أصداء عاشوراء في غزة
بقلم الأستاذ أحمد شهاب
الذين يريدون من كربلاء أن تكون قصة حزينة تتوقف عند زمن انقضى قبل 1400 عام، إنما يمارسون نوعاً من التغطية والتعتيم على رسالة الحسين ومبادئه وقيمه، التي نعتقد جميعا أنها مبادئ حية ومتوقدة ومتجددة في كل زمان ومكان.
عاشوراء لا تتوقف عند البكاء والنحيب، وإن كانت العاطفة تُغذى الفكر وتضمن ديمومته وتمنح السخونة للقضية العادلة، لكنها قبل ذلك هي مناسبة لتدارس أوضاع الأمة من جديد، وتصحيح مسارها، وهي نهضة عالمية ترتبط بكل الأحرار في العالم، الذين يستقون منها طرق العيش الكريم أو الموت بإجلال، ورفض الخضوع للذل، والانتصار لمبادئ العدل والحرية والكرامة الإنسانية.
مشكلة المجتمعات العربية حسب تشخيص الإمام الحسين تكمن في انعدام إحساسهم بالحرية، ولذا دعاهم إلى أن يكونوا أحرارا في دنياهم، إن كانوا عرباً كما يزعمون، وجاءت نهضته لتثير أسئلة الحرية بصورة غير مسبوقة، فهي النهضة الوحيدة التي أثارت كل هذه الأسئلة حول الحرية والكرامة والحقوق الإنسانية على مدى السنوات الطويلة، ولا تزال تعد زاد الأحرار والباحثين في مسلك الحقوق الإنسانية.
مشكلة المجتمعات العربية حسب تشخيص الإمام الحسين تكمن في انعدام إحساسهم بالحرية، ولذا دعاهم إلى أن يكونوا أحرارا في دنياهم، تمتاز نهضة الإمام الحسين بثلاثة أبعاد أساسية، البعد الأول أنها نهضة عالمية تنفرد عن غيرها من الثورات والانتفاضات بآثارها وانعكاساتها الواسعة، فهي ليست ثورة محلية تتوقف عند مشكلة داخلية نشأت بين طرفين مختلفين، وإنما هي رسالة عالمية تتحدث عن ضرورة الدفاع عن الحقوق والحريات بصوت مرتفع وصاخب، وأهمية تثبيت الكرامة والعدالة والكرامة في المجتمع البشري، وهو ما يدفعنا لاعتبارها أهم الأحداث التاريخية على الإطلاق، ليس على المستوى الإسلامي فقط، بل والإنساني بصورة عامة.
وحسب المرحوم "مرتضى المطهري"، فإن نهضة الحسين اتسمت بفرادتها وتميزها، من خلال قدرتها على كسر السكون والصمت وقشع الظلمة، ومقاومة الظلم، لذلك فإنها من سنح النهضات العالمية التي يطلبها الناس وينتظرونها لتُخلصهم من الشرور، لذلك فإن إحياء عاشوراء ليس تعبيرا طائفيا بغيضا، ولا نزعة مذهبية منغلقة على ذاتها، ولا ينبغی أن تكون كذلك، وإنما هي تعبيرٌ عن الركون والتحيز إلى القيم الإسلامية والإنسانية التی ضحى الإمام الحسين من أجلها.
والبعد الثاني أنها حركة مبدئية، توجهت إلى الحقائق وترفعت عن القشور، وأوضحت أن الدين أو التدين، ليس شعارا وشكلا خارجيا يدعي المثالية والنزاهة، وليست ثوبا يرتدي وينزع وقت الحاجة، بل هو مبدأ ثابت يستهدف خير البشرية ورفعتها.
أما البعد الثالث، فهو نزعتها الإنسانية. ثمة فرق كبير بين أن تكون كربلاء لافتة لجماعة أو فئة محددة، وبين أن تكون رسالة وشعارا لكل الأحرار في العالم، علينا أن نفهم أبعاد الحركة الحسينية حتى نستطيع أن نتفاعل معها بصورة سليمة، وحتى تتحول من مناسبة طائفية، أو خاصة بطائفة محددة، يحيون ذكراها بطرق مختلفة، إلى محفل سنوی لجميع الطوائف، علينا أن نقرأ الحسين بعين إسلامية سليمة تتسع للجميع، لا بعين طائفية ضيقة ومحدودة.
ويلتقي جمع كبير من العلماء والمفكرين على أن قضية استشهاد الإمام الحسين ونهضته الشهيرة في كربلاء هي إنسانية تخص جميع الأحرار والمظلومين والمحرومين في العالم، هي عنوان عام يتلخص في رفض الظلم، والثبات على الموقف، والدفاع عن قيم الدين والإنسانية حد التضحية بالنفس في سبيلها. فلقد مثلت كبرى النهضات الإنسانية التي احتفظ بها تاريخ الإنسانية بسبب معانيها العظيمة بعظمة القيم التی حملتها.
وقد اجتهد العديد من المفكرين المعاصرين للعمل على تنقية السيرة الحسينية من أي أبعاد طائفية أو عنصرية تقلل من قيمتها ورسالتها، والتأكيد على أبعادها الحقيقية، ويجد المفكرون صورا عديدة تثبت البعد الإنساني الذي تتميز به النهضة الحسينية، تبدأ من طبيعة منطلقاتها وأهدافها النبيلة، وتصل إلى تنوع شخصياتها وأبطالها، وتعدد صور المأساة وعظم المصيبة.
وقد اجتهد العديد من المفكرين المعاصرين للعمل على تنقية السيرة الحسينية من أي أبعاد طائفية أو عنصرية تقلل من قيمتها ورسالتها، والتأكيد على أبعادها الحقيقية
هذه النزعة الإنسانية يجب أن تظهر بقوة فی الظروف الراهنة. في اعتقادي أن رسالة المنبر الحسيني فی كل بقاع الأرض ينبغي أن تركز على المآسي التي تجري في عالم اليوم، ولاسيما ما جرى ويجري في قطاع غزة، حيث تتزامن الجريمة المروّعة في حق الشعب الفلسطينی مع مناسبة عاشوراء هذا العام، إن ما ينقله خطباء المنبر في ثقة وإصرار من أن «كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء» يتجلى بصورة أكثر عمقا في ظروف الأزمات، حينما يحتاج الموقف لرسم خطوط العلاقة بين المأساة التاريخية والمأساة المعاصرة، وكيف يطل الظلم والطغيان برأسه بصور متنوعة وأماكن مختلفة.
خطباء المنبر من جهتهم يتحملون مسؤولية أساسية فی هذا الاتجاه، من خلال انفتاحهم وتوجههم إلى القضايا الإنسانية الراهنة، وتوجيه المستمعين نحوها، إذ إن مهمة المنبر تتجاوز مسألة إثارة الأحزان إلى إثارة المشاعر وتوظيفها من أجل الانتصار للمبادئ الإنسانية. كما أن خطاب المنبر الحسيني، بخاصة مع اتساع «التواصل الكوني» من خلال الفضائيات الدينية التي انتشرت في الآفاق، ينبغي أن يتوجه إلى عموم الناس ويعالج القضايا والهموم الساخنة فی الساحات الإسلامية.
على الخطباء أن يستجمعوا صور المأساة في بقاع الأرض المختلفة، صور آلاف القتلى والجرحى، ورائحة الدماء التی تسيل فی أزقة الضواحی الإسلامية، ولحظات الرعب المستمرة التی تقفز من أعين الأطفال والنساء كل ليلة، وربطها بأحداث عاشوراء، وبما جرى على رجال وأطفال ونساء الحسين، فإن كربلاء التاريخية تتجدد اليوم فی بقاع الأرض المختلفة، فی بيروت مرة، وفی بغداد مرة أخرى، والآن فی غزة.. وغدا فی مكان آخر، ومن هناك.. من خلف غبار المعركة، وبالقرب من صوت القذائف المدمرة، تخرج ناعية الحسين «ألا من ناصر ينصرنا، ألا من ذابّ يذبّ عنا».
التعليقات (0)