حديث في طهارة (البِيْض) ونجاسة (الأغيار)
عندما ظَهَرَ نيك غريفن في برنامج «ساعة استجواب» على قناة الـ «بي بي سي» بدا الأمر كما كان متوقعاً. كان حديث هذا الرجل اليميني البريطاني المتطرف واضحاً تجاه العرب والإسلام كدين ومُعتنقيه، وأيضاً تجاه الأقلّيّات (السُود مثالاً) في بريطانيا.
في اللقاء الذي ثار حوله جدل كبير في الأوساط السياسية والشعبية البريطانية، قال غريفن: «سأفسّر لكم، لماذا الإسلام دينٌ شرّير. فهو يعامل النساء كمواطنين درجة ثانية، ويقول إن كل امرأة ضحية الاغتصاب يجب أن يتم رميها بالحجارة لأنها ارتكبت الزنا، وهو دين يأمر كواجب ديني، بقتل غير المسلمين».
وعندما عارضَه الجمهور الحاضر، مُعتبرين كلامه بلا وزن ولا بُرهان أخذ المبادرة وقال مُستدركاً «هناك بعض الأمور الجيدة في الإسلام، ولكنه (أي الإسلام) لا يناسب القيم البريطانية الأساسية، القائمة على حرية التعبير والديمقراطية».
وهو وصفٌ يتناسب مع ما كان يُنادي به غريفن منذ زمن، من أن على بريطانيا أن تعود كما كانت قبل خمسين عاما للبِيض فقط، وأن على المهاجرين الذين وفَدُوا إليها بعد الحرب العالمية الثانية من آسيا والشرق الأوسط أن يعودوا إلى بلدانهم الأصلية، بما فيهم المولودون على أرضها.
وإذا ما عَلِمنا أن تعداد السّكان في بريطانيا يفوق 61 مليون إنسان فإن على الحكومة البريطانية (حسب وصفة غريفن) أن تُرحّل مليون وتسعة وثمانين ألف مُسلِم يعيشون على أرضها (كثير منهم بريطانيون)، على اعتبار أنهم يُشكّلون 1.8 في المئة من الشعب البريطاني.
ولأن غريفن لا يجرؤ إلاّ على الدّهس في البطون الرخوة فإنه قال عندما سُئِلَ عن موقفه من الهولوكوست «خلال حرب غزة، حزبنا كان الوحيد الذي قال بأن للإسرائيليين حق الدفاع عن أنفسهم ضد حماس. إنني لا أعرف لماذا قلت هذه التصريحات (حول الهولوكوست) حينها، لا أستطيع أن أقول لك لماذا غيّرت رأيي وإلى أي مدى غيّرت رأيي.
ما لا يعرفه غريفن هو ذاته ما يخصّ التاريخ الأوربي بشكل عام والبريطاني بشكل خاص. فتعويله على الجَنْبة المسيحية أو الأنغلوساكسونية في نقاء الدولة والديمقراطية البريطانية هو ما لا يتصالح مع الحقائق التاريخية.
فالتاريخ البريطاني مليء بالتنافر الطائفي (كاثوليك/ بروتستانت). ومليء بالتناقض على المستوى القومي والاستعماري منذ قرون سحيقة، وفي طليعتها الحروب النابليونية الطاحنة التي اجتاحت أوروبا لعقدين كامِلَيْن من دون توقّف.
فالولايات المتحدة الأميركية تحالفت مع الثورة الفرنسية ضد بريطانيا التي تليها في النّسب والعِرق والانتماء، إبّان حركة الاستقلال الأميركية في العالم الجديد، بسبب طبيعة المصالح القائمة حينها، ومن أهمّها العِداء المشترك.
ورحّب الأيرلنديون بالرّوبسبييريّة الفرنسية ضد الجيرة الإنجليزية الثقيلة، ليس حباً في باريس وإنما بُغضا للندن. وحتى عندما تحالفت الأنظمة الملكيّة الرجعيّة في أوروبا ضد الثورة الفرنسية وقفت جيوب هنا وهناك لصالحها وضد تلك الأنظمة المتماهية معها في العِرق.
اليوم يُطالِب غريفن بإبعاد المهاجرين واللاجئين عن بريطانيا. بالتأكيد هو لا يتذكّر كيف بنى الإنجليز نصف البلاد على سواعِد مليون ونصف المليون من الأيرلنديين الذين نَزَحُوا من بلادهم بسبب المجاعة في العام 1859. وهو حال أوروبا جميعاً.
وهو لا يُدرك كيف بنى الأميركيون الدولة بعد نيل الاستقلال من بريطانيا. لقد كانت الهجرات الآسيوية والأوربية الوسطى والشمالية هي العَصَب فيما هي عليه اليوم واشنطن من عنفوان سياسي وتقدّم تكنولوجي.
لم يقرأ غريفن أن الإنجليز لم يعرفوا التعليم الجيد إلاّ من الاسكوتلنديين الكالفينيين، الذين علّموا جيمس وات وتوماس تلفورد ولودن ماكادم وجيمس مِل، الذين كانوا يطمحون في تعليم يتناسب وطموحاتهم وتطلعاتهم.
وهو لا يقرأ كيف أنهم (أي البريطانيين) تعلّموا خلال ردح طويل من الزمن داخل أكاديميات المنشقين على الكهنوت المُقدّس والذين حُرِمُوا من التعليم الأنغليكاني، حتى تصدّق لانكستر الكويكري على البريطانيين وقام بحملاته في التطوع لمحو الأمية الابتدائية مطلع القرن التاسع عشر كما تذكر المصادر التاريخية المُوثّقة.
اليوم لا أعتقد أن غريفن لم يسمع بأن 34 في المئة من مجموع الأطباء العاملين في بريطانيا هم من المهاجرين العرب، وربما تطبَّب عند أحدهم يوماً ما لكنه لم يُفصِح عن ذلك، خجلاً أو استعلاء أو مكابرة.
لا أظنّه لم يسمع بالبروفيسور العراقي عادل شريف المقيم في بريطانيا والذي ابتكر آلية استخلاص المياه عبر الانتشار العكسي باعتماد الطـاقة الشمسية.
ولا أظنّه لم يسمع بالعالِمة السعودية حياة سندي التي انتفعت بريطانيا من اختراعها في مجسّ للموجات الصوتية والمغناطيسية الخاص بالأمصال، أو إفاضات العالِم العراقي محمد عبد الهادي الحكيم في تطوير الأدوية المستخدمة لعلاج أمراض الرئة.
أفضل العروض التي تلقّاها غريفن خلال لقائه على شاشة البي بي سي هو العرض الذي قدّمه أحد المشاركين في الندوة من الجمهور، وهو عبارة عن «تذكرة سفر إلى القطب الجنوبي لأنه أرض لا لون لها».
التعليقات (0)