية لعجز السلطة وعدم فاعليتها والعوامل الدولية والظروف الاستثنائية والتضاد الحاصل بين البنية العامة وبين الطبقات الاجتماعية – الاقتصادية للدولة، وكان أبرز تضاد بين أحداث الثورة وتلك النظرية هو أن الثورة لم تكن ثورة أرياف وقرويين بل كانت الآيدلوجيا والتعبئة والقيادة الصبغة الغالبة على ذلك .


هذه النظرة لميشيل فوكو وغيره من المفكرين ذوو أصحاب العلّة الواحدة لا تُفضي إلاّ إلى أن مفهومي الثورة والدولة كانا قريبين جداً من نقطة المركز التي تمثّل دولاب الحركة السياسية لكليهما باتساق، كما أنني أستحضر هذا الكلام لإثبات أن الحديث عن الثورة الإسلامية يجب أن لا يطرق بدون لملمة لجميع الأدوات والحيثيات المُشَكِّلة للحدث، فالحركة السياسية التي رافقت أحداث الثورة كانت مُتشابكة إلى الحد الذي يجعل بعض أمورها طلاسم وألغاز وهو ما يُمكن رؤية بعض تمظهراتها في السنتين الأوليتين لإنتصارها حين كانت عملية المحاصصة والتقاسم وتثبيت المناهج والرؤى الحزبية خطاباً طاغياً بين الفرقاء لم يُذَب إلاّ بإشعاعات ليزرية صدَرت عن الشخصية الكاريزمية للإمام الخميني وخطابه ذو الكلمات النهائية الرقيقة التي تدل على معاني عميقة وعنيفة من دون أن ينسب لنفسه اكتشافات الآخرين المعرفية البديعة على طريقة المعتذرين أو Apologists حسب تعبير سميث .


لذا فإنني أقول أنه لا يُمكن قياس التحول من الثورة إلى الدولة أو المسافة الفاصلة بينهما بمعايير إنسانية بحتة أو بإنزال شعار هنا أو هناك على مصاديق نسبية لكي لا يتحول مثالنا (وكما أسلفت) إلى ما يشبه تقييم لمنظمة خيرية، بل يجب أن يتأسس حديثنا على الجوانب الأكثر أهمية ونوعية في الثورة الإسلامية والتي من خلالها يُمكن التعرف على الخيط الفاصل بين الدولة والثورة أو غلبة أي منهما وهي كالتالي :


1. طيلة عمر الثورة (الممتد لأكثر من ستة وعشرين عاماً) بل وفي أضنك أيامها وخصوصاً الأولى منها حافظت القوات المسلحة بشتى تشكيلاتها على دورها المهني والوظيفي والأمني كسياج للدولة من دون أن تتدخل في اللعبة السياسية أو إعادة ترتيب أوراقها، ولكي نعطي نماذج أكثر قُرباً من الناحية التاريخية نذكر بأنه وحتى عندما قام أكثر من أربعة وعشرين من قادة حرس الثورة الإسلامية (الباسدران) بتوجيه رسالة للرئيس محمد خاتمي في يونيو 1999 يُلفتونه فيها إلى تردي الأوضاع الثقافية والاجتماعية والأمنية تدخل المرشد الأعلى مباشرة مُحذراً من تدخل العسكر في الشأن السياسي، كما يجب أن نشير إلى أنه  وبالرغم من أن الثورة قد مرت بما هو أشد من المراحل الحرجة كالحرب المفروضة والحصار الاقتصادي وحالة الاستنزاف التي بدأت مع الأساطيل الأمريكية في الخليج بعد العام 1986 إلاّ أنها أبقت ظروف الحياة السياسية عادية وأجوائها هادئة ولم تلجأ إلى فرض أحكام الطوارئ أو الأحكام العُرفية التي تتمتع بها الكثير من الدول العربية منذ أيام النكبة وما قبلها، وكان ذلك من أهم المكاسب التي تُحسب للتجربة والذي يُعطيها شهادة امتياز بتغليب ثقافة الدولة والقانون على الثورة بدون المساس بالثوابت .


2. إن النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية تعاطى مع مبدأ تداول السلطة بالمزيد من الحساسية والتركيز وسعى جاهداًَ (واستطاع) في عدم تأبيد السلطة واحتكارها وضرورة انتقالها سلمياً من جيل لآخر، واحترام قوانين البلد المُقَرَّة، إيماناً منه بأن الديمقراطية هي قواعد وإجراءات، وحتى عندما أشاع حواريو للشيخ الرفسنجاني من حزب كوادر البناء ضرورة التمديد للشيخ الرئيس لدورة رئاسية ثالثة بهدف إكمال خطته الخمسية الثانية (وهو ما يعني تعديل في المادة 114 من الدستور) حَسَمَ المرشد الأعلى ذلك الحديث بضرورة الاحتكام إلى الدستور وعدم الانجرار للعواطف، وكانت تلك هي أيضاً نقطة إيجابية لصالح ترسيخ قوانين وأعُراف الدولة من دون المساس بمعنويات الثورة .



3. مارس النظام السياسي الجديد نَهَم استجلاب المشروعية بأقصى ما يُمكن من تمثّلاتها الحقيقية والمباشرة ومن غير أي تسويف ومُداهنة للظروف الصعبة التي كان يُواجهها؛ فقد قام في 01 إبريل 1979 أي بعد خمسين يوماً من انتصار الثورة بالتصويت على نظام الجمهورية الإسلامية، وفي 03 أغسطس من نفس العام أي بعد أقل من سبعة أشهر أجريت انتخابات مجلس الخبراء لدراسة وإعداد مسودة الدستور، ثم جرى الاستفتاء على الدستور في 03 ديسمبر من نفس العام، بعدها جرت أول انتخابات رئاسية في 14 مارس 1980 أي بعد خمسين يوماً من تاريخ الاستفتاء على الدستور، ثم أخذت تتوالى العمليات الانتخابية إلى يومنا هذا، مُشكّلة هاجساً حيوياً ودافعاً مُتحركاً حفاظاً على ديمومة مشروعية نظام الحكم الذي يتطلب رأي الأمة حتى قبل الولاية الدينية العليا وهو ما تُفسره ملحوظة أنه ورغم اتساع صلاحيات الولي الفقيه إلاّ أنه لا يملك سلطة حل المجلس النيابي المنتخب .


أضف إلى ذلك أن الثورة وأثناء تثبيت المشروعية السياسية قامت بالمساوقة مع ذلك في تأسيس البنى المؤسساتية لعدم ترك أي فراغ قانوني ونظامي؛ فبعد يوم واحد من انتصارها تأسست قوات حرس الثورة الإسلامية (الباسدران) وتأسس جهاد البناء في 17 يونيو من نفس العام وتعبئة المستضعفين في 26 نوفمبر من نفس العام أيضاً وحركة محو الأمية في 28 ديسمبر من نفس العام ومؤسسة الشهيد في 13 كانون الثاني 1980  ومؤسسة الإعلام في 22 يونيو 1981، وهي كلها معايير ثُثبت أن الثورة عملت على ترسيخ مفهوم الدولة منذ أيامها الأولى .


أما المناجزة بالأرقام والرد ورد الرد في تقديم شكلي الثورة والدولة في الجمهورية الإسلامية على أنه محصور في الوفاء للشعارات بطريقة مثالية؛ فهي مسألة جدّ شائكة لاختلاطها بشبكة المصالح ثم بالسرية وتهمة العمالة الأمر الذي سيُحول النقاش حولها إلى حوار بيزنطي، إلاّ أنني ورغم ذلك أودّ أن أشير إلى النقاط التالية :


1. قدمت إيران في مؤتمر طوكيو لإعادة إعمار أفغانستان قبل عام ونصف أكثر من 560 مليون دولار وهو مبلغ جزيل جداً ويعتبر أعلى مساهمة دولية مرصودة  .


2. قدمت إيران لحزب الله لبنان بين العام 1987 – 1990 أكثر من تسعين مليوناً من الدولارات لإنجاز مشروعه المدني، كما قامت بالإغداق عليه بشكل منتظم، ثم أدرجت موازنته السنوية ضمن الميزانية العامة للحكومة الإيرانية المطروحة على مجلس الشورى الإسلامي .


3. بعد عملية عناقيد الغضب التي قامت بها حكومة العمل الصهيونية في العام 1996 ضد حزب الله والتي دُمّرت فيها العديد من المنشآت والمرافق الخدماتية العامة اللبنانية، قامت الحكومة الإيرانية بإعادة ترميم وتشييد محطات الكهرباء المُدمرة .


4. قامت وزارة جهاد البناء والجهاد الزراعي منذ العام 1988 ولغاية العام الحالي 2004 بتشييد أكثر من 214 مشروع عمراني وزراعي في لبنان على هيئة مساعدات .


5. قدمت إيران وخلال الاجتماع الدولي الثالث لخبراء صندوق الدعم المالي لإعادة بناء العراق (آي.آر.اف.اف.آي) في 13 أكتوبر المنصرف في طوكيو مبلغ عشرة ملايين دولار كوجبة أولى رغم أن العراق مدين لها بأكثر من 100 مليار دولار نتيجة الحرب المفروضة .


والأمثلة تطول حول ذلك ولكن الذي يجب أن لا نُطيل (أو نستغرق) في بحثه هو أن نُفسّر الأشياء بخلاف منطقها، وكذلك تصيّد الأخطاء وتوظيفها (بغير عِلم) خدمة لرايات عدائية قادمة من هناك حيث الولايات الزرقاء والحمراء من العالم الأنغلوساكسوني .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع