بدء الوَحي
إنّ التاريخ الإسلامي يبدأ في الحقيقة من يوم بعثة الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) بالرسالة، والتي وقعت على أثره حوادث خاصة.
ويوم بُعث النبيُّ الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) لهداية الناس، ودوّى في سمعه الشريف نداء «إنك لرسول اللّه» الصادر عن ملاك الوحي أُلقيت على كاهله مسؤولية كبرى وثقيلة جدّاً، على نمط الوظيفة الهامة التي أُلقيت على كاهل من سبقه من الأنبياء والرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين.
منذ ذلك اليوم اتضح هدف أمين قريش، أكثر فأكثر، وتجلت خطته أكثر فأكثر.
ونحن نرى من اللازم قبل شرح الحوادث الأُولى الواقعة عند البعثة أن نعطي بعض الإيضاحات حول مسألتين:
1 - وجوبُ بعث الأنبياء.
2 - دورُ الأنبياء في إصلاح المجتمع.
لقد أودع اللّه تعالى في كيان كُلّ كائن من الكائنات أدوات تكامله، وجهّزه - لسلوك هذا الطريق - بالوسائل المتنوعة، والأجهزة المختلفة اللازمة.
ولنأخذ مثلاً : نبتة صغيرة، فان ثمة عوامل كثيرة تتفاعل في ما بينها وتعمل لتحقيق التكامل فيها.
إن جذور كل نبتة تعمل اكبر قدر ممكن لامتصاص العناصر الغذائية، وتلبية احتياجات النبتة، وتوصل العروق والقنوات المختلفة، عصارة ما تأخذه من الأرض إلى جميع الأغصان والأوراق.
إننا لو درسنا جهاز (وردة) لرأيناه أكثر مدعاة للإعجاب وأشد إثارة للتعجب من تركيب بقية النباتات.
فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللازم للأوراق الناعمة اللطيفة في الوردة.
وهكذا الحال بالنسبة إلى بقية الأجهزة في «الوردة» ممّا أُنيط إليها مسؤولية الحفاظ على كائن حيّ، وضمان رشده ونموّه، فإنها جميعاً تقوم بوظائفها المخلوقة لها بأحسن شكل، وأفضل صورة.
ولو أننا خطونا خطوات أكثر وتقدّمنا بعض الشيء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم الأحياء، لرأينا أنها جميعاً وبدون استثناء مُزوّدة بما يضمن بلوغها إلى مرحلة الكمال المطلوب لها.
وإذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في قالب علميّ لوجب أن نقول: إنّ الهداية التكوينية، التي هي النعمة المتجلّية في عالم الطبيعة، تشمل كل موجودات هذا العالم من نبات، وحيوان وإنسان.
ويبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله:
(ربّنا الّذي أعطى كُلّ شيء خلقه ثُمّ هدى)(سورة طه: الآية 50).
فانّه يصرّح بأن كل شيء في هذا الكون من الذرة إلى المجرّة ينعم بهذا الفيض العامّ، وانّ اللّه تعالى بعد أن قدّر كل موجود وكائن، بيّن له طريق تكامله، ورُقيّه، وهيأ لكل كائن مِن تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته ونموّه، وهذه هي (الهداية التكوينية العامة) السائدة على كل أرجاء الخليقة دونما استثناء.
ولكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية، التكوينية لكائن مثل الإنسان، اشرف الموجودات، وأفضل ما في هذه الخليقة؟!.
بكل تأكيد: لا.
لأن للإنسان حياة أُخرى غير الحياة المادية، تشكل أساس حياته الواقعية، ولو كان للإنسان حيادة مادية جافّة فقط مثلما لعالم النباتات، والحيوانات، لكفت العواملُ والعناصرُ المادية في تكامله، والحال أن للإنسان نوعين من الحياة، يكمن في تكاملهما معاً رمز سعادة الإنسان ورقيّه.
إن الإنسان الأول، ونعني به إنسان الكهوف والحياة البسيطة والفطرة السليمة التي لم يطرأ على جبلته أي اعوجاج لم يكن بحاجة إلى ما يحتاج إليه الإنسان الاجتماعيّ من التربية والهداية.
ولكن عندما خطى الإنسانُ خطوات أبعد من ذلك، وبدأ الحياة الاجتماعية، وسادت على حياته فكرة التعاون والعمل الجماعي برزت في روحه ونفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة للاحتكاك الاجتماعي، وغيّرت الخصال القبيحة والأفكار الخاطئة صفاتِه الفطرية، وبالتالي اخرج المجتمع من حالة التوازن!.
إن هذه الانحرافات حملت خالق الكون على أن يرسل إلى البشرية رجالاً أفذاذاً صالحين يتولّون تربية البشر، وليقوموا بتنظيم برنامج المجتمع، والتخفيف من المفاسد الناشئة - بصورة مباشرة - عن النزعة الاجتماعية لدى الإنسان، وليضيئوا - بمشاعل الوحي المشّعة المنيرة - طريق السعادة والخير للإنسانية في جميع المجالات والأبعاد.
إذ لا نقاش في أنّ الحياة الاجتماعية والعيش بصورة جماعية مع كونه مفيداً، ينطوي على مفاسد لا تُنكر، ويجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد.
ولهذا بعث اللّه سبحانه رجالاً مصلحين، وهداة مرشدين يعملون - قدر الإمكان - على الحدّ من الانحرافات والمفاسد، ويضعون عجلة المجتمع - بتنظيم القوانين الواضحة والأنظمة الحكيمة - على الطريق الصحيح، ويضمنون دورانها وحركتها في المسار المستقيم.
وقد يُستفاد هذا الأمر - بوضوح - من قوله تعالى: (كان النّاس امّة واحِدةً فبعث اللّه النّبيِّين مُبشِّرين ومُنذرين وأنزل معهمُ الكِتاب بِالحقِّ لِيحكُم بين النّاس في ما اختلفُوا فيه)(سورة البقرة: الآية 213).
دَور الأنبياء في إصلاح المجتمع:
إن الذي يتصوره الناس عادة هو أنّ الأنبياء مجرد معلّمين إلهيين بُعِثوا لتعليم البشرية. فكما يتعلم الطفل خلال حركته التعليمية ابتداء من الابتدائية ومروراً بالمتوسطة وانتهاء بالجامعة دروساً معينة ومواضيع خاصة على أيدي الأساتذة والمعلمين، كذلك يتعلم الناس في مدرسة الأنبياء أمورا خاصة، ويكتسبون معارف معينة، وتتكامل أخلاقهم وصفاتهم وخصالهم الاجتماعية جنباً إلى جنب مع اكتسابهم المعرفة والعلم على أيدي الأنبياء والمرسلين.
ولكننا نتصور إن مهمة الأنبياء ووظيفتهم الأساسية هي (تربية) المجتمعات البشرية لا تعليمها، وان أساس شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد، وانه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها الصحيح، وما لم تلفها غشاوات الجهل والغفلة لعرفت وأدركت خلاصة الدين الإلهي، وعصارتها، في غير إبهام، ولا خفاء.
على أن هذه الحقيقة قد أشار إليها قادة الإسلام العظماء.
فقد قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) في نهج البلاغة عن هدف الأنبياء: «أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم... لِيستأدُوهم ميثاق فِطرتِه، ويُذكرُوهم منسيّ نِعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويُثيروا لهم دفائن العُقول»( نهج البلاغة : قسم الخطب، الخطبة رقم 1).
مثالٌ واضح في المقام:
إذا قلنا: إن وظيفة الأنبياء في تربية الناس وإصلاح نفوسهم هي وظيفة البستاني في تربية شجيرة من الشجرات، أو قلنا: أن مثل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية وهدايتها، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الأودية والجبال، لم نكن في هذا القول مبالغين.
وتوضيح ذلك إن النبتة، أو الشجيرة الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الأُولى كل قابليات النمو، والرشد، فإذا توفر لها الجوُ المناسب للنمو، دبّت الحياة والحركة في كل أجزائها، واستطاعت بفعل جذورها القوية وأجهزتها المتنوعة وفي الهواء الطلق، والضوء اللازم، من أن تقطع أشواطاً كبيرة من التكامل، والنمو.
فمسؤولية البستاني في هذه الحالة تتركز في أمرين:
1 - توفير الظروف اللازمة لتقوية جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة في تلك النبتة أو الشجيرة، وتخرج من حيّز القوة إلى مرحلة الفعلية، والتحقق.
2 - الحيلولة دون تعرض تلك الشجرة أو النبتة للانحرافات والآفات، وذلك عندما تتجه القوى الباطنية صوب الوجهة المخالفة لسعادتها، وتسلك طريقاً ينافي تكاملها.
ومن هنا فان مسؤولية البستاني ووظيفته ليست هي (الإنماء) بل هي (المراقبة) وتوفير الظروف اللازمة ليتهيّأ لتلك الشجرة والنبتة أن تبرز كمالها الباطني.
لقد خلق اللّه سبحانه البشر وأودع في كيانه طاقات متنوعة، وغرائز كثيرة، وعجن فطرته وجبلّته بالتوحيد، وحبّ معرفة اللّه، وحبّ الحق والخير، والعدل والإنصاف، كما وأودع فيه غريزة السعي والعمل.
وعندما تبدأ خمائر هذه الأمور وبذورها الصالحة المودوعة بالعمل والتفاعل في كيان الإنسان تتعرض في الجو الاجتماعي لِبعض الانحرافات بصورة قهرية، فغريزة العمل والسعي تتخذ شيئاً فشيئاً صفة الحرص والطمع، وغريزة حب السعادة والبقاء تتخذ صورة الأنانية، وحب الجاه والمنصب، ويتجلى نور التوحيد والإيمان في لباس الوثنية وعبادة الأصنام.
في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه إلى البشرية: (الأنبياء والرسل) على توفير ظروف الرشد والنمو الصحيح لتلك الغرائز وتلك القوى والطاقات في ضوء الوحي، والبرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع الإلهي الهادي، ويقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز، والوقوف دون تجاوزها حدودها المعقولة المطلوبة.
ولقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في ما مرّ من كلامه: إن اللّه أخذ - في مبدأ الخلق - ميثاقاً يدعى «ميثاق الفطرة».
فما هو ترى المقصود من ميثاق الفطرة هذا ؟
إن المقصود من هذا الميثاق هو : أن اللّه تعالى بخلقه وإيداعه الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني، وبمزج الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق الطيبة والسجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقاً فطرياً بأن يتبع خصال الخير، ويأخذ بالغرائز الطّيبة الصالحة.
فإذا كان منح جهاز البصر (العين) للإنسان هو نوع من اخذ الميثاق من الإنسان بان يتجنب المزالق، ولا يقع في البئر، فكذلك إيداع حسّ التدين، وغريزة الانجذاب إلى اللّه، وحبّ العدل، في كيانه هو الآخر نوع من اخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمناً باللّه، موحّداً إياه، عادلاً، منصفاً، محباً للخير والحق.
وإن وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا الناس على العمل بمقتضي ميثاق الفطرة، وبالتالي فانّ مهمّتهم الأساسية الحقيقية هي تمزيق أغشية الجهل وتبديد سحب الغفلة التي قد ترين على جوهرة الفطرة المطعمة بنور الإيمان، فتمنعها من الإشراق على وجود الإنسان، وتحرمُ الإنسان من هدايتها.
ومن هنا قالوا: إن أساس الشرائع الإلهية يتألف من الأمور الفطرية، التي فطر الإنسان عليها.
وكأنّ صرح الكيان الإنساني (جبلٌ) اختفت بين ثنايا صخوره وفي بطونه أحجار كريمة كثيرة ومعادن ذهبية ثمينة، فالوجود الإنساني هو الآخر قد أودعت فيه فضائل وعلوم، ومعارف وخصال، وأخلاق متنوعة.
فعندما يغورُ الأنبياء والمهندسون الروحيّون في أعماق نفوسنا وذواتنا وهم يعلمون جيداً أن نفوسنا معجونة بطائفة من الصفات والسجايا النبيلة والمشاعر والأحاسيس الطيبة، ويعملون على إعادة نفوسنا - بتعاليم الدين وبرامجه - إلى جادة الفطرة المستقيمة السليمة فإنهم في الحقيقة يذكّروننا بأحكام فطرتنا، ويُسمّعوننا نداء ضمائرنا، ويلفتونها إلى الصفات، والى الشخصية المودوعة فيها.
تلك هي رسالة الأنبياء، وذلك هو عملهم الأساسي، وهذا هو دورهم في إصلاح النوع الإنساني، أفراداً وجماعات.
أمين قريش في غار حراء:
يقع جبل «حِراء» في شمال «مكة» ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمان.
ويتألف ظاهر هذا الجبل من قطع صخرية سوداء، لا يُرى فيها أيُّ أثر للحياة أبداً.
ويوجد في النقطة الشمالية من هذا الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه ولكن عبر تلك الصخور، ويرتفع سقف هذا الغار قامة رجل، وبينما تضيء الشمس قسماً منه، تغرق نواح أُخرى منه في ظلمةٍ دائمةٍ.
ولكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه، وقضى ساعات بل وأياماً وأشهراً في رحابه... ذكريات يتشوق الناس - وحتى هذا الساعة - إلى سماعها من ذلك الغار، ولذلك تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار، متحملين في هذا السبيل كل عناء، للوصول إلى رحابه، لكي يستفسروه عما جرى فيه عند وقوع حادثة : «الوحي» العظيمة وليسألون عما تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الأكبر ممّا جرت حوادثه في ذلك المكان التاريخي، العجيب.
ويتحدث ذلك الغار هو الآخر إليهم بلسان الحال ويقول: ها هنا المكان الذي كان يتعبد فيه عزيز قريش وفتاها الصادق الأمين.
وها هنا قضى ليالي وأياماً عديدة وطويلة قبل أن يبلغ مرتبة الرسالة، في عبادة اللّه، والتأمل في الكون، وفي آثار قدرة اللّه وعظمته.
أجل، لقد اختار محمّد صلّى اللّه عليه وآله ذلك المكان البعيد عن ضجيج الحياة، للعبادة والتحنث، فكان يمضي جميع الأيام من شهر رمضان فيه، وربما لجأ إليه في غير هذا الشهر أحياناً أُخرى، إلى درجة أنّ زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع إلى منزلها، تعرفُ أنه قد ذهب إلى «غار حراء» وأنه هناك مشتغل بالعبادة والتحنث والاعتكاف. وكانت كلّما أرسلت إليه أحداً وجده في ذلك المكان مستغرقاً في التأمل والتفكير، أو مشتغلاً بالعبادة والتحنث.
لقد كان (صلّى اللّه عليه وآله) قبل أن يبلغ مقام النبوة، ويُبعث بالرسالة يفكر - أكثر شيء - في أمرين:
1 - كان يفكر في ملكوت السماوات والأرض، ويرى في ملامح كل واحد من الكائنات التي يشاهدها نور الخالق العظيم، وقدرته، وعظمته وعلمه، وقد كانت تفتح عليه من هذا السبيل نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الإلهي المقدس.
2 - كان يفكر في المسؤولية الثقيلة التي ستوضع على كاهله.
إن إصلاح المجتمع في ذلك اليوم على ما كان عليه من فساد عريق وانحطاط عريض، لم يكن في نظره وتقديره بالأمر المحال الممتنع. ولكن تطبيق مثل هذا البرنامج الإصلاحي لم يكن في نفس الوقت أمراً خالياً من العناء والمشاكل، من هنا كان يفكر طويلاً في الفساد في حياة المجتمع المكّي وما يراه من ترف قريش، وكيفيّة رفع كل ذلك وإصلاحه.
لقد كان (صلّى اللّه عليه وآله) حزيناً لما يرى من قومه من فساد العقيدة المتمثل في الخضوع للأوثان الميتة، والعبادة للأصنام الخاوية الباطلة، ولطالما شوهدت آثار ذلك الحزن على محيّاه، وملامح وجهه الشريف، ولكن لما لم يكن مأذوناً بالإفصاح بالحقائق، لذلك كان يتجنب ردع الناس عن تلك المفاسد، ومنعهم عن تلك الانحرافات.
بدء الوحي:
لقد أمر اللّه ملكاً من ملائكته بأن ينزل على أمين قريش وهو في غار حراء ويتلو على مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة، ونصبه لمقام الرسالة.
كان ذلك الملَك «جبرائيل»، وكان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الذي سنتحدث عن تاريخه في المستقبل.
ولا ريب أن ملاقاة الملك ومواجهته أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّؤ خاصّ، وما لم يكن محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) يمتلك روحاً عظيمة، ونفسية قوية لم يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوة، وملاقاة ذلك الملك العظيم.
أجل لقد كان «أمين قريش» يمتلك تلك الروح الكبرى، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة، والتأمّل العميق الدائم، إلى جانب العناية الإلهية.
ولقد روى أصحاب السير والتاريخ انه رأى رؤىً عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بيّن واضحٍ وضوح النهار(صحيح البخاري: ج 1 كتاب العلم ص 22، بحار الأنوار: ج 18 ص 194).
ولقد كانت ألذّ الساعات وأحبها عنده بعد كل فترة، تلك الساعات التي يخلو فيها بنفسه، ويتعبّد فيها بعيداً عن الناس.
ولقد قضى على هذا الحال مدة طويلة حتى أتاه - في يوم معين - ملك عظيم بلوح نصبَهُ أمامه وقال له: «إقرأ»، وحيث أنه (صلّى اللّه عليه وآله) كان أُمياً لم يدرس أجاب الملَك بقوله: «ما أنا بقارئ».
فاحتضنه ذلك الملك، وعصره عصرة شديدة، ثم طلب منه أن يقرأ فأجابه بالجواب الأول.
فعصره الملك ثانية عصرة شديدة وتكرّر هذا العمل مرات ثلاث أحس بعدها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) في نفسه أنه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح، فقرأ ساعتها تلك الآيات التي تشكل - في الحقيقة - ديباجة كتاب السعادة البشرية، وأساس رقيها.
لقد قرأ (صلّى اللّه عليه وآله) قوله تعالى: (إقرأ باسمِ ربِّك الّذي خلق. خلق الإنسان مِن علقٍ. إقرأ وربُّك الأكرمُ. الّذي علَّم بِالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم)(سورة العلق: الآيات 1 - 5).
وبعد أن انتهى جبرائيل من أداء مُهمته التي كُلِّف بها من جانب اللّه تعالى، وبلّغ إلى النبي تلكم الآيات الخمس، انحدر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) من جبل حراء، وتوجه تحو منزل خديجة(السيرة النبوية : ج 1 ص 236 و237).
ولقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) إجمالاً، وبيّنت وبشكل واضح إن أساس الدين يقوم على القراءة والكتابة، والعلم والمعرفة، واستخدام القلم.
ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين:
لقد تسبّب التقدمُ العظيم والمتزايد الذي تحقق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب الكثير من العلماء القدرة على فهم وإدراك القضايا المعنوية والخارجة عن إطار العلوم الطبيعية وبالتالي أدى إلى تحديد وتضييق آفاق الفكر عندهم.
فإذا بهم أصبحوا يتصورون أن الوجود يتلخص في هذا الكون المادي، وانه ليس في الوجود من شيء سوى المادة وان كل ما لا يمكن تفسيره وتبريره بالقوانين والقواعد المادية فهو أمر باطل، ومن نسج الخيال !!
إن هذا الفريق - لتسرعه في إصدار الحكم في الأمور المتعلقة - بالغيب وقضايا ما وراء الطبيعة، وحصر أدوات المعرفة بالحس والتجربة - أنكروا عالم الوحي، بحجة أنّ الحسِّ والتجربة لا يقودانهم إلى ذلك العالم، ولا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات، فلكونها بالتالي لا تخضع لمبضع التشريح، ومجهر الاختبار أنكروها بالمرة، وكانت النتيجة أن أدوات المعرفة المعروفة (الحسّ والتجربة) حيث إنها لا تهدي إلى عالم ما وراء المادة فأذن لا وجود خارجي لذلك العالم ولحقائقه أبداً !
إنّ هذا النمط من التفكير نمط جدُّ ضيق ومحدود، مضافاً إلى انه يتسم بالغرور والغطرسة، فهو من باب «استنتاج عدم الوجود من عدم الوجدان» في خطوة متعجلة فجّة !!
فما دامت هذه الحقائق التي يعتقد بها الإلهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصل إليها عن طريق الأدوات الفعلية المتعارفة بينهم للإدراك والمعرفة فهي إذن لا أساس لها من الواقع !!
إن الذي لا شك فيه هو: إن الماديين لم يدركوا مقالة العلماء الإلهيين حتى في مسألة إثبات الصانع الخالق فكيف بالعوالم الأخرى لما فوق الطبيعة، ولو أنّ الفريقين تحاوروا في جوّ علمي مناسبٍ، بعيداً عن الأغراض والعصبيّات، لكان من المتوقع ان تزول الفواصل بين الماديين والإلهيين في أقرب وقت، وأين يرتفع هذا الاختلاف الذي قسّم العلماء إلى فريقين على طرفي نقيض.
لقد أقام المؤمنون الموحِّدون عشرات الأدلة والبراهين القاطعة على وجود اللّه تعالى، واثبتوا بأنّ هذه العلوم الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم القادر، وان هذا النظام العجيب السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة وبواطنها لدليل قاطع، وبرهانٌ ساطع على وجود مبدع هذا النظام، وأن جميع أجزاء هذا الكون الماديّ، من ذراته إلى مجراته، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة، ولا تستطيع الطبيعة الصماء العمياء أبدا أن تكون مبتكرة لهذا النظام البديع، ومبدعة لهذا الترتيب الدقيق.
وهذا هو بنفسه برهان «نظام الوجود» أو (برهان النظم) الذي ألّف العلماء الإلهيون الموحدون حوله عشرات الكتب والدراسات.
وحيث إن (برهان النظم) هذا ممّا يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم ومداركهم، لذلك ركزت عليها الكتب الاعتقادية دون سواها، وسلك كلُ واحد من العلماء طريقاً معيناً وخاصاً لتقريره، وبيانه، كما ودرست الأدلة والبراهين الأُخرى التي لا تتسم بمثل هذه الشمولية، في الكتب، والمؤلفات الفلسفية والكلاميّة بصورة مفصلة ومبسوطة.
إنّ للعلماء الإلهيين بيانات وأدلة في مجال (الروح المجردة)، وعوالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) نشير إلى بعضها هنا:
الروح المجردة:
إن الاعتقاد بالروح من القضايا الشائكة الطبيعة التي استقطبت اهتمام العلماء وشغلت بالهم بشدة.
فهناك فريقٌ - ممّن اعتاد أن يُخضِع كل شيء لمبضع التشريح - ينكر وجود (الروح)، ويكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع المادي، والعاملة ضمن نطاق القوانين الطبيعية فقط.
ووجود «الروح» والنفس غير المادية (أي المجردة المستقلة عن المادة) من القضايا التي عُولجت ودُورست من قِبل المؤمنين باللّه، والمعتقدين بالعالم الروحاني، بصورة دقيقة، وعميقة.
فهم أقاموا شواهِد عديدةً على وجود هذا الكائن (غير الماديّ) وهي أدلة وبراهين لو تمّ التعرّف عليها والنقاش حولها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم عليه منطق الإلهيين - في هذا المجال - من قواعد وأُسس، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل بها.
على أن ما يقوله الإلهيّون في مجالات أُخرى مشابهة مثل (الملائكة) و(الوحي) و(الإلهام) يقوم هو الآخر على الأساس الذي شيدوه ومهدوه وبرهنوا عليه قبل ذلك بالأدلة المحكمة، المتقنة.
ظاهرة الوحي عِند الماديّين:
يُعتبر الاعتقاد بالوحي أساساً لجميع الرسالات، والأديان السماوية، وتقوم هذه الظاهرة (ظاهرة الوحي) على أن الذي يوحى إليه يمتلك روحاً قوية تقدر على تلقي المعارف الإلهية من دون واسطة، أو بواسطة ملك من الملائكة.
ويلخصُ العلماء المختصُّون تعريفهم للوحي على النحو التالي : «الوحيُ تعليمُه تعالى من اصطفاهُ مِن عِباده كُل ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعِلم ولكِن بطريقة خفيّةٍ غير مُعتادة للبشر».
ولكن الماديين - كما قلنا - لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة، وإدراك هذه الظاهرة على حالها، وصورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم ونظرتهم إلى الأُمور والكائنات فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي - التي هي كما أسلفنا من قضايا الغيب ومن عوالم ما فوق الطبيعة - مذاهب مختلفة ترجع برمتها إلى الرؤية المادية للوجود.
واليك أبرز هذه التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية:
أبرز النظريات المادية لظاهرة الوحي:
1 - قالوا: الوحي هو القدرة الفكرية، والنفسية والعقلية التي تحصل للإنسان بسبب التمرينات والرياضات الروحية التي على أثرها تنفتح عليه أبوابُ من الغيب، فيخبر عن أمور طالما تتفق مع الواقع على نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود(رياضة اليوجا).
فالأنبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع - على غرار ما يفعل المرتاضون – وإقبالهم على الرياضة الروحية يحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات، والكائنات الخفية على غيرهم.
والجواب على هذه النظرية هو : أن دراسة حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنهم طالما يخطأون في إخباراتهم أخطاء فاضحة، بينما لم يُعهد من نبيٍّ أنه أخطأ في إخباراته، وإنباءاته. هذا أولاً.
وثانياً: إن ما يفعله المرتاضون لا ينطوي على أية أهداف إصلاحية علياً للمجتمع البشري، بل غاية همّهم هو: عرض الأفعال العجيبة على الناس وربما تسلية المتفرجين، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح المجتمعات البشرية وقيادتها إلى ذرى الكمال والتقدم.
وثالثا: إن المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به، كما لم يُعرف إلى الآن أن أحداً منهم طلع على المجتمع البشريّ ببرنامج كامل وشامل للحياة البشرية الفردية والاجتماعية، بينما نجد الأنبياء يخبرون الناس بما أمروا به وهم على إيمان كامل، ويقين ثابت منه، هذا إلى جانب أنهم يحملون إلى البشرية برامج اجتماعية وحيوية جامعة الأطراف، كاملة الأبعاد، رفيعة الأهداف، عميقة الغايات، ترجع إليها كلُ فضيلة وكل خير تعرفه المجتمعات إلى الآن.
ورابعا: إنّ أعمال المرتاضين وما تحصلُ لهم من قوى وينفتح عليهم من آفاق، محدودة، بينما لا تقف طاقاتُ الأنبياء وآفاق علومهم، وأبعاد أعمالهم عند حدّ.
فلا يمكن أبداً تفسير وتعليل ظاهرة (الوحي) وما يحصل للرسل والأنبياء على أثره من أمور تتخطى حدود العالم المادي المحدود، بالرياضة الروحية التي يمارسها المرتاضون وما يحصل لهم على أثرها من أمور.
2 - قالوا: إنّ (الوحي) نوعٌ من النبوغ، أو أنه ناشئ من النبوغ، وأن الأنبياء هم نوابغ اجتماعيون لا أكثر.
وقد شرحوا نظريتهم هذه قائلين: بأن نظام الخليقة قد ربى في أحضانه نوابغ صالحين، اهتدوا بفعل نبوغهم الفكري الرفيع إلى أفكار وقيم رفيعة ودعوا مجتمعاتهم إلى الأخذ بها، والسير على هديها، لتحقيق الخير والعدالة، فكان لهم بذلك اكبر نصيب في إرشاد البشرية إلى سعادتها، فكل ما طرحوه من أفكار، وكل ما عرضوه على تلك المجتمعات باسم الدين أو القانون ليست - في الحقيقة - سوى نتيجة ما تمتعوا به مِن نبوغ، وفكر خارق، ولا علاقة له بعالم آخر غير هذا العالم المادي المألوف.
وقالوا : وان ممّا يساعد على تقوية هذا النبوغ أُمور أبرزها:
الحبُّ، التعرضُ للظلم الطويل، الطفولة وما يكتنفها من ضعف وعجز، الوحدة، السكوت، التربية الأولى، والعيش في صورة الأقلية وما يرافقها من ظروف اجتماعية غير مؤاتية.
فان جميع هذه الأمور أو بعضها تدفع بالشخص إلى الانطوائية، والتفكير والتأمل، للاهتداء إلى مخرج من المشاكل والصعوبات، ومخلص من الظروف الصعبة، والأحوال الشاقة.
ويُجاب على هذه النظرية بأن أصحاب هذه النظرية حكموا على هذه القضية على أساس موقف اتخذوه سلفاً فهُم حصروا الأشياء في المادة والأمور المادية ثم فسّروا ما يرتبط بعالم الغيب بذلك، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيراً ماديّاً، غفلة منهم عن إن مثل هذا التفسير والتعليل لا يليق بظاهرة (الوحي) التي تجسد أعلى قضيّة في سلّم الحقائق العلمية والفلسفية، ويرجع إليها أعظم القوانين والبرامج للسعادة البشرية.
نحن لا ننكر أن لما ذكروه من العوامل تأثيراً في تقوية عملية «التفكير» لدى الإنسان إلى درجة إيجاد ما يسمى بظاهرة النبوغ لديه، إلا أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الأمر نبيّاً خضعت جميع النوابغ البشرية لعظمة تعاليمه التي أتى بها طوال أربعة عشر قرناً.
نبياً لم تزل ما جاء به من معارف عقلية وفلسفية، وقوانين ترتبط بعالم الطبيعة وبالنظام الاجتماعي وآداب السلوك تحافظ على قوتها، وعمقها وأصالتها ولمعانها
كل المحافظة رغم كل ما أحرزه البشر في ضوء نشاطه الفكري والعقلي من تقدم، في المعارف والعلوم.
هذا مضافاً إلى أن نسبة هؤلاء الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى العالم الآخر وإصرارهم على أنها من جانب اللّه تعالى وليست من نسيج أفكارهم يناقض نظرية هذه الطائفة، التي تفسر النبوة بالنبوغ.
لنقرأ معاً الآية التي يقول اللّه تعالى فيها حاكياً عن رسول الإسلام محمّد (صلّى اللّه عليه وآله): (إن أتّبعُ إلا ما يوُحى إليّ)(سورة الأنعام: الآية 50).
أو يقول سبحانه:
(إن هو إلا وحي يُوحى)(سورة النجم: 4).
3 - يقولون: إن الوحي هو ظهور الشخصية الكامنة في النبي وإيحاؤها لما ينفعه وينفع قومه المعاصرين له، إليه.
وربما قالوا: إنَّ معلومات «محمّد» وأفكاره وآماله ولّدت لديه إلهاماً فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفيّة على محيلته السامية، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك ماثلاً له وهو يتلو على سمعه ما حدّث به بعد ذلك.
وتوضيح هذه النظرية هو: إن لكل إنسان شخصيتين:
1 - الشخصية الظاهرة العادية وهي التي تخضع للحواس الخمس وتعمل بها.
2 - الشخصية الباطنية وهي التي تعمل عندما تتعطل الحواس، ويتعطل الشعورُ الظاهري:
وهذه الشخصية هي التي تحرك جميع أعضاء الجسم الإنساني التي لا تخضع لإرادته كالكبد والقلب، والمعدة وغيرها، كما انها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف الحرجة.
ثم قالوا: وهذه الشخصية الباطنية قد أصبحت مدركة بالحس، فان المنوَّم مغناطيسياً يظهر بمظهر من العقل الراجح، والفكر الثاقب والنظر البعيد، ويقوم بما لا يقوم به في حالته العادية.
وقد انتهى هؤلاء الماديّون من خلال تحقيقاتهم وتجاربهم إلى: أن شخصية الإنسان الباطنية أرقى من شخصيته العادية، وإن ما يتوصّل إليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جداً، وما قد يتمتع به من روح قوية هو من مظاهر هذه الشخصية وفعاليتها.
فقالوا: وان هذه الشخصية هي التي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من اللّه، وقد تظهر لهم متجسّدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء !!
فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح على الأسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلاماً عن اللّه بل يكون في تجلي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلمه ما لم يكن يعلم، وتهديه إلى خير الطرق لهداية نفسه وترقية أمته(دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي: ج 10 مادّة وحي).
ولكن هذه النظرية هي الأُخرى تنبع من الغُرور العلميّ الذي أصاب هذا النمط من العلماء الّذين يحاولون تفسير كل ظواهر هذا العالم بالتفسير المادي، وهو لا شك ينشأ من عِلمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود.
إننا لا نشك في وجود ما يسمى بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق إلى كشفه والتنويه به الفلاسفة الإسلاميّون من قبل ولكن كيف وعلى أيّ أساس حقَّ لهؤلاء أن يفسروا ظاهرة (الوحي الإلهي) والنبوة بهذا الأمر؟
هذا أولاً
وثانياً: إنّ تجلي الشخصيّة قلّما يحدث في الأشخاص الأصحّاء، بل هو يحدث في الأغلب عند المتعبين القلقين، والسكارى، والمصابين بالهزيمة والنكسة، لأن نافذة (اللاوعي) عند غيرهم من الأصحاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية وهمومها، ولا يبقى للشخصية الباطنية مجال للنشاط والفعالية، كما هو العكس عند المتعبين والسكارى والمرضى الذين يقل اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك (الوعيُ) مكانه للاوعي، وتترك الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية.
ولذلك نجد بين آلاف العلماء والمفكرين مفكراً أو عالماً واحداً اتفق له في بداية عمره أن اهتدى بصورة لا شعورية إلى فكرة خاصة أو نظرية معينة من دون سابق تفكير أو استدلال قائم على الشعور.
وخلاصة القول أن تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الإنسانية قضية نادرة جداً، وهي لا تحدث إلا في ظروف خاصة مثل : المنامات والأحلام وغيرها من التحولات الحياتية التي تقلل من توجّه الإنسان إلى العالم الخارجيّ وتصرفُ التفاته وتوجُّهه إلى الشخصية الباطنية.
ولكن هذه الحالة وهذه الشرائط (أي الغفلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية) لم تحصل للأنبياء قط. فالنبي الأكرم محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) كان طوال (23 سنة) وهي أعوام الرسالة، مشتغلاً كل الاشتغال بقضايا الحياة اليومية، فالنشاطات السياسية والتبليغية وقضايا الدعوة والقيادة كانت تهيمن على كل توجهه واهتمامه وتملأ عقله وروحه ونفسه.
فالكثير من آيات الجهاد ترتبط بساحات القتال والجهاد، وهذا يعني انه كان مشدوداً بروحه وعقله كله إلى تلك الأمور.
وثالثا: إن هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوة الأنبياء، لو كان هؤلاء الأنبياء أفراداً متعبين، منهزمين، منتكسين، مرضى، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذٍ ان هذه الحالات والظروف مهّدت لانقطاعهم (عليهم السّلام) عن هموم الحياة، وقضاياها، وبالتالي مهّدت لفعالية الشخصية الباطنية وعملها.
ولكن تاريخ الأنبياء يشهد بوضوح لا إبهام فيه، بأنهم كانوا - طيلة حياتهم الرسالية - رجالاً مجاهدين، لا يهمهم إلا إصلاح المجتمعات وقيادة الجماعات وحل المشكلات الاجتماعية، ورفع مستويات الناس معنوياً وفكرياً، وكانوا يعملون لتحقيق هذه الأهداف ليل نهار، بلا سأم ولا ملل، ولا تعب ولا نصب.
فكيف يمكن القول والحال هذه بان الشخصية الباطنية تجلّت لديهم وأوحت إليهم بحقائق وقيم وأفكار؟
إن تفسير (الوحي الإلهي) الذي يُلقى إلى الأنبياء ويكشف لهم عن أدق الحقائق وارفعها، وأعظم المناهج وأكملها، بتجلّي الشخصية الباطنية، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادة، أو بعبارة أخرى: حصر الوجود في المادة، ومن هنا حاولوا إلباس كل شيء حتى الأمور المعنوية والغيبية : اللباس الماديّ، وأغلقوا على أنفسهم باب عوالم الغيب، وعمدوا إلى التفتيش عن علة مادية حتى لظاهرة (الوحي) التي لا تُقاس بمقاييس العالم المادّي.
هذا مضافاً إلى أن تفسير (الوحي الإلهي) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية، وخاصة في شأن رسول الإسلام محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) يواجه إشكالات ومؤاخذات أُخرى تجعل هذه النظرية في عداد الأساطير!!
وإنّ ابرز هذه الإشكالات الواردة على هذه النظرية في مجال رسول الإسلام (صلّى اللّه عليه وآله) هي: أنّ هذه النظرية ليست رأياً جديداً وتهمة جديدة توجه إلى نبوة رسول الإسلام.
فان نظرية «الشخصية الباطنية، والوحي النفسي الذاتي» هي نظرية متبلورة ومتقدمة لتهمة (الجنون والصرع) التي كان يرمي بها العربُ الجاهليّون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)!!
فقد كان المشركون في بدء الدعوة يقولون: إن ما يقوله «محمّد» وما يتكلم به ليس إلا أفكاره القلقة المضطربة الناشئة عن خياله، وانّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة التي تسربت إلى فضاء عقله من دون إرادة منه ولا اختيار!!
لنستمع إلى القرآن الكريم وهو ينقل عنهم هذا الاتهام:
(بل قالُوا أضغاثُ أحلام)(سورة الأنبياء: الآية 5).
ولكن القرآن الكريم يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله:
(والنّجم إذا هوى. ما ضلّ صاحِبُكُم وما غوى. وما ينطِقُ عن الهوى. إن هو إلا وحيٌ يُوحى. علّمهُ شديدُ القُوى)(سورة النجم: الآيات 1 - 5).
إن القرآن الكريم يشجب في هذه الآيات المنتظمة انتظاماً رائعاً وبديعاً هذه المزعمة (أي مقولة أن القرآن وليدُ الخيال لدى محمّد)، ويردُّ الأمر إلى الوحي الإلهي، والتوجيه الربانيّ العُلويّ.
إن نظرية الوحي النفسيّ وتجلّي الشخصية الباطنية التي طلع بها الماديون في عصرنا ما هي في الحقيقة إلا غطاء لمزعمة المشركين وتهمة الجنون، والخيال التي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة الإسلامية ومعارضوها النبي (صلّى اللّه عليه وآله) تلك التهمة التي يذكرها القرآن الكريمُ بقوله:
(وقالُوا يا أيُّها الّذي نُزِّل عليه الذِّكرُ إنّك لمجنُونٌ)(سورة الحجر: الآية 6، وأيضاً راجع الآيات التالية: سبأ: 8، الصافّات: 36، الدخان: 14، الطور: 29، القلم: 2، التكوير: 22).
وهي تهمة كان يوجهها المعارضون دائماً إلى المصلحين وأصحاب الرسالات(إذ يقول القرآن في هذا الصدد: (كذلِك ما أتى الّذين مِن قبلِهم مِن رسُولٍ إلا قالُوا ساحِرٌ أو مجنُونٌ. أتواصوا بهِ بل هُم قومٌ طاغُون)(الذاريات: 52 و53).
وقد اتخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة، وتبلورت في نظرية: «الوحي النفسيّ، وتجلّي الشخصيّة الباطنية». إن القرآن الكريم يرد على هذه المزاعم والتصورات الباطلة حول عمليّة الوحي ومسألة النبوّة ويرد على نسبة الكهانة وما شابه ذلك كالخبر المنقول عن أهل السير بمحاولة إلقاء النبي نفسه من شاهق في بداية الوحي الذي يشبه نسبة الجنون إليه (صلّى اللّه عليه وآله)، إذ يقول تعالى:
(إنّه لقولُ رسُول كريم. ذي قوّة عند ذي العرش مكين. مُطاع ثمّ أمين. وما صاحِبُكُم بِمجنُون. ولقد رآهُ بالأُفق المُبين. وما هو بِقول شيطان رجيم. فأين تذهبُون إن هو إلا ذكرٌ للعالمين. لِمن شاء مِنكُم أن يستقيم)(سورة التكوير: الآيات 20 - 28).
بهذا البيان تبيّن بطلان هذا التفسير وجميع التفاسير الأُخرى التي تحاول إعطاء (الوحي) طابعاً مادياً مألوفاً، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة، ونحن استكمالاً لهذا البحث نشير إلى ما هو الحقُ في هذا المجال، ممّا يؤيّد الواقع
والعقل والدين.
ظاهرةُ الوحي في منظار العقل والدين:
لا شك أن حياة كل فرد من أفراد الإنسان تبدأ من «الجهل» ثم يأخذ الإنسان بالدخول في مجال العلم شيئاً فشيئاً، إلى أن تنفتح عليه بالتدريج نوافذُ على الواقع الخارج عن ذهنه.
فيبدأ الإنسانُ بالتعرف على الحقائق عن طريق الحواسّ الظاهرية، ثم على أثر التكامل في جهازه العقليّ والفكري يهتدي الى الحقائق الخارجة عن مجال الحس واللمس، فيغدو عقلانياً استدلاليّاً، ويقف على طائفة من الحقائق الكليّة والقوانين العلمية.
وربما يظهر بين أفراد النوع الإنساني أصحابُ نفوس عالية يقفون عن طريق الإلهام ومن خلال بصيرة خاصة على حقائق وأُمور لا يُهتدى إليها حتى عن طريق الاستدلال والبرهنة!
ومن هنا قسّم العلماء إدراك البشر إلى ثلاثة أنواع: «إدراك العامّة» «إدراك المفكرين وأرباب الاستدلال» «إدراك العرفاء وأصحاب البصائر والنفوس الكبرى».
وكأنَّ أصحاب الظاهر يستعينون على اكتشاف الحقيقة بالحس، والمفكرين يستعينون بالاستدلال والبرهنة، وأصحاب البصائر والمعرفة بالإلهام والإشراق وبالفيض عليهم من العالم الأعلى.
إن النوابغ في مجال الأخلاق، وان عقول العلماء الخلاقة، وأفكار الفلاسفة العظيمة كلها تؤيّد وتشهد بأن ما يحصلون عليه، وما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم يعرفوه من قبل ما هي إلا شرارات مضيئة وملهمة تخطر لهم، ثم يعمدون إلى تنميتها وبلورتها بالتجربة، أو بالاستدلال والبرهنة والتأمل.
قنواتُ المعرفة الثلاث:
من هذا الكلام نستنتج أن أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول إلى مقاصده، فالطريق الأول يستفيد منه جماهير الناس غالباً، بينما يستفيد طائفة خاصة منهم من الطريق الثاني، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلا أفراد معدودون قلةٌ تكاملت عقولُهم، وتسامت أرواحهم. وهي كالتالي:
1 - الطريق التجريبي والحِسي، والمقصود منه ذلك القسم من الإدراكات والمعلومات الواردة إلى محيط الذهن البشريّ عن طريق الحواس الظاهرية كالمرئيات، والمشمومات والمطعومات وغيرها ممّا يستقرُّ في محيط إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصة بها.
وقد استطاع البشر اليوم، وبفضل اختراع التلسكوبات والميكروسكوبات وأجهزة التلفاز والراديو إن يقدّم خدمة كبرى للبشرية في مجال الإدراكات الحسية ويمهِّد لمزيدٍ من سيطرتها على البعيد والقريب.
2 - الطريق التعقُّلي الإستدلالي: فان المفكرين يتوصّلون إلى كشف طائفة من القوانين الكليّة الخارجة عن الحس عن طريق عملية التفكير والتأمل وتشغيل جهاز العقل، وإقامة سلسلة من المقدمات البديهية الواضحة، وبذلك يمكن الوصول إلى قمم المعرفة والكمال العلمي.
إنّ انكشاف القوانين العلميّة الكليّة، والمسائل الفلسفية، والمعارف المرتبطة بصفات اللّه وأفعاله سبحانه والقضايا المطروحة في علم العقيدة والأديان ناشئ برمّته من جهاز العقل، وحركته، وناتج من عملية التفكير، والاستدلال المذكورة.
3 - طريق الإلهام: وهذا هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق، وهو فوق نطاق الحس والتعقل.
إنه نوعٌ جديدٌ من المعرفة ونمط متميّز من إدراك الحقائق، ليس محالاً من وجهة نظر العلم وان كان يصعُب على أصحاب الاتجاه المادّي القبول به لكونه طريقاً غير حسي ولا تعقّلي.
وأما من جهة الأُصول العِلمية فلا مجال لإنكاره، ولا مبرّر لعدّه من المحالات.
إن طريق التعرُّف على حقائق الكون الخارج عن الذهن - في منهج الماديّين، وأصحاب النزعة المادية - ينحصر في قناتين لا أكثر، وهما اللّذان سبق ذكرُهما، في حين أنّ هناك - حسب نظرة الأديان والشرائع الكبرى وحسب نظرة الفلاسفة والعرفاء الإلهيين - قناة ثالثة أيضاً.
بل إنّ هذا الطريق الثالث - كما أسلفنا في مسألة الوحي - أكثر واقعية، وأقوى أسُساً، وأوسع آفاقاً عند من يدّعون الرسالة، والنبوة من جانب اللّه سبحانه، وإن نفوس أُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء وطراوةً بفضل هذا الطريق، وفي ضوء هذه القناة.
وكلّما حصل ارتباطٌ بين اللّه، وبين فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص أُلقيت الحقائق في وجوده من دون توسط الحواس الظاهرية، وإعمال الفكر، واستخدام جهاز العقل.
وهذا النوع من الإلقاء يسمى حيناً بالإلهام، وبالإشراق حيناً آخر.
ولكن كلما نتج من ارتباط الإنسان بما وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة والأنظمة والبرامج الشاملة اُطلِق على هذا النوع من الإلقاء عنوان (الوحي)، وسمِّي الآتي بها (ملك الوحي) والآخذ لها (نبيّاً).
هذا وقد يوجب الإلهام الثقة والاطمئنان للملهم إليه، ولكنّهُ لا يمكن أن يكون مبعث الاطمئنان والثقة عند الآخرين.
من هنا اعتبر العلماء «الوحي» الطريق المطمئنة الوحيدة إلى المعرفة العامة... الوحي الذي ينزل على الأنبياء الذين ثبتت نبوّتهم بالدلائل القاطعة، من المعجزة وغيرها.
أنواع الوحي وأصنافه:
إن في مقدور الروح الإنسانية بسبب ما تملك من كمالات أن تتصل بالعوالم الروحانية من الطرق المختلفة، ونحن هنا نشير إلى هذه الطرق التي جاء ذكرها في أحاديث قادة الإسلام وأئمته، باختصار:
1 - تارة يتلقى الحقائق السماوية العليا على نحو الإلهام، فيتخذ ما يتم إلقاؤه في النفس عبر هذا الطريق حكم (العلوم البديهية) التي لا يتطرق إليها أيُ ريب وشك.
2 - وقد يسمع عبارات وكلمات من جسم معين (كالجبل والشجرة) كسماع موسى عليه السّلام كلام اللّه من الشجرة.
3 - وربما تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار.
4 - وقد ينزلُ عليه ملكٌ من جانب اللّه بكلام خاص.
وقد نزل القرآن الكريم على النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) من هذا الطريق، وقد صرح القرآن الكريم نفسه بهذا عند قوله تعالى: (نزل بهِ الرُّوحُ الأمين على قلبك لِتكُون مِن المُنذرين. بِلسان عربيٍّ مُبِينٍ)(سورة الشعراء: 193 - 195، وقد أُشير في سورة الشورى الآية 51 إلى هذه الطرق الأربع جميعها).
أساطيرُ مختلفة:
لقد كتب المؤرخون والكتاب عن حياة كثير من الشخصيات العالمية، وضبطوا كل ما جل أو دقَّ في هذا المجال، وربما تحمّلوا عناء الرحلات الطويلة والأسفار الشاقة لتكميل دراساتهم، وكتاباتهم.
غير أن التاريخ لا يعرف شخصية مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ضبطت تفاصيل سيرته الدقيقة، واهتم أتباعه وأصحابه ومحبّوه بكل شاردة وواردة في حياته الشريفة.
إن هذا الولع الشديد بتسجيل كل شيء - مهما صغر - من حياة النبيّ الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله) وسيرته العطرة كما ساعد على ضبط جميع الجزئيات والتفاصيل في هذا المجال، تسبب في بعض الموارد في إلصاق بعض الزوائد بحياة النبي الأكرم وشخصيته العظيمة، الطاهرة.
ومثل هذا لا يبعد عن المحبّين الجهلاء فكيف بالأعداء الألداء العارفين.
من هنا يتعيّن على كل مؤلفٍ يكتب عن سيرة شخصية من الشخصيات أن لا يغفل عن مبدأ (الحذر والاحتياط) في تحليله لحوادثها، وقضاياها، فلا يغفل عن تقييم كل ما جاء حولها من روايات وقصص في ضوء الموازين التاريخيّة الدقيقة.
واليك بقية ما جرى في واقعة نزول (الوحي) في حراء:
بقية حادثة نزول الوحي:
استنارت نفس رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، وروحه الكبرى بنور «الوحي» المبارك، وتعلّم كل ما ألقى عليه ملك الوحي في ذلك اللقاء العظيم، وأنتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة.
وقد خاطبه نفس ذلك الملك بعد تلاوة تلكم الآيات بقوله:
يا محمّد... أنت رسولُ اللّه... وأنا جبرائيل.
وقيل : انه (صلّى اللّه عليه وآله) سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء وقد اضطرب رسولُ اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، لهذين الحدثين، اضطرب لعظمة المسؤولية الكبرى التي أُلقيت على كاهله.
وكان هذا الاضطراب طبيعياً بعض الشيء، وهو لا ينافي بالمرة يقينه (صلّى اللّه عليه وآله)، وإيمانهُ بصدق ما اُنزل عليه لأن الروح مهما بلغت من العظمة والسمّو والقوة والصلابة، ومهما كانت قوة ارتباطها بعالم الغيب، وبالعوالم الرُّوحانية العُليا فإنّها عندما تواجه لأول مرّة ملكاً لم تره من قبل، وذلك في مثل المكان الذي التقى النبيُ (فوق الجبل) لا بُدّ أن يحصل لها مثل هذا الاضطراب، ولهذا زال ذلك الاضطراب عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) في ما بعد.
ثم إن الاضطراب والتعب الشديد قد تسبّبا في أن يتوجه النبيُ (صلّى اللّه عليه وآله) إلى بيت السيدة «خديجة» (عليها السّلام)، وعندما دخل بيتها ووجدت على ملامحه آثار الاضطراب والتفكير سألته عما جرى له، فحدّثها بكل ما سمع ورأى وقصّ عليها ما كان من أمر جبرائيل معها، فعظّمت السيدة «خديجةُ» سلام اللّه عليها، أمره، ودعت له، وقالت : أبشر فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً.
ثم إن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) الذي كان يشعر بالجهد والتعب قال لزوجته الوفيّة السيدة «خديجة» : دثّريني... دثِّريني.
خديجة تذهب إلى ورقة بن نوفل:
ورقة بن نوفل كان ممن تنصّر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل وكان ابن عم خديجة. فعندما سمعت السيدة «خديجة» زوجة النبي (صلّى اللّه عليه وآله) ما سمعته منه انطلقت إلى «ورقة» لتخبِّره بما سمعته من زوجها الكريم، وشرحت له كل شيء ممّا جرى له مع جبرائيل.
فقال «ورقة» في جواب ابنة عمه: إن ابن عمّك لصادق... وإن هذا لبدء النبوة، وإنه ليأتيه الناموس الأكبر (أي الرسالة والنبوة)(الطبقات الكبرى : ج 1 ص 195).
إن ما ذكرناه إلى هنا هو في الحقيقة ملخّص الروايات التاريخية المتواترة التي وصلت إلينا، والتي دُوِّنت في جميع الكتب.
بيد أننا نلاحظ بين ثنايا هذه الحادثة أُموراً لا تتفق مع ما نعرفه من أنبياء اللّه ورُسله العظام، كما أنها لا تتفق مع ما قرأناهُ إلى الآن عن حياة هذا النبي العظيم (صلّى اللّه عليه وآله).
وما سنذكره الآن من هذه الزوائد إمّا يجب اعتباره من قبيل الأساطير التاريخية، أو أنّ علينا تأويله بنوع من التأويل.
وإنا لنعجب قبل كل شيء من المفكّر المصريّ الدكتور «هيكل» كيف سمح لنفسه وهو الذي تحدث في مقدمة كتابه عن مشكلة تسرب الأساطير إلى التاريخ النبويّ، وقال: بأنّ هناك من دسّ في السيرة النبوية، عن عداوة أو جهل، بعض الأكاذيب.
ولكنه مع ذلك ينقل هنا أُموراً لا أساس لها من الصحّة أبداً، في حين أعطى فريقٌ من علماء الشيعة - كالمرحوم الطبرسي - ملاحظات مفيدة في هذا الصعيد.
وإليك في ما يلي بعض هذه الأساطير والقضايا المختلفة (على أنها لم تكن جديرة بالإشارة أبداً لولا أن بعض المحبّين الجهلاء، والأعداء الأذكياء ذكروها في كتبهم، وكرروها في دراساتهم).
1 - قالوا: إنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) عندما دخل منزل خديجة، كان يفكّر في نفسه: لعلّ بصره خدعه، أو انه كاهن، أو فيه جنون!!
ولكن لمّا قالت له خديجة: «إن اللّه لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد اللّه، إنك تصدق الحديث، وتؤدّي الأمانة، وتصلُ الرحم» اطمأنّ، وزال عنه الشكُ والتردّد، وألقى على «خديجة» نظر شكر ومودة، ثم طلب أن يُزمّل، فزمل فنام !!(الطبقات الكبرى: ج 1 ص 195، حياة محمّد: ص 134).
2 - يقول الطبري وغيره من مؤرخي السيرة: إن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) لما سمع نداء يقول: «يا محمّد أنت رسول اللّه» أصابَهُ خوفٌ شديدٌ حتى أنه همّ بأن يطرح نفسهُ من أعلى الجبل، فتبدى له (ملك الوحي) ومنعه عن ذلك !!
3 - ثم إنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) ذهب ليطوف بالكعبة بعد ذلك اليوم، فرأى «ورقة بن نوفل» وشرح لورقة ما جرى له مع جبرائيل، فقال له ورقة:
«والذي نفسي بيده، إنّك لنبيّ هذه الأُمة، وقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الذي جاء موسى ولتُكذبنّه، ولتوذينّه ولتخرجنّه ولتقاتلنه» فأحس «محمّد» بأن ورقة يصدّقه، فاطمأن(السيرة النبوية: ج 1 ص 238).
بُطلانُ هذه المزاعم :
إن الذي نتصوره هو أن جميع هذه القصص مختلقة من الأساس، وقد دُسّت في التاريخ والتفسير عن قصدٍ وهدف، أو دخلت فيهما عن غير ذلك.
وذلك:
أولاً: لأننا لتقييم هذه المزاعم يجب أن نلقي نظرة فاحصة إلى تاريخ الأنبياء الماضين وسيرهم.
إن القرآن الكريم قصّ علينا قضاياهم، وسيرهم، وقد وردت في هذا المجال روايات وأخبار كثيرة.
وإننا لا نجد أي أثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة أي واحدٍ منهم.
إن القرآن الكريم يقص علينا قصة بدء نزول (الوحي) على «موسى» بشكل كاملٍ ويبيّن جميع التفاصيل في قصته (عليه السّلام) ولا يذكر أي شيء من الخوف، والارتعاش، والوحشة والفزع، بحيث يحدّث نفسه بالانتحار على أثر سماع الوحي!! مع أن أرضية الخوف والفزع في مجال «موسى» كانت متوفرة أكثر، لأنه سمع في ليلة ظلماء وهو في صحراء خالية نداء من الشجرة يخبره بأنه نبيٌ مرسلٌ.
ولكن موسى - كما يصرّح القرآن الكريم، بهذه الحقيقة - حافظ على هدوئه، وسكونه، وعندما خاطبهُ اللّه تعالى بقوله : «أن ألقِ عصاك» ألقاها من فوره، وكان خوفه من ناحية العصا التي تبدّلت إلى ثعبان مخيف، لا من جهة الإيحاء إليه.
فهل يمكن، أو يجوز لنا أن نقول : كان «موسى» لحظة الوحي إليه مطمئناً هادئاً ساكناً، ولكن أفضل الأنبياء والمرسلين اضطرب عند سماع كلام الملك، وفزع إلى درجة فكّر في طرح نفسه من أعلى الجبل ؟! هل هذا كلام معقول؟!
لا ريب أن روح محمّد صلّى اللّه عليه وآله ما لم تكن مهيّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الإلهيّ (النبوة) لا يمكن أن يمن عليه الربُ الحكيمُ بمنصب النبوّة، ويختاره لمقام الرسالة، لأن الهدف الجوهريّ من ابتعاث الرُسل، وإرسال الأنبياء هو هداية الناس وإرشادهم.
ومن كان كذلك من حيث ضعف الروح ووهن النفس بهذه المرتبة بحيث يحدّث نفسه بالانتحار خوفاً(كما نقل هيكل في كتابه: «حياة محمّد») وفزعاً كيف يمكن أن ينفذ إلى نفوس الناس ويؤثر فيهم ؟!
ثانياً: كيف يمكن أن يطمئن موسى بمجرد سماعه للنداء الإلهيّ إلى أنه صادرٌ من جانب اللّه، فطلب من ربّه من فوره أن يجعل أخاه هارون وزيراً له لأنه أفصحُ منه قولاً(سورة طه: الآية 29) بينما لا يطمئن سيد المرسلين وخاتمهم ؟!
ثالثاً: لقد كان «ورقة» مسيحيّاً حتماً، ولكنه عندما أراد أن يزيل عن «محمّد» الشك والاضطراب ذكر نبوّة «موسى» (عليه السّلام) وقال: قد جاءك الناموس الذي جاء موسى(السيرة النبوية: ج 1 ص 238).
ألا يدلُّ هذا على أنّ ثمّة يداً إسرائيليّة وراء هذه الحبكة هي التي صاغت هذه القصة واختلقتها في غفلةٍ عما كان يدين به «ورقة» بطلُ القصة ؟!
كل هذا بغضّ النظر عن أن مثل هذه الأُمور تتنافى والعظمة التي نعهدها من النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، ولا تنسجم معها أبداً، ويبدو أن كاتب «حياة محمّد» أدرك إلى درجة ما خرافية هذه القصة ولذلك نجده ينقل بعض مواضيعها بعد جملة: «كما يقولون».
وقد حارب أئمةُ الشيعة هذه الأساطير بكل قوة، وأبطلوها برمتها.
فعندما يسأل زرارة الإمام الصادق (عليه السّلام) مثلاً: كيف لم يخف رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فيما يأتيه من قِبل اللّه أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان ؟
قال الإمام (عليه السّلام): «إنّ اللّه إذا اتخذ عبداً ورسولاً، أنزل عليه السكينة والوقار فكان يأتيه من قِبل اللّه عزّ وجلّ مثل الذي يراه بعينه»(بحار الأنوار: ج 18 ص 262، وفي الكافي: ج 1 ص 271 نظيره).
ويقول العلامة الشيعي الكبير المرحوم الطبرسي في تفسيره، في هذا الصدد:
«إن اللّه لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيّرة والآيات البينة الدالّة على أن ما يوحى إليه إنما هو من اللّه تعالى، فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزعُ، ولا يفرُق»(مجمع البيان: ج 10 ص 384).
متى نزل الوحي أولاً ؟
لقد تعرّض يومُ مبعث رسول الإسلام (صلّى اللّه عليه وآله) للاختلاف من حيث التعيين والتحديد فهو مثل يوم ولادته ويوم وفاته (صلّى اللّه عليه وآله) غير مقطوع به، من وجهة نظر المؤرخين وكُتّاب السيرة النبويّة.
فلقد اتفق علماء الشيعة على القول بان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) بُعِث بالرسالة في السابع والعشرين من شهر رجب، وأن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسِه.
بينما اشتهر عند علماء السُنّة أن رسول الإسلام قد أُوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.
ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف «محمّد» (صلّى اللّه عليه وآله) من جانب اللّه تعالى بهداية الناس، وبُعث بالرسالة.
ولما كانت الشيعة تشايع عترة النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وأهل بيته الصادقين، وتعتقد بصحة ما يرونه ويقولون به إتباعاً لقول رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فيهم، في حديث الثقلين: «إنهما لن يفترقا» فإنهم اتبعوا - في تحديد يوم المبعث النبوي الشريف - القول المأثور - بنقل صحيح - عن عترة النبي المطهرين في هذا المجال.
فقد روي عن أبناء الرسول وعترته الطاهرة أن عظيم هذا البيت وسيّدَه (أي النبيّ) قد بُعِث في السابع والعشرين من شهر رجب، وهم في ذلك حجة.
ولهذا لا يمكن الشك والتردد في صحة هذا القول وثبوته(راجع بحار الأنوار: ج 18 ص 189).
نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسِه بأنّ آيات القرآن نزلت في شهر رمضان، وحيث أن يوم بعثة النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) كان هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي، والقرآن عليه، لهذا يجب القول بان يوم البعثة الشريفة إنما كان في نفس الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم: أي شهر رمضان المبارك.
واليك فيما يأتي الآيات التي تدل على أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان:
1 - «شهرُ رمضان الّذي اُنزِل فيه القرآنُ»(سورة البقرة: الآية 185).
2 - (حم. والكِتاب المُبين. إنّا أنزلناهُ في ليلةِ مُباركة)(سورة الدخان: الآيات 1 - 3) وتلك الليلة هي ليلة القدر التي قال عنها سبحانه: (إنّا أنزلناهُ في ليلةِ القدر. ليلةُ القدر خيرٌ مِن ألفِ شهر)(سورة القدر: الآيات 1 و3).
ما أجاب به علماء الشيعة:
ولقد أجاب مُحدِّثو الشيعة ومفسروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا:
الجوابُ الأوّل:
إن الآيات المذكورة إنّما تدلُّ على أن القرآن نزل في شهر رمضان وبالذات في ليلة مباركة منه هي «ليلة القدر»، ولكنها لا تتعرض لذكر محلّ نزول هذه الآيات، وأنها أين نزلت ؟ وهي بالتالي لا تدل أبداً ومطلقاً على أنها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول اللّه ؟
فيحتمل أن يكون للقرآن نزولات متعددة إحداها نزول القرآن على رسول اللّه تدريجاً. والآخر نزوله الدفعي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور.
وعلى هذا فما المانع من ان تكون بعض آيات القرآن (من سورة العلق) قد نزلت على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) في السابع والعشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر رمضان من مكان معين أسماه القرآن باللوح المحفوظ، إلى موضع آخر عُبر عنه في بعض الروايات بالبيت المعمور.
ويؤيّدُ هذا الرأي قولُ اللّه تعالى في سورة الدخان : «إنّا أنزلناهُ في ليلةٍ مباركةِ» فانّ هذه الآية - بحكم رجوع الضمير فيها الى الكتاب - تصرح بأن الكتاب العزيز بأجمعه نزل في ليلةٍ مباركةٍ (في شهر رمضان)، ولا بدَّ أن يكون هذا النزول غير ذلك النزول الذي تحقق في يوم المبعث الشريف، لأن في يوم المبعث لم تنزل سوى آيات معدودة لا أكثر.
وخلاصة الكلام هي أن الآيات التي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة (ليلة القدر) لا يمكن أن تدل على أن يوم المبعث الذي نزلت فيه بضعُ آيات أيضاً كان في ذلك الشهر نفسه، لأنّ الآيات المذكورة تدل على أن مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك الشهر، في حين لم تنزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة كما نعلم.
وفي هذه الصورة يحتمل أن يكون المراد من النزول الجمعيّ للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك الشهر من «اللوح المحفوظ» إلى «البيت المعمور».
وقد روى علماء الشيعة والسنة روايات وأخباراً بهذا المضمون، وبخاصة الأستاذ الأزهري محمّد عبد العظيم الزرقاني الذي أورد روايات عديدة في هذا الصدد في كتابه(مناهل العرفان في علوم القرآن : ج 1 ص 37).
الجواب الثاني:
وهو أمتن الأجوبة والردود على هذا القول.
فقد بذل الأستاذُ الطباطبائي جهداً كبيراً لتوضيحه وبيانه في كتابه القيم، واليك خلاصته:
يقول العلامة الطباطبائي: إنّ قول اللّه تعالى إنا أنزلناه في شهر رمضان، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، لأن للقرآن مضافاً الى وجوده التدريجي، واقعية اطلع اللّه تعالى نبيه العظيم عليها في ليلة معينةٍ من ليالي شهر رمضان المبارك (الميزان: ج 2 ص 14 - 16).
وحيث أنّ النبيّ الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بان لا يعجل بقرائته حتى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجاً إذ يقول تعالى: (ولا تعجل بِالقُرآنِ مِن قبلُ أن يُقضى إليك وحيُهُ)(سورة طه: الآية 114).
وخلاصة هذا الجواب هي: أنّ للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً وهو الذي نزل على الرسول الكريم (صلّى اللّه عليه وآله) مرة واحدة في شهر رمضان، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) في يوم المبعث، واستمرّ تنزله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.
الجواب الثالث: التفكيك بين نزول القرآن والبعثة
إن للوحي - كما أوضحنا ذلك في مبحث أنواع الوحي إجمالاً – مراتب ومراحل، يتمثل أولُ مراتبه في الرؤيا الصادقة التي رآها رسولُ اللّه (صلّى اللّه عليه وآله).
والمرتبة الأُخرى تمثلت في سماعة للنداء الغيبيّ الإلهي من دون وساطة ملك.
وآخر تلك المراتب هو أن يسمع النبيُ كلام اللّه من ملك يبصره ويراه، ويتعرف عن طريقه على حقائق العوالم الأُخرى.
وحيث أن النفس الإنسانية لا تستطيع في الوهلة الأولى تحمُّل مراتب (الوحي) جميعها دفعة واحدة بل لا بدّ أن يتحملها تدريجاً، لهذا يجب القول بأنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) قد سمع يوم المبعث (اليوم السابع والعشرون من شهر رجب) النداء السماويّ الذي يخبره بأنه رسول اللّه، فقط ولم تنزل في مثل هذا اليوم أيّة آية قط، وقد استمر الأمر على هذا المنوال مدة من الزمان. ثم بعد مدة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان.
وخلاصة هذا الجواب هي أن ابتعاث الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتماً.
وعلى هذا الأساس ما المانع من ان يُبعث رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) في شهر رجب، وينزل القرآنُ الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام ؟
إن هذه الإجابة وإن كانت لا توافق كثيراً من النصوص التاريخية (لأن كثيراً من المؤرخين صرّحوا بأنّ الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في يوم المبعث نفسه) إلا أن هناك - مع ذلك - روايات ذكرت قصة البعثة بسماع النبي (صلّى اللّه عليه وآله) للنداء الغيبيّ، ولم تذكر شيئاً عن نزول قرآن أو آيات، بل هي تشرح الواقعة على النحو التالي إذ تقول:
في ذلك اليوم سمع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ملكاً يقول له: يا محمّد إنّك لرسول اللّه، وجاء في بعض الأخبار أنه سمع هذا النداء، فقط، ولم تذكر شيئاً عن مشاهدة الملك.
وللمزيد من التوضيح، والتوسع يُراجع «البحار» في هذا المجال(بحار الأنوار : ج 18 ص 184 و190 و193 و253، الكافي : ج 2 ص 460، تفسير العيّاشي: ج 1 ص 80.
على أن هذه الإجابة تختلف عن الإجابة الرابعة التي تقول بأن مبعث النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) كان في شهر رجب، وكان نزولُ القرآن الكريم بعد انقضاء الدعوة السرّية التي استغرقت ثلاثة أعوام.
الانبياء والبشارة برسول اللّه:
وينبغي - استكمالاً لهذا الفصل من التاريخ النبوي - أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن الرسالة المحمَّدية المباركة، ممّا بشر به جميع الأنبياء المتقدمين زمنياً على خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد (صلّى اللّه عليه وآله).
ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك إذ قال اللّه تعالى:
(وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبِيّين لما آتيتُكُم مِن كِتاب وحِكمةٍ ثُمّ جاءكُم رسُولٌ مُصدِّقٌ لِما معكُم لتُؤمِنُنّ به ولتنصُرنّهُ قال ء أقررتُم وأخذتُم على ذلِكُم إصري قالُوا أقررنا قال فاشهدُوا وأنا معكُم مِن الشّاهِدين)(سورة آل عمران: الآية 81).
وهذه الآية وإن كانت تكشف عن أصل عامٍ وكلّي وهو: وجوب تصديق إتباع النبيّ السابق للنبي اللاحق، إلا أن المصداق الأتمّ لها هو رسول الإسلام الكريم.
فيظهر من هذه الآية أن اللّه تعالى أخذ الميثاق المؤكد من جميع الأنبياء أو من أصحاب الشرائع منهم أن يؤمنوا برسالة محمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، ويدعوا أتباعهم إلى تصديقه وإتباعه ونصرته.
روى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السّلام):
«إن اللّه تعالى ما بعث آدم (عليه السّلام) ومَن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام إلا أخذ عليهم العهد لئن بُعث محمّد وهو حي ليؤمننّ به ولينصرنه»(مفاتيح الغيب: ج 2 ص 507).
وممّا يؤيد هذا إن القرآن دعا أهل الكتاب إلى بيان ما قرأوه ووجدوه في كتبهم حول رسول الإسلام للناس من دون كتمان واليك فيما يأتي طائفة من الآيات المصرحة بهذا الأمر:
1 - قال اللّه تعالى:
(وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين اُوتوا الكِتاب لَتُبيِّنُنَّهُ للنّاس ولا تكتُمونَهُ فنبذُوهُ وراء ظُهُورهم واشتروا به ثمناً قلِيلاً فبِئس ما يشترُون)(سورة آل عمران: الآية 187).
2 - قال تعالى:
(إنّ الّذين يكتُمون ما أنزل اللّه مِن الكِتابِ ويشترون بِه ثمناً قليلاً اُولئك ما يأكُلُون في بُطُونهم إلا النّار، ولا يُكَلِّمهُمُ اللّه يوم القِيامةِ ولا يُزكّيهم ولهُم عذابٌ أليمٌ)(سورة البقرة: الآية 174).
3 - وقال تعالى:
(الّذين آتيناهُم الكِتاب يعرفُونهُ كما يعرفُون أبناءهُم وإنّ فريقاً مِنهُم ليكتمون الحقّ وهُم يعلمُون)(سورة البقرة: الآية 146).
4 - وقال سبحانه:
(الّذين يتّبِعُون الرّسُول النَّبي الاُمِيّ الّذي يجدُونه مكتُوباً عِندهُم في التوراةِ والإنجيل يأمُرُهُم بِالمعرُوف وينهاهُم عنِ المُنكر ويُحِلُّ لهُم الطيِّباتِ ويُحرِّمُ عليهِمُ الخبائث ويضعُ عنهُم إصرهُم والأغلال الّتي كانت عليهِم فالّذين آمنُوا بِه وعزَّرُوهُ ونصرُوهُ واتّبعُوا النُّور الّذي اُنزِل معهُ اُولئك هُمُ المُفلِحُون)(سورة الأعراف: الآية 157).
إن القرآن الكريم يصرح بجلاء إن السيد المسيح (عليه السّلام) اخبر عن رسول الإسلام ورسالته إذ يقول تعالى:
(وإذ قال عيسى بن مريمَ يا بني إسرائيل إنّي رسُولُ اللّه إليكُم مُصدِّقاً لِما بين يديّ مِن التوراة ومبشِّراً بِرسُول يأتي مِن بعدي اسمُه أحمدُ فلمّا جاءهُم بِالبيناتِ قالُوا هذا سحرٌ مُبينٌ)(سورة الصف: الآية 6).
كما يتحدث القرآنُ الكريمُ عن أهل الكتاب الذين تنكروا لرسالة النبي محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) عندما بُعث وقد كانوا من قبل يخبرون عنه ويطلبون النصر به على أعدائهم إذ قال سبحانه:
(ولمّا جاءهُم كِتابٌ مِن عِندِ اللّه مُصدِّقٌ لِما معهُم وكانُوا مِن قبلُ يستفتِحون على الّذين كفرُوا فلمّا جاءهُم ما عرفُوا كفرُوا بِه فلعنةُ اللّه على الكافِرين)(سورة البقرة: الآية 89).
بل ويخبرنا القرآنُ الكريم بأنّ إبراهيم عليه السّلام يوم أحلّ زوجته وولده إسماعيل بأرض مكة دعا قائلاً:
(ربّنا وابعث فيهم رسُولاً مِنهم يتلو عليهم آياتك ويُعلِّمُهُم الكِتاب والحِكمَة ويُزكيهم إنّك أنت العزيزُ الحكيمُ)(سورة البقرة: الآية 129).
وقد انطبقت هذه الأوصاف على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) إذ يصفه القرآن الكريم بقوله:
(لقد منّ اللّه على المُؤمنين إذ بعث فيهم رسُولاً مِن أنفُسِهم يتلُو عليهِم آياتِه ويُزكّيهِم ويُعلمهُم الكَتاب والحِكمة وإن كانُوا مِن قبلُ لفي ضلال مُبينٍ)(سورة آل عمران: الآية 164).
محمّد خاتم الأنبياء:
واستكمالاً لهذا البحث ينبغي أيضاً أن نشير إلى أبرز ناحية في رسالة النبيّ محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) ونبوته وهي مسألة الخاتمية.
فان القرآن الكريم صرح في آيات عديدة بكون رسول اللّه محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) خاتم النبيّين، وشريعته خاتمة الشرائع، فلا نبيّ بعده، ولا رسالة بعد رسالته.
وها نحن ندرج ابرز الآيات الواردة في هذا المجال:
1 - قال تعالى:
(ما كان مُحمّد أبا أحد مِن رجالِكُم ولكِن رسُول اللّه وخاتم النبيّين وكان اللّه بِكُلِّ شيء عليماً)(سورة الأحزاب: الآية 40).
2 - قال سبحانه:
(تبارك الّذي نزّل الفُرقان على عبدِه ليكون للعالمين نذيراً)(سورة الفرقان: الآية 1).
3 - وقال سبحانه:
(واُوحي إليّ هذا القرآنُ لاُنذِركُم بِه ومن بلغ)(سورة الأنعام: الآية 19).
4 - وقال تعالى:
(وما أرسلناكَ إلا كافّةً لِلنّاسِ بشيراً ونذيراً ولكِنّ أكثر النّاسِ لا يعلمُون)(سورة سبأ: الآية 28).
والآياتُ الثلاث الأخيرة تفيد بأن رسالة النبيّ محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) عامة وعالمية وأبدية لأنه في غير هذه الحالة وفي غير هذه الصورة لن يكون نبياً للناس كافة، وللعالمين جميعاً. ولن يكون نذيراً لقومه ولمن بلغه نداؤه.
هذا وقد صرّح النبيُ (صلّى اللّه عليه وآله) نفسه في أحاديث كثيرة بهذا الموضوع وهو الصادق المصدّق.
فعن أبي هريرة قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله):
«أُرسلتُ إلى الناس كافة وبي خُتِم النبيّون»(الطبقات الكبرى : ج 1 ص 128).
أوّلُ من آمنَ بالنبيّ من الرجال والنِّساء:
لقد انتشر الإسلامُ في العالَم بصورة تدريجية، ويوصَف الذين بادروا إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية والمساعدة على نشرها قبل غيرهم ب«السابقين».
وقد كان السبق إلى الإيمان برسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) في صدر الإسلام معياراً للفضل ولهذا يجب أن ندرس هذا الموضوع في ضوء المصادر الصحيحة، ونتعرف على من سبق إلى الإيمان بالرسالة الإسلامية من الرجال، ومن النساء.
مِن النساء: السيدة «خديجة»
إن من المسلَّم به تاريخياً أن السيدة «خديجة» كانت أول امرأة آمنت برسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، ولم يخالف في هذا أحدٌ(السيرة النبوية : ج 1 ص 240)، ونحن هنا ننقل مستنداً تاريخياً مهماً واحداً ذكره المؤرخون نقلاً عن إحدى زوجات النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله)، مكتفين به رعايةً للاختصار.
تقول عائشة: ما غرتُ على نساء النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) إلا على «خديجة» وإنّي لم أُدركها، وقد كان رسولُ اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر «خديجة» فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدّم شعره من الغضب ثم قال:
«لا واللّه ما أبدلني اللّهُ خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناسُ، وصدّقتني إذ كذّبني النّاسُ، وواستني في مالها إذ حرمني الناسُ ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد الناس»(صحيح مسلم، ج 7 ص 134، صحيح البخاري: ج 5 ص 39، أسد الغابة لابن الأثير الجزري: ج 5 ص 428، بحار الأنوار: ج 16 ص 8).
وممّا يدل أيضاً على سبق خديجة في الإيمان برسول اللّه كل نساء العالم جمعاء ما جرى في قضية بدء الوحي، ونزول القرآن، لأن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) عندما انحدر من غار «حراء» واخبر زوجته «خديجة» بما جرى له واجه - رأساً - إيمان زوجته به وقبولها لكلامه، وتصديقها برسالته، تصريحاً وتلويحاً.
هذا مضافاً إلى أنها كانت قد سمعت من قبل أخباراً تتعلق بنبوّته ومستقبل رسالته من كهنة العرب وأهل الكتاب، وهذه الأخبار وأمانة فتى قريش وصدقه الذي اشتهر به هي التي دفعت بها إلى أن تتزوج بالفتى الهاشميّ (محمّد).
أقدمُ الرجال إسلاماً: «عليّ»
إن المشهور المقارب للمتفق عليه بين المؤرخين، سنة وشيعة، هو أن «علياً» كان أول من آمن برسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) من الرجال.
ونرى في مقابل هذا القول المشهور أقوالاً أُخر نادرة قد نقل ناقلوها ما يخالفها أيضاً.
فمثلاً يقال: إنّ زيد بن حارثة ربيب رسول اللّه وابنه بالتبني، أو أبو بكر كان أول من أسلم، ولكن دلائل عديدة (نذكر بعضها هنا على سبيل الاختصار) تشهد على خلاف هذين القولين.
واليك بعض هذه الدلائل:
1 - عليٌّ تربّى في حجر النبيّ
لقد تلقى عليٌ عليه السّلام تربيته في حجر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ونشأ وترعرع في بيته منذ طفولته، وكان النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) يجتهد في تربيته والعناية به كالوالد الرحيم.
قال عامّة المؤرخين وكُتّاب السيرة بالاتفاق: إنّ قريشاً أصابتهم أزمةٌ شديدةٌ (قبل بعثة النبي) وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) للعباس عمّه، وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلنخفّف من عياله، آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ انت رجلاً فنكفهما عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه (إلى إن قال:) فأخذ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) عليّاً فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمّه إليه فلم يزل عليٌ مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) حتى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبياً فاتبعه علي رضي اللّه عنه وآمن بهِ وصدقه(السيرة النبوّية: ج 1 ص 246، البداية والنهاية: ج 2 ص 25).
في هذه الصورة يجب أن نقول بأنّ علياً عليه السّلام انتقل إلى بيت النبيّ وهو دون الثامنة، لأنَّ الغرض من أخذ النبي إيّاه من أبيه «أبي طالب» هو التخفيف عن كاهل زعيم مكة (أبي طالب)، ومن الواضح أنَّ صبيّاً في مثل هذا السنّ (دون الثامنة) مضافاً إلى أنّ فصله عن والديه أمرٌ في غاية الصعوبة، لن يكون لأخذهِ وتكفّلِهِ أيُّ أثر هامّ في وضع أبيه «أبي طالب» المعيشيّ.
وعلى هذا يجب أن نفترض له عليه السّلام عمراً يكون لأخذه فيه من قِبَل النبيّ تأثيراً معتداً به في وضع أبيه الاقتصادي والمعيشي.
فكيف يمكن القول - والحال هذه - أن أباعد عن البيت النبويّ مثل «زيد بن حارثة» وغيره اطّلعوا على أسرار الوحي، بينما جهل ابن عم النبي (صلّى اللّه عليه وآله) واقرب الناس إليه، والذي كان معه في أكثر الأوقات بما أتى به (صلّى اللّه عليه وآله) وما نزل عليه.
إنّ غرض النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) من تربية الإمام عليّ وتكفّله إياه كان إلى حدّ كبير هو أداء ما أسدى إليه أبو طالب من خدمات، ولم يكن ثمة شيء أحبَّ إلى رسول اللّه من أن يهدي أحداً إلى الصراط المستقيم، فكيف يمكن أن يقال - والحال هذه - أن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) حرم ابن عمّه الذي كان يتمتع بذكاء باهر وضمير يقظ، من هذه النعمة الكبرى.
إن من الأفضل أن نسمعَ هذا الأمر من لسان أمير المؤمنين «علي» نفسه، فقد بيّن عليه السّلام في الخطبة القاصعة منزلته من رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وقربه إليه هكذا:
«ولقد علِمتم موضعي من رسول اللّه بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليدٌ، يضمُّني إلى صدره، ويكنُفني في فراشه، ويمسُّني جسده، ويُشمُّني عرفه (عرقه)... ولقد كنتُ أتّبعه إتباع الفصيل إثر أُمِّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرُني بالإقتداء به، ولقد كان يجاورني في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيتٌ واحدٌ يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه، وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرِّسالة وأشمُّ ريح النبوة»(نهج البلاغة: ج 2 ص 182).
وجاء في تاريخ الطبري عن ابن إسحاق قال: كان أول ذكر آمن برسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وصلّى معه وصدّق بما جاءه من عند اللّه «علي بن أبي طالب» (عليه السّلام) وهو يومئذ ابن عشر سنين، وكان ممّا انعم اللّه به على عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) انه كان في حجر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) قبل الإسلام(تاريخ الطبري: ج 2 ص 57).
2 - عليٌّ وخديجة يقيمان الصلاة مع النبيّ:
ينقل ابن الأثير في «أُسد الغابة»، وابن حجر في «الإصابة» عند ترجمة «عفيف الكندي» وكثير من علماء التاريخ القصة التالية عنه، بأنه قال:
كنت إمرأً تاجراً فقدمتُ «منى» أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرأً تاجراً فأتيته أبتاع منه وأبيعه، قال : فبينا نحن إذ خرج رجلٌ من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة قامت تصلّي، وخرج غلام يصلّي معه، فقلت : يا عباس ما هذا الدين، إنّ هذا الدين ما ندري به ؟ فقال : هذا محمّد بن عبد اللّه يزعم أنّ اللّه أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستُفتح عليه، وهذه امرأته «خديجة بنت خويلد» آمنت به وهذا الغلام ابن عمه «علي بن أبي طالب» آمن به قال عفيف : فليتني كنت رابعهم(الإصابة: ج 2 ص 480، تاريخ الطبري: ج 2 ص 57. الكامل: ج 2 ص 37 و38، أعلام الورى: ص 25، أسد الغابة: ج 3 ص 414).
وهذه الواقعة ينقلها ويرويها حتى الذين يقصرون في رواية فضائل الإمام عليّ وكتابتها، وفي إمكان القارئ الكريم أن يقف على هذه القصة في المصادر التالية على وجه التفصيل.
3 - أنا الصِدّيق الأكبر:
تلاحظ هذه العبارة ونظائرُها كثيراً، في خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) وكلماته فهو يكرّر العبارات التالية بكثرة:
«أنا عبدُ اللّه، وأخو رسول اللّه، وأنا الصِدّيقُ الأكبر، لا يقولُها بعدي إلا كاذب مفتر، ولقد صلّيتُ مع رسُول اللّه قبل الناسِ بسبع سِنين، وأنا أوّل مَن صلّى معه»(خصائص النسائي: ص 3 وسنن ابن ماجه: ج 1 ص 57، مستدرك الحاكم: ج 1 ص 112، تاريخ الطبري: ج 2 ص 56 وغيرها).
4 - أوَّلكم إسلاماً: عليٌ
ولقد وردت أحاديث متواترة عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وبتعابير متنوعة قال فيها:
«أوّلُكم وارداً عليَّ الحوض، أوّلُكم إسلاماً عليُّ بنُ أبي طالب»(يراجع مصادر هذا الحديث في الغدير: ج 3 ص 220).
وعندما يدرس المنصف المحايد هذه الأحاديث، يقطع بأسبقية الإمام عليّ إلى الإسلام، وتقدّمه على غيره في الإيمان بالدعوة المحمّدية، ولا يختار القولين الآخرين اللّذين لا يذهبُ إليهما إلا الأقليّة.
فإنّ ما يناهز الستين شخصاً من الصحابة والتابعين يؤيدون القول الأول (أي إن عليّاً أولُ القوم إسلاماً وأقدمهم إيماناً) وحتى الطبريّ نفسه الذي شكّك في هذا القول، واكتفى بنقله دون اختياره وتأكيده، روى في ج 2 ص 60 بأن «ابن سعد» سأل أباه قائلاً: أكان أبو بكر أولكم إسلاماً، فقال: لا ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين.
ومن غريب الأمر أن مؤرخاً كبيراً كابن كثير يتنكر لهذه الحقيقة الساطعة فقد ذكر في ج 7 ص 334 من كتابه «البداية والنهاية» حديثاً صحيحاً بإسناد الإمام أحمد الترمذي في إسلام أمير المؤمنين وأنّه أوّل من أسلم وصلّى ثمّ أردفه بقوله: وهذا لا يصح. ومن أي وجه كان روي عنه، وقد ورد في أنّه أوّل من أسلم من هذه الأُمّة أحاديثٌ كثيرةٌ لا يصح منها شيء... إلخ.
اختلاف المؤرخين في مسألة «انقطاع الوحي»:
لم يرد في القرآن الكريم أيُّ ذكر مطلقاً لمسألة (انقطاع الوحي) بل لم ترد به إشارة أيضاً، إنما نلاحظها في كتب السيرة والتفسير فقط، ويختلف كُتّاب السيرة والمؤرّخون في علة (انقطاع الوحي) هذا، ومدته اختلافاً كبيراً يجعلنا لا نعتمد على أي واحد منها، وها نحن نشير إليها بشكل ما:
1 - إن اليهود سألوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) عن أصحاب الكهف، وعن الروح، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسّلام: سأُخبركم غداً، ولم يستثن، فاحتبس عنه الوحي(روح المعاني: ج 30 ص 157، السيرة الحلبية: ج 1 ص 310 و311).
بناء على هذا لا يمكن أن نربط هذه المسألة ببدء الوحي ومطلع عهد الرسالة لان اتصال علماء اليهود وأحبارهم مع النبي (صلّى اللّه عليه وآله) عن طريق قريش وسؤالهم إياه حول هذه الأُمور الثلاثة، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم توجه وفد من قريش إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحة ما جاء به رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، فاقترح اليهود عليهم أن يسألوا النبي عن تلك الأُمور الثلاثة(السيرة النبوية: ج 1 ص 300 و301).
2 - قالت خولة وهي امرأة كانت تخدم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) أن جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) أياماً لا ينزلُ عليه الوحيُ، فلمّا خرج رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) من البيت كنست خولة تحت السرير فإذا جروٌ ميّت فأخذته وألقته خلفَ الجدار فأنزل اللّهُ تعالى هذه السورة ولما نزل جبرائيل سأله النبي (صلّى اللّه عليه وآله) عن التأخر فقال: «أما علمت أنّا لا ندخلُ بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ»(تفسير القرطبي: ج 10 ص 83 و71، السيرة الحلبية: ج 1 ص 349).
3 - إن المسلمين قالوا: يا رسول اللّه، ما لك لا ينزلُ عليك الوحيُ ؟ فقال: «وكيف ينزِلُ عليّ وأنتم لا تقصُّون أظفارُكم ولا تأخذون من شواربكم» ؟(نفس المصدر) فنزل جبرائيلُ بهذه السورة.
4 - أهدى عثمان إلى النبي (صلّى اللّه عليه وآله) عنقود عنب وقيل عِذق تمر فجاء سائلٌ فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليه (صلّى اللّه عليه وآله) ثانياً ثم عاد السائل فأعطاه وهكذا ثلاث مرات فقال (صلّى اللّه عليه وآله): ملاطفاً لا غضبان: أسائلٌ أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخر الوحيُ أياماً فاستوحش فنزلت السورةُ(تفسير روح المعاني: ج 30 ص 157).
5 - إن جرواً لأحد نساء النبي (صلّى اللّه عليه وآله) أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي عليه(غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري: ج 30 ص 108).
6 - إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) لما سأل جبرائيل عن تأخّر الوحي قال جبرائيل، لا املِكُ من نفسي شيئاً إنّما أنا عبدٌ مأمورٌ(تفسير أبو الفتوح الرازي: ج 12 ص 108).
ثم إن هناك أقوالاً أُخرى يمكنُ الحصول عليها من مراجعة التفاسير(مجمع البيان: ج 10 تفسير سورة والضحى).
ولكن الطبريّ نقلَ وجهاً آخر تمسكَ به المغرضون والمرضى من الكُتّاب واعتبروه دليلاً على طروء الشك على قلب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وهو أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) بعد حادثة (حراء) فقالت خديجة للنبي (صلّى اللّه عليه وآله): ما أرى ربَّك إلا قد قلاك!!
فنزل الوحيُ يقولُ:
(ما ودّعك ربُّك وما قلى)(تفسير الطبري: ج 30 ص 148).
وممّا يدلُّ على أهداف هذا النوع من الكُتّاب، المريضة، أو عدم تتبّعهم واستقصائهم، أنهم تمسكوا من بين جميع الأقوال بهذا الاحتمال، واستندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) الذي لم ير في حياته أي أثر للشك والحيرة مطلقاً.
وإننا مع ملاحظة النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال وتفاهته:
1 - لقد كانت السيدة خديجة من النساء اللواتي أحببن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) حباً صادقاً وعميقاً، فهي التي وفت لزوجها حتى النفس الأخير، ووقفت ثروتها الطائلة لتحقيق أهدافه، وكانت في عام البعثة قد قضت خمسة عشر عاماً من حياتها الزوجية، ولم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها إلا التقوى والطهر ولم تلمس منه إلا كرم الصفات ونبل الأخلاق فقد كانت من المصدقين له (صلّى اللّه عليه وآله) من أول يوم وكانت تراعي نهاية الأدب في تكليمها معه وعشرتها إياه (صلّى اللّه عليه وآله) فكيف تتكلم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفية، مع زوجها بغليظ القول، وتوجه له مثل هذه الكلمة غير المهذَّبة، بل والجارحة ؟!
2 - إنّ آية: (ما ودّعك ربُّك وما قلى) لا تدل على أن «خديجة» قالت مثل هذا الكلام لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنّ مثل هذا الكلام قد وُجّه إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، وأمّا من هو القائل، ولماذا قال هذا الكلام ؟ فليس ذلك معلوماً.
3 - إن ناقل هذه الرواية يصف «خديجة» تارة بأنها طمأنت النبيّ، وسكّنت من روعه إلى درجة أنها منعته عن الانتحار، ولكنه يصفها تارة أُخرى بأنها قالت له: بأن اللّه عاداه وقلاهُ، ألا ينبغي هنا أن نقول: «كن ذكوراً ثم اكذب»؟!
4 - إذا كان الوحيُ قد انقطع بعد حادثة جبل (حراء) ونزول بضع آيات من سورة «العلق» إلى أن نزلت سورة «الضحى»، يتوجب - في هذه الصورة - أن تكون سورة «الضحى» ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السُّور في حين أنّ تاريخ نزول الآيات والسور القرآنية يفيد أنها السورةُ الحاديةُ عشرة من سُور القرآن الكريم. لأن فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي:
1 - العلق.
2 - القلم.
3 - المزّمِّل.
4 - المدّثّر.
5 - تبّت (المَسَد).
6 - التكوير.
7 - الأعلى.
8 - الانشراح.
9 - والعصر.
10 - والفجر.
11 - والضحى(تاريخ القرآن للزنجاني: ص 58).
نعم أنفرد اليعقوبي من بين المؤلفين باعتباره سورة الضحى - في تاريخه -(تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 33) السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول، وحتى هذا الرأي لا ينسجم مع القصة المذكورة (انقطاع الوحي).
الاختلاف في مدة انقطاع الوحي:
لقد تعرّض تحديد مدة انقطاع الوحي بشكله المزعوم لإبهام كبير، فقد ذكر ذلك بصور مختلفة في التفاسير والأقوال التالية هي:
4 أيّام.
12 يوماً.
15 يوماً.
19 يوماً.
25 يوماً.
40 يوماً.
ولكن بعد دراسة فلسفة النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي وتوقفه لم يكن حدثاً استثنائيا، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أول يوم أن المشيئة الإلهية تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية، منجّمة إذ يقول تعالى:
(وقُرآناً فرقناهُ لِتقرأهُ على مكثٍ)(سورة الإسراء: الآية 106).
ويكشفُ القرآن النقاب - في موضع آخر - عن سرِّ نزول القرآن تدريجاً إذ قال:
(وقال الّذين كفرُوا لولا نُزّل عليه القُرآنُ جُملةً واحِدة كذلِك لِنُثبِّت بهِ فؤادك ورتّلناهُ ترتيلاً)(سورة الفرقان: الآية 32).
ومع ملاحظة طريقة نزول الآيات والسور القرآنية هذه يجب أن لا يُتوقع نزولُ الآيات كل يوم وكلّ ساعة، وأن ينزل جبرائيل على النبيّ على الدّوام، ويأتي إليه بالآيات دون انقطاع، بل إن الآيات القرآنية كانت تنزل على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) في فواصل زمنية مختلفة وفقاً للاحتياجات، وبحسب الأسئلة المطروحة على النبي، ولأسرار أُخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام.
وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يُسمى بانقطاع الوحي، بل كل ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول الفوري، والمتلاحق للوحي.
التعليقات (0)