السيد محمد صالح العدناني، ذكريات اللقاء والصحبة (5)
عندها توثقت الروابط بيني وبين السيّد، وهي انعقدت من أول لقاء بيننا في مسكنه الجديد، ومن أول لقاء جمعنا، شعرت من أول يوم براحة غريبة اتجاهه، وشعور بالأمان وبالأبوة ، وبأني أعيش في كنف والدي، وبأنه يمثل لي واحة، لا أعلم من أين جاءني هذا الشعور وكيف داخلني، وكنت أرتاح إذا توجهت إليه، وأستأنس إذا جلست في حضرته واستطعت أن أجعله يتكلم ويقص عليّ ذكرياته وآراءه في الدين والحياة والأدب، وكنت أشعر بحسرة لأن هذه الآراء لا تُدون، وكم كنت أقول لو أن عندي الوقت الكافي والهمة الأكيدة والعزم لقمت بمحاورته ودونت هذه المحاورات .. فآراؤه ليست تقليدية، ولا من الصنف المألوف، ويمتاز في طرحها بالصراحة والوضوح، وأنا بطبعي أحب هذا السنخ من العلماء، الذين أجد فيهم النزعة نحو التجديد، والمغايرة، بجانب الصراحة والوضوح والمباشرة، وعدم الخوف من المجتمع في طرح هذه الآراء. فالحقيقة هي الأحق والأولى بالاتباع، لا الناس ولا المجتمع ولا العرف، ولا الذي وجدنا عليه آباءنا وإنا على آثارهم مهتدون. ولا يهم إذا اختلفت معه، بل يعجبني لأنني أختلف معه، فهو يجذبني ويثيرني بالآراء التي يؤمن بها، وإن كنت لا أوافقه في بعضها وأتحمس معه في بعضها الآخر.
ولعلي شعرت بالأمان معه وبالحب من أول لقاء لأني وجدت فيه البساطة والعفوية والارتجال والسماحة، كان يجلس على المكتب وعليه سروال أبيض و(فانيلة)بيضاء رقيقة، ويغطي الرأس بغطاء خفيف، هذا لباسه الذي أراه عليه دائما ً وهو في البيت، لم أره يوما ً بكامل ثيابه، وكان يقدم لي البسيط من الطعام ولا يشعرني بكلفة أو مسافة بيني وبينه، فيقدم لي العصير غالبا ً ، أو شيئا ً من الفاكهة أحيانا ً أخرى. أو لأني وجدته جادا ً ومخلصا ً لعمله، ونشيطا ً في البحث والكتابة والتأليف، وأنا يشدني هذا النوع من الرجال، الذي لا يقضي حياته في اللهو والفراغ وابتغاء المتعة والتسلية وراحة الجسم والنفس بلا طائل، وعلى الأخص رجل الدين، فالجاد والمنتج والمكافح من العلماء يستحق كل الاحترام والتقدير. وعندما اقتربت منه عرفت بوضوح كيف استطاع أن يكتب هذا الكم الهائل من المؤلفات العديدة، وهو الخطيب وصاحب الزوجات الأربع وعشرات الأبناء، كل هذا تمَّ عن طريق الجد والنشاط والنصب والسهر وقلة النوم والاستيقاظ المبكر واستغلال الوقت والإخلاص للكتابة وعدم إشراكها بأي لذة أخرى .
على الرغم من أعوامه التي اقتربت من التاسعة والثمانين إلا أنني أحيانا ً أصادفه وهو خارج وإذا به في كامل نظافته وأناقته ولباسه الجميل، وكان يلبس دائما في خروجه ثوبا نظيفا ً مشرقا ً، ويضع على رأسه (الغترة) ويتعطر بعطر زكي.. ولعلّ هذا ما يفسر طول عمره ونشاطه الوافر، فالإقبال على الحياة، والنظافة والتمسك بالجمال يعطي المرء عمرا وبسطة في الجسم.
والغريب أنه على الرغم من أن للسيد عشرات الأبناء (34) بين بنين وبنات إلا أنني لا أتذكر زرته ولديه واحد من أبنائه، سوى السيد جمال، الذي كان يرافقه ويتابعه ويسهر على راحته ويبذل أقصى ما يستطيع لتوفير متطلباته، وبالتبعية قويت علاقتي بالسيد جمال وصار يتصل بي دائما ً ، وكثيرا ً ما أتلقى منه مكالمات يكلفه بها أبوه السيد محمد صالح، وحين يأتيني اتصاله أعرف مباشرة أن السيد يريدني في أمر، وهذا الأمر في غالبه ثقافي بالدرجة الأولى، فأحيانا ً كان يسألني إن كان لدي فكرة عن كاتب، وأحيانا ً يستفسر عن كتاب أين يستطيع أن يحصل عليه، أو يسأل عن معلومة يستوثق منها، كل ذلك ثقة من السيد فيي، واعتقادا ً منه بأنه سيجد مبتغاه عندي، بالنسبة للكتب كنت أدله على مكانها في المكتبات التجارية، وإذا كنت أستطيع أن أحضر له الكتاب بنفسي أقوم بذلك برضا وحماسة، وأما بالنسبة للمعلومة أو الشخصيات فكنت أعطيه رأيي وأدله على بعض المصادر التي تناولت ذلك ليرجع إليها، فالسيد وجدته لا ينقل معلومة أو خبرا ً إلا ويوثقه بالمصدر والصفحة، وهذا أمر في غاية المثالية ويدل على الأمانة والدقة. ومن يود التأكد فليراجع كتبه الكثيرة.
كان السيد جمال لصيقا ً بأبيه، ووجدته في أخريات أيامه لا يفارقه إلا لأمر قاهر، وكان يرعى والده بكل أريحية، ويسهر على راحته بكل حب وتفانٍ ٍ . وكنت أجده يتذلل أمام أبيه ولا يرفع نظره أو رأسه في وجوده، احتراما ً وحبا ً، وهو الذي كان يتابع كتاباته ويشرف على طباعة كتبه في الفترة التي صاحبت السيد فيها، ويعرف أدق التفاصيل الحياتية والثقافية المتعلقة بوالده. والغريب في الأمر برمّته أنّ السيد جمال هو ابن السيد محمد صالح من زوجته الرابعة السيدة كريمة بنت الوجيه الحاج حسن بن علي النواخذة من قرية سماهيج. ومع أنه من سَكََنة هذه القرية البعيدة نسبيا ً عن السنابس، ومع أنه منشغل بالدراسة الجامعية إلا أنه مع هذا كله كان لا يترك فرصة من الوقت تتاح له إلا واستغلها في المجيء لوالده، وكنت أجده في أغلب الأوقات هو الذي يتكفل بأخذ والده للمكان الذي يريد، من مكتبات أو حضور مشاركة أو زيارة مجلس لأحد الأعيان أو العلماء أو الذهاب لمجلس تعزية وغيرها، وكان يُدخل والده في السيارة بيديه ويرفع رجليه بتذلل، ويعتني بلباسه ويتابع شؤونه قاطبة!! ومن الممكن أن تعد السيد جمال هو الوريث الثقافي لتركة السيد من الكتب والمخطوطات والكتابات المختلفة، فهو لديه إلمام دقيق بكل كتاباته وبكل شاردة وواردة بفكر السيد وأدبه ومؤلفاته.. كيف كتبها وتاريخها وفكرتها وغير ذلك، والسيد جمال هو الذي أعدّ الكتيب القيم "نيل الأماني" في رثاء السيد محمد صالح بعد رحيله، وفي ظني أن السيد جمال بإمكانه أن يكتب كتابا ً مهما ً في سيرة والده، يروي فيه كل التفاصيل الحياتية للسيد، وكذلك يسلط الضوء فيه على كتاباته ونشأتها وما يتعلق بها .. وليته يفعل ذلك قريبا ً.
وبجانب السيد جمال كانت زوجته الأخيرة السيدة ممتاز هي التي ترعاه خير رعاية، ولا يصدر منها أي تقصير في شأنه ورعايته، فكانت هي والسيد جمال خير معين له، وخير مساندين له في محنته الأخيرة، ويبدو أنه حين أُصيب بمرضه الأخير الذي أودى بحياته كان الاثنان السيد جمال والسيدة ممتاز هما الأكثر حضورا ً ورعاية له وحمله في مرضه، حتى أشفق عليهما السيد مما يعانيان من بذل الجهد والتعب في سبيل راحته أكثر من بقية أبنائه وبناته، فقد خصّهما بالذكر لما رأى منهما من نَصَب وتعب .. ويدل على هذا ما كتبه من أشعاره الأخيرة على فراش المرض. ففي آخر قصيدة كتبها السيد وَصَف حياته من الولادة حتى الوفاة منظومة، وذلك بطلب من ابنه الفنان السيد عبّاس الموسوي.. يقول السيد في ضمنها:
فيا رب إِنْ تسمع لي اليوم دعوة
وترعى لآبائي المقام الأعظما
أرحني بموت عاجل وأرح به
جمالا ً وممتازا ً ومن طرق الحمى
فإنّ حياتي أصبحت كربة على
نسائي وأولادي وكلاّ ومغرم
ومن المناسب هنا أن أنقل للقارىء الكريم ما كتبه السيد جمال نفسه حول علاقته الحميمية بوالده، وسهره على راحته، وبذله الجهد الجبّار في متابعة شؤونه... يقول :
" المنزل..
الحديقة..
والأسرة..
ثلاث مهام أوكلها لي أبي في حياته، صرت حلقة الوصل بين البيت كله وبينه، وبين أهالي القرية وبينه أيضا ً، أرتب مواضيع الخطابة، أ, القراءة الحسينية، وأنقل له طلبات أهل القرية: طلب استخارة قرآنية، أو طلب حرز، أو دعاء لمرضاهم، أو طلب أشرطة تسجيل مجالسه الحسينية، أو طلب حضوره في افتتاح المنازل والبيوت والأفراح والتأبين والزواج. كنت أشبه بمدير أعماله. ثقة متبادلة، وحبي له كبير.
كنت صغيرا ً أرى أبي يصعد المنابر يخطب في قرية سماهيج بالمحرق التي خطب فيها قرابة 37 عاما ً موسميا ً كاملة حتى العام 2000 و7 سنوات متفاوتة حتى وفاته، ومن هنا نجد السبب المباشر في اختيار الزوجة الرابعة من سماهيج.. أمي. أحبّ أهل سماهيج وأحبوه وقرأ مجلسه الأخير فيها يوم الأربعاء المصادف لتاريخ 20/12/2006م والثلاثة الأيام التي بعده كانت ختام مشواره مع المنبر الحسيني.
وقبل هذه المجالس الأربعة قرأ مجلس بمناسبة وفاة الإمام الصادق (ع) يوم الجمعة صباحا ً، وذلك مشاركة منه لتأبين السنوية الثالثة لوفاة والدتي المرحومة أم أزهار وقد ذكرها في وسط المجلس ودموعه تنحدر منه حتى قال: إن هذا اليوم يوم الجمعة وقبل ثلاث سنوات بالتحديد وفي المناسبة نفسها في صبيحة وفاة الإمام الصادق توفيت قرينتي أم أزهار، وهذا المجلس اليوم أقرأه تأبينا ً ومشاركة مني لروحها، ثم صار يقرأ قصيدة فيها ، منها:
والطفل إن سهرت في الليل ترضعه
حازت فضائل سلمان وعمّار
وطلقة عند وضع الحمل أفضل من
إحيائها الليل في نفل وأذكار
هذي صفات بنات الوحي من بلغت
بها العلى وحوتها أم أزهار
هذا كان آخر مجلس رسمي يقرأه الخطيب العدناني.
كان حريصا ً على عدم ضياع الوقت وله جدول يومي ينفذه للقراءة والمطالعة حتى أيامه الأخيرة . يقرأ ويكتب ويطالع. هكذا رأيته منذ أن كنت صغيرا ً.
وفي الفترة الأخيرة ضاعفت ملازمتي للخطيب العدناني حيث كنت أزوره مرتين في اليوم حتى إن أحد (الصحيح إحدى) أخواتي تعجبت مني وتقول لي: كيف كنت تأتي من سماهيج إلى السنابس إنها مسافة بعيدة؟ فأقول حبي لوالدي هو الذي يساعدني على هذه المهمة الشاقة. يهاتفني يقول: تعال لنذهب إلى المكتبة (مكتبته الخاصة)، فنذهب للمكتبة ويحمل معه قائمة بالكتب التي يريدها فنبحث عنها لاستخراج موضوع ما منها.. كان يعرف أين توجد وفي أي مكان فأستغرب من قدرته على تذكر أماكنها في هذه المكتبة الضخمة، وإذا وجدنا الكتاب المطلوب يأخذه ويقرأه في يوم واحد.
حتى أنجزت معه في الفترة الأخيرة 38 كتابا ً لعناوين مختلفة كانت كتب مخطوطة منذ سنوات تنتظر الظهور للنور إلى أن ظهرت بعزيمته وإرادته.
وفي الفترة الأخيرة هاتفني وقال بأنه سيعطي جميع الكتب غير المطبوعة لفلان من العلماء ليقوم بطباعتها، فقد قال لي يابني إن موتي قد قرب وأخاف أن تضيع هذه الكتب الثمينة، إنها ثمرة عمري فرفضت فكرته وأقنعته بأن هذا العالم لن يهتم بها مثلما سأهتم بها أنا وإخوتي. حاولت جاهدا ً ألا ّ يهديها لأحد حتى اقتنع بكلامي وكان ذلك قبل أربعة أشهر فقط، ووعدته: أنا الذي أريد أن أتكفل بطباعتها من بعدك. فجعل يبكي ويقول سأكتبها كلها لك لأنك أنت الذي تعرف كل شيء عنها وقال: إني على يقين بأن الله سيوفقك إن حملت هذه الأمانة وسعيت في طبعها وإنجازها . وآخر كلمة قالها: أنت من يحمل حروفي يا جمال وأنا أثق بك ...... ".
وللحديث بقية
التعليقات (2)
رضي العجوز الماحوزي
تاريخ: 2011-11-21 - الوقت: 01:04 مساءًقدس الله روح السيد العدناني وجزاكَ الله خيراً أستاذي العزيز ..
بنت السنابس
تاريخ: 2011-11-29 - الوقت: 08:30 صباحاًهنيئا لهذا الشيخ ثمرة حياته وهنيئا لنا ان يكون منا ولكن هل نسير على خطاه لنهنيء انفسنا/الشكر الجزيل لصاحب الموضوع