الدعاء في الإسلام ركن ركين، وكهف حصين، وواحة أمان وطمأنينة يلجأ إليه الإنسان المسلم عندما تداهمه الخطوب، وتنتابه العلل، وتتلبّد أمامه الأجواء فيحسّ بالاختناق في كل لحظة، ويفتش عن المتنفس، ويبحث عن (الإنعاش)، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى حيث قال: (وَإِذا مَسَّ الإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً..) يونس: 12.
وهو شعور فطري بوجود القوّة الأعظم، واليد الغيبية التي تمتد في اللحظة المناسبة لإنقاذ الإنسان من محنته.
كما أن الأحاديث الشريفة التي هي تعبير عن روح القرآن أكدت على أن للدعاء أهدافاً وحكماً كثيرة لو عرفها الإنسان لاكتشف كنزاً عظيماً.. اكتشف علاجاً لمشاكل عويصة يعيشها في حياته.. وحلاًّ للمصاعب التي تعترضه.. واكتشف بالتالي شفاءً لما في صدره من الآلام والأدران.
وفي طليعة هذه الأحاديث ما روى عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض)(1).
إن المؤمن يواجه في حياته مخاطر كثيرة، وذلك بسبب ضعف نفسه، لأن الإنسان خلق من ضعف وركب في ضعف (وَخُلِقَ الإِنْسانُ ضَعِيفاً)، حياته محدودة، وعمره محدود، وعلمه محدود، وأخيراً تحركه في الدنيا محدود.
والسؤال هو كيف يخرج الإنسان من هذا الضعف الذي يحيط به؟!
إنه يخرج بقوة خارجية، وبإمداد غيبي هو الاتصال بالله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه.
كما أن الدعاء ـ كما في الحديث ـ عماد الدين، فللدين مظهر وجوهر، مظهر الدين هو الصلاة والصيام، والحج.. إلى آخر العبادات.. ولكن ما هو جوهر الدين وعماده؟ إنه الدعاء، لأن جوهر الدين هو اتصال الإنسان بالله، وعماد الدين وهو عروج الإنسان إلى الله، فإن الله سبحانه وتعالى تحدث إلى الإنسان عبر القرآن الكريم، ولكن كيف يتحدث الإنسان مع الله سبحانه؟ إن مناجاة الإنسان مع ربّه هو الدعاء. وصاغ الإمام السجاد (رابع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)) أدعية عالية المضامين بوحي من القرآن الحكيم تعتبر بحق دائرة معارف عليا لجميع المعارف الإلهية، ابتداءً من معرفة الله ومعرفة أسمائه الحسنى، وطرق التوسل إليه، واستمراراً مع صفات الرسل وانتهاءً بتكريس الصفات الرسالية عند الإنسان المسلم. لنتأمل المقطوعة التالية في التربية الأخلاقية:
(اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واحجُبني عن السرف والازدياد وقوّمني بالبذل والاقتصاد، وعلّمني حسن التقدير واقبضني بلطفك عن التبذير، وأجر من أسباب الحلال أرزاقي، ووجّه في أبواب البرّ إنفاقي وأوزعني من المال ما يحدث إليّ مخيلة، أو تأدّياً إلى بغي، أو ما أتعقب منه طغياناً، اللهم حبّب إلي صحبة الفقراء، وأعنّي على صحبتهم بحسن الصبر، وما زويت عنّي من متاع الدنيا الفانية فاذخره لي في خزائنك الباقية، واجعل ما خوّلتني من حطامها وعجّلت لي من متاعها بلغة إلى جوارك، ووصلةً إلى قربك، وذريعة إلى جنتك، إنك ذو الفصل العظيم وأنت الجواد الكريم).
إن التأمل في فقرات هذا الدعاء الرائع يرفع الإنسان أعلى مراتب الشعور الإنساني حيث يشعر المرء بحب الصحبة للفقراء.. والابتعاد عن أخلاق الطغاة.. وبالذات (الطغيان الناشئ من الغنى والثروة). كما يعلمنا الإمام (عليه السلام) كيف ينبغي أن نصرف المال بدون تبذير. ولكن مع الإنفاق في وجوه البر والإحسان.. كما يذكّر الإنسان بأن الهدف الأقصى هو بلوغ الآخرة، عند جوار الرب الكريم.. وليس التلذذ بالمتاع الزائل والملذات الفانية في هذه الحياة.
الفساد الأخلاقي في عصر الإمام السجاد (عليه السلام)
لقد كان واضحاً في عصر الإمام السجاد (عليه السلام) مدى الخطورة والانهيار الذي بدأ يدبّ في أوصال الأمة المسلمة في كيانها ووجودها الاجتماعي، وذلك إثر الهجوم الواسع النطاق الذي أخذ (المفسدون) والطواغيت على عاتقهم القيام به. فقد بدأ هؤلاء يشيعون ويروجون الأفكار الهدامة، ويشجعون ألوان المجون والتحلل الأخلاقي، ويخترعون كلّ وسيلة لتدمير وتفكيك البنى الاجتماعية والأسريّة. يدلنا على ذلك، ويشهد عليه ما نقله أبو الفجر الأصفهاني في كتابه الأغاني(2)، وما أورده المسعودي في مروج الذهب(3)، وكذلك كانت عمليات (الإفساد الرسمي) والحفلات الماجنة، وانتهاك الحرمات نهاراً جهاراً، ممّا ينبئ بعملية (إفساد منظّم) تقف وراءها مؤسسات الدولة. إن من يطّلع على مثل تلك الصور والأرقام يدرك ما كان يجري من (فسادٍ وإفساد) وعلى مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية(4) والفكرية والأخلاقية.
وإذن إزاء ذلك ماذا يمكن أن يفعل (المرجع القائد) الإمام السجاد (عليه السلام) في وضع كانت ترصد فيه أية حركة أو تحرك؟ وكيف يستطيع أن يقوم بدوره بصفته (إمام الأمة)، والمسؤول الأول عن حماية الشريعة وأمن المجتمع المسلم؟
وقد فرضت عليه العزلة التامة، وأحيط بأجواء تحصى فيه الأنفاس، ويضطهد فيها الناس، ويؤخذون بالظنة والتهمة كما شدّ الرقباء، وراحت عيونهم تبحث عن كل من يتصل بالإمام (عليه السلام) من قريب أو بعيد.
إن الوعي العميق بمثل هذه الظروف من جهة وبأهمية القيام بدورٍ شجاع وفاعلٍ ولابديّة النهوض بمبادرة خلاقة، فضلاً عن (المسؤولية الرسالية)، كل ذلك دفع الإمام السجاد (عليه السلام) إلى التحرك الجاد والمناسب فشهر (سلاح الدعاء)(5) في وجه الخصوم والأعداء ليكون بادئ ذي بدء (المصل المضاد) والتحصين الضروري، ولإنقاد ما يمكن إنقاذه، ثم لينطلق منه وبه لشنّ (الهجوم المضاد) ولقد كان هذا الاختيار موفقاً جداً.
إن الإمام السجاد (عليه السلام) ينطلق في ذلك من وعي تام بأن التوعية الفكرية تبقى (باردة)، ولا تؤدي إلى (تفعيل) الحياة الثقافية والسياسية للأمة، وتحصين المسلمين ضد عوامل الهدم الفكري، والإفساد السياسي والأخلاقي. نعم إن التوعية الفكرية وحدها ما لم تمتزج بالنداوة الروحية وتنفعل بالحرارة العاطفية لا تثمر الثمرة المرجوة. ومن هنا رأى الإمام السجاد (عليه السلام) أن يتلقى المسلم التوعية الفكرية من خلال (المناجاة)، حيث يكون وجدان المسلم عادةً في (سخونة كافية) فتكون قادرة حينئذ على أن تأخذ مداها الكامل، وتترسخ في أعماق النفس وتستقر في صفحة الذهن، وبتحقق عملية (الانفعال) تلك تتم عملية (التحصين).
إن علينا هنا أن نتبين مدى ما حققه الإمام السجاد (عليه السلام) من ظفر ونجاح. وليس عسيراً أن نعثر على عشرات الشواهد التي تدلّنا على أن الأدعية السجادية صارت معشوقة ومتبناة من قبل قطاعات واسعة في الأمة. ونظرةً عجلى على أسانيد الصحيفة ورواتها وحفظتها(6) وتناقلها بأمانة ودقة، وبما لم يتوفر مثله للكثير من المأثورات تشير لنا تلك الحقيقة بوضوح وتؤكد مدى النجاح والظفر. ويظهر لنا وجه آخر في هذه القضية المهمة، وهو أن الإمام السجاد (عليه السلام) بحكم مسؤوليته الرسالية ولكونه المسؤول الأول في تلك الفترة عن الحفاظ على أصالة الفكر الإسلامي ونقائه ثم إيصاله إلى الأجيال اللاحقة سليماً معافىً من التشويش والتحريف وبعيداً عن أباطيل الخصوم وتشويهاتهم، سواء منهم من كان يكيد للإسلام (كالمنافقين) أم من كان يتربص الدوائر للانقضاض عليه. إن تلك المسؤولية حملته على استخدام هذه (الوسيلة) بلحاظ أنّها فيما تستبطنه من مضامين بعيداً عن أعين الرقباء ووسائل رصدهم العادية. على أنه يقتضي التنبيه أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من بعده وبالأخص ولده الإمام الباقر (عليه السلام)، ثم حفيده الإمام الصادق (عليه السلام) قد نهضا بدورهما الريادي والقيادي في مجال بث علوم أهل البيت (عليهم السلام) ونشر فقههم ومعارفهم بالوسائل المألوفة والمتاحة. إلا أنه مع ذلك كله حرصوا بدورهم على نقل وترويج أدعية الصحيفة السجادية، ودعوة شيعتهم ومريديهم إلى حفظها والاهتمام بها، لتبقى دائماً وأبداً في كل عصر تدلّهم فيه الخطوب، فيكون الفكر الإسلامي النقي الذي تحمله مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) عرضةً للاضطهاد والتدمير تبقى تلك الصحيفة تحمل (الأمانة) وتصونها.
واستناداً إلى هذا، فإنّ الرجوع إلى الصحيفة السجادية يعدّ رجوعاً إلى الينابيع الأصيلة والنقية. وإن البحث في مضامينها الراقية سواء في المجال الفكري والسياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي، ومحاولة استكشاف المفاهيم.
والنظريات والآراء الشديدة سيغني ولا شك مسيرة الفكر الإسلامي.
وما أجمل أن نختم الحديث عن أدعية الإمام السجاد بمقطوعة رائعة من أدعيته التي تعلّم المؤمنين ـ كيف ينبغي الانقطاع إلى الله؟ والاستغناء عن الخلق والذلّة لهم!
(اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره، ومن مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره، ومن ذي فاقة سلني فلم أوثره ومن حق ذي حق لزمني لمؤمن فلم أوفره ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره) الصحيفة السجادية: 147.
الهوامش:
1- بحار الأنوار: ج90، باب فضل الدعاء والحث عليه.
2- راجع الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ج7، ص6، وما بعدها طبعة دار الفكر.
3- راجع مروج الذهب، المسعودي، ج3، ص214. وراجع العقد الفريد لابن عبد الله الأندلسي، طبعة دار الهلال، 1968.
4- راجع العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب.
5- راجع جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)، السيد محمد رضا الجلالي، ص224، مطبعة أمير، قم المقدسة.
6- راجع الصحيفة السجادية، تحقيق السيد الموحد الأبطحي، مؤسسة الإمام المهدي، قم المقدسة.
التعليقات (0)