قال الله تعالى في كتابه المجيد: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * ِليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}[الحجّ: 27- 28]، {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97].
موسم الوفادة إلى الله
لا يزال نداء الله سبحانه عبر نبيِّه إبراهيم(ع) تتردَّد أصداؤه في كلِّ زمانٍ ومكان: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحجّ: 27].
ها هم الحجيج يتوجَّهون في هذه السَّنة من كلِّ حدبٍ وصوب، ومن كلِّ أقطار العالم، كما كان الأمر في كلِّ الأعوام السَّابقة، وكما سيكون في الأعوام اللاحقة بعون الله، والهدف هو لقاء الله في بيته الأوَّل: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}[آل عمران: 96]، وزيارة رسوله(ص) والأئمَّة(ع)، وكلّ الَّذين واكبوا مسيرة الإسلام، وبذلوا التَّضحيات من أجلها في مدينة رسول الله(ص). وهو استعادةٌ لكلِّ هذا التَّاريخ المجيد، تاريخ النبوَّات والرِّسالات، بدءاً بإبراهيم(ع)، وانتهاءً برسول الله(ص)، لتجديد العبوديَّة لله، والولاء لرسوله وأهل بيته، وللرِّسالة الَّتي دعوا إلى حملها، والَّتي بُذلت التَّضحيات لأجلها.
والحجُّ، كما أشار الإمام زين العابدين (ع)، هو "وفادة إلى ربِّك، وفرار إليه من ذنوبك، وبه قبول توبتك، وقضاء الفرض الّذي أوجبه الله عليك"، وقد ورد أيضاً في الحديث: "حجّوا واعتمروا، تصحّ أجسامكم، وتتَّسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفوا مؤونة النّاس ومؤونة عيالاتكم" .
معنى التَّلبية
ويبقى الهدف الكبير الّذي يريده الله سبحانه من هذه الفريضة، هو بناء الفرد المسلم، وقواعد المجتمع الإسلاميّ، على الصّورة التي يريدها الله سبحانه، والّتي يريد للمسلمين أن يتابعوها في كلِّ حياتهم.
وهذا ما أُريد للحجّاج أن يعبّروا عنه خلال أدائهم لمناسك حجّهم، منذ أن يبدؤوا بأوّل أعمالهم؛ فعندما يُحرمون، ينطلق منهم النِّداء مدوّياً، معلناً الحقيقة الّتي يُراد لهم الالتزام بها والعمل على أساسها: "لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك". وبهذه الكلمات، يؤكِّدون لله أنَّهم سيلبّونه كلَّما دعاهم، لن يتركوا واجباته، وسينتهون عن محرَّماته، وسيجدهم في كلِّ المواقع الَّتي يريدهم التَّواجد فيها، وسيبتعدون عن كلِّ المواقع الَّتي يريدهم الابتعاد عنها... لن يقدِّموا رِجلاً ولن يؤخِّروا أخرى حتَّى يعلموا أنَّ في ذلك لله رضا.
أمَّا لماذا كلُّ هذه التَّلبية والتَّعبير عن كلِّ هذه المشاعر تجاه خالقهم؟ فلأنَّ هذا الرّبَّ هو المالك لهم، وهو المنعم عليهم، وهو الَّذي لم يتركهم منذ أن كانوا أجنَّةً في بطون أمَّهاتهم، وبعدما خرجوا، كانوا في رعايته وعطائه وفضله، فلماذا لا يلبّونه، وهل هناك من يستحقّ التَّلبية أكثر منه؟!
شعائر الحج: تأكيد الالتزام بالله
وفي الطَّواف حول الكعبة المشرَّفة، يريد الله لهذا الطَّواف أن يكون طواف العقل والقلب وكلِّ المشاعر والأحاسيس، إلى جانب طواف الجسد، ليكون ذلك تأكيداً للالتزام بالله، بالدَّوران الدَّائم حوله، حول أحكامه وشريعته وإرادته، والرَّغبة في التقرّب منه مهما تبدَّل المكان أو تغيَّر الزَّمان...
وهكذا عند السّعي بين الصّفا والمروة، والسّعي هو التزام السّير في الطّريق المستقيم الّذي رسمه الله لعباده مهما كانت المعاناة، كما هي حركة الّذين يسعون بين الصّفا والمروة في ذهابهم وإيابهم...
وفي الوقوف بعرفات والمزدلفة والمبيت في مِنى، إشارةٌ إلى الاستعداد للوقوف حيث يريد الله لنا أن نقف، والمبيت حيث يحبّ الله لنا أن نبيت، حتَّى لو كان ذلك تحت الشَّمس المحرقة، أو في اللَّيالي الباردة...
وعندما يضحِّي الإنسان، فإنَّه لا يضحِّي بحيوانٍ يذبحه وتنتهي القصَّة عند ذلك، بل هو إعلانٌ يتجاوب مع إعلان النّبيِّ إبراهيم وولده إسماعيل(ع)، عن الاستعداد للتَّضحية في سبيل الله، حتَّى لو كلَّف ذلك تضحيةً بالنَّفس وبذلها في سبيله، أو تضحيةً بمالٍ أو جاهٍ أو أيّ شيءٍ غالٍ ونفيس في الحياة، فكلّ شيءٍ يرخص في سبيل الله ومن أجله، ومن وراء ذلك الوصول إلى التّقوى...
والحجُّ بعد كلِّ ذلك هو ساحة التَّعبير لله عن رفض الانصياع لكلِّ الشَّياطين، وضرورة رجمهم، كباراً كانوا في أحجامهم وقدراتهم، أو متوسّطين أو صغاراً، وبكلِّ الوسائل، حتَّى لو أدَّى ذلك إلى معركةٍ معهم، فلا مهادنة مع الشّيطان، لأنّه لا مهادنة مع عدوّ يترصّدنا لنكون من أصحاب السّعير، سعير الدّنيا والآخرة: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6].
والحلق بعد ذلك هو تأكيد الاستعداد لبذل كلِّ شيءٍ مما يريده الله من أجسامنا...
تجديد عهد الأخوّة بين المسلمين
وقد أراد الله سبحانه أن لا تتمَّ كلُّ هذه التَّربية على كلِّ هذه المعاني بشكلٍ فرديّ، بل أن تكون مع كلّ المسلمين الآخرين، على تنوّعهم واختلافهم في اللّغة واللَّون، والبلدان، والمذاهب، والأفكار وما إلى ذلك.
فخلال أداء هذه الفريضة، يريد الله لكلّ الحجّاج أن يطوفوا معاً، وأن يسعوا معاً، ويقفوا معاً، وأن يبيتوا معاً، ويضحّوا معاً، وأن يهلّلوا لله ويحمدوه ويكبّروه معاً... وهذا كلّه يراد منه التّجديد لعهد الأخوَّة بين المسلمين بكلّ تنوّعاتهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، والتّعبير العمليّ عن وحدتهم، وتقرير لتواصلهم رغم كلّ اختلافاتهم، وتأكيدٌ منهم أنَّهم لن يتحرَّكوا في الحياة أفراداً متفرّقين، بل أمَّةً واحدةً كما أرادهم الله سبحانه: " أخواناً بررةً متحابّين"، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 104]، وأنَّ عليهم أن يكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالحمَّى والسَّهر...
فالحجّ هو إعلانٌ عمليّ عن الوحدة الإسلاميَّة الواجبة بين الشّعوب والقبائل والأعراق والأجناس والمذاهب، حيث الكلّ على صعيدٍ واحد، وتحت ظلّ ربٍّ واحد، وفي زمانٍ واحد، الكتف يلتقي بالكتف، ولا تمايز تلحظه حتّى في أداء المناسك، إلا في بعض التّفاصيل البسيطة.
الحج ووحدة المسلمين
وهذه الصّورة هي الّتي حرص رسول الله(ص) على تأكيدها في الحجّة الوحيدة الّتي حجّها، وهي حجّة الوداع، حيث وقف بين النَّاس ليقول لهم: "أيّها النَّاس، إنَّما المؤمنون أخوة، ولا يحلّ لمؤمنٍ مال أخيه إلا عن طيب نفسٍ منه... لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض... أيّها النّاس، إنّ ربّكم واحد، وأباكم واحد. ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا عجميّ على عربيّ... إلا بالتّقوى".
إنَّ على المسلمين، ومن خلال هذه الأرض الّتي يؤدّون فيها مناسكهم، أن يؤكِّدوا لأنفسهم، أنَّهم ما استطاعوا أن يبنوا كلَّ تاريخهم المجيد، إلا عندما توحَّدوا وأزالوا كلَّ التوتّرات الَّتي كانت بينهم، فعندما توحَّد المهاجرون والأنصار، وتنازل المسلمون عن كلّ مصالحهم الخاصَّة، بنوا حضارةً ومجداً، وأوصلوا صوت الإسلام إلى كلِّ مكان، في وقتٍ كانوا يعانون قبل إسلامهم من تفرّقهم وتوزّعهم شعوباً وقبائل ومذاهب، وهم يستطيعون أن يستعيدوا كلّ هذا المجد الكبير، إنْ هم فكّروا في مواقع قوّتهم، وعملوا على تثبيتها وتقويتها.
إنّ على المسلمين أن يعوا أنّ هذا الدّين لم يصلهم بالتمنّيات، بل بالمعاناة الّتي عاناها رسول الله(ص) وأصحابه، وعاناها أهل البيت(ع) وأصحابهم، فليحافظوا على كلّ هذه الجهود، وليعملوا على عدم تضييعها بالخلافات الّتي يراد منها أن تسقط واقع المسلمين وقوّتهم.
أيّها الأحبّة، إنّ قيمة العبادات بنتائجها، ونحن من يصنع نتائجها، من خلال وعينا لها، وأدائها بروحيّتها وحيويّتها، وإنّ ما ندعو إليه، هو أن يشهد الحجّاج أكبر المنافع لهم، كما أراد الله لهم، وأن يعودوا بصورةٍ أفضل على المستوى الإيمانيّ والأخلاقيّ، لا أن تبقى صورهم السّابقة رغم كلّ ما فيها من ضعف، فقد ورد في الحديث: "ما يُعبَأُ بمن يؤمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: خُلقٌ يخالق به من صحبه، وحلم يملك به غضبه، وورع يحجزه عن محارم الله".
إنّنا نريد للمسلمين أن يخرجوا من دوائرهم الصّغرى، باعتبار أنّهم ينتمون إلى هذا البلد أو ذاك؛ وذلك بأن يخرجوا إلى رحاب الإسلام الواسع. ونحن هنا لا ندعوهم إلى ترك بلدانهم والتخلّي عنها، لكن أن يعتبر الواحد منهم أنَّه مسلم بالدَّرجة الأولى، ثمّ هو من هذا البلد أو ذاك، ليكون لمسألة الإسلام الأولويَّة في بنائه لذاته...
الدَّور الاقتصاديّ والسياسيّ للحجّ
ولا بدّ للمسلمين من أن يعوا دوراً كبيراً للحجّ يغفلون عنه، وهو أنّه مناسبةً اقتصاديّةً مميّزةً ليقوِّي بعضهم بعضاً على المستوى الاقتصاديّ. فمع كلّ تقديرنا لاقتصاد الآخرين، فإنّ لدينا الكثير من المصنوعات في مختلف المجالات، فكم نتمنَّى أن يؤدِّي الحجّ دوراً في تعزيز اقتصاد المسلمين.
نريدُ أن يكون الحجّ هو الواحة الّتي يشكّل فيها المسلمون إطاراً سياسيّاً جامعاً لهم، يدرسون فيه كلَّ المشاكل الّتي يعاني منها الواقع الإسلاميّ، وكثيرة هي هذه المشاكل...
فليكن الحجّ هو الملتقى لكلّ قيادات المسلمين، ومكان تبادل شؤونهم وشجونهم، ولنجعلها فريضةً حيّة؛ أن لا يكون فيها الضَّجيج أكثر من الحجيج، وأن لا يعود كلّ مسلمٍ إلى بلده لا يحمل معه إلا عنوان الحاجّ دون كلِّ فوائده ومعانيه ودلالاته، أن يساهم الحجّ في إزالة كلّ نقاط الضّعف الرّوحيّ والإيمانيّ، كما الضّعف الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، أن نطهّر واقعنا من كلّ ما نعاني منه، وكما قال الإمام الصّادق(ع): "إذا أردت الحجَّ، فجرِّد قلبك لله... ثم اغسل بماء التَّوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصّدق والصَّفاء والخضوع والخشوع، وأحرم من كلّ شيءٍ يمنعك من ذكر الله ويحجبك عن طاعته، واستقم على شرط حجّك هذا، ووفاء عهدك الّذي عاهدت به مع ربّك وأوجبته إلى يوم القيامة".
أن يبقى الله هو هاجسنا ورائدنا والهدف الّذي نرتجيه، كما في الحجّ كذلك بعده.. {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}[البقرة: 200].
والحمد لله ربِّ العالمين.
آية الله السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله)
التعليقات (0)