شارك هذا الموضوع

مَا بَيْنَ الهِرِّ والبِرِّ حَدِيْثٌ لا يَنتَهِي

مَا بَيْنَ الهِرِّ والبِرِّ حَدِيْثٌ لا يَنتَهِي


في السادس عشر من الشهر الجاري عُقِدَ اجتماع في نيويورك بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا مع أربع دول خليجية وهي السعودية والكويت والإمارات والبحرين بالإضافة إلى مصر والأردن والعراق لمناقشة أمن منطقة الخليج والشرق الأوسط والملف النووي الإيراني.


في شؤون ذلك الاجتماع حديث مُتفرّع لكنه أيضاً غير مُعقّد نظراً لشدة وضوحه. لأول وهلة، فإن اللافت فيه هو تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس. هذه المرأة الراحلة عن متاع وزارتها غضون ثمانية وعشرين يوماً قالت كلاماً صالح للتهكّم.


هي تقول أن "هذا الاجتماع لم يكن اجتماعاً لوضع استراتيجية مشتركة ضد إيران، ولكن ما حدث أن هذه البلدان (العربية المجتمعة) لها اهتمامات عميقة في كيفية حل المشكلة، وهي تشير إلى الملف النووي الإيراني وإلى تدخل إيران في شؤون المنطقة".


ثم تُضيف قائلة "تود هذه الدول الاستمرار في التشاور مع الدول الخمس + ألمانيا، حيث جرى الاتفاق مع هذه الدول على الاجتماع بشكل دوري لمتابعة أمن المنطقة والملف النووي الإيراني، ووضع قائمة بأسماء الدول للمشاركة في الاجتماعات القادمة، أما إيران فسوف لن تكون من الدول المدعوة".


الأهم من كل ذلك أن رايس قالت بأن "دول المنطقة قد عبّرت عن قلقها من سياسة إيران وطموحاتها الإقليمية وسياستها النووية، وأن كل دول المنطقة قد أيّدت ما تقوم به الدول الخمس وألمانيا والوكالة الدولية للطاقة الذرية تجاه إيران".


بطبيعة الحال فإن ما قامت به رايس هو محل نظر "دبلوماسياً". فهي تحدّثت على لسان الدول الملتئِمة (وخصوصاً الخليجية منها) بذات التجيير الذي هي تسعى إليه. بالتأكيد هي تناست أن أراضي هذه الدول (وخصوصاً الإمارات) تضم أكثر من عشرة آلاف شركة إيرانية واستثمارات تزيد عن الثلاثين مليار دولار.


الولايات المتحدة الأميركية هي سائرة (وتسير) في صيغة علاقات متوترة مع إيران، لكنها لا تعي بأنها مفصولة بحكم الجغرافيا إلى الحدّ الذي يُميّعها إذا ما استُثنيت مكامن النفوذ خارج الحدود المباشرة.


الأميركيون يُدركون أن دول الخليج لا تفصلها سوى بضعة كيلومترات عن إيران. وأحياناً تتداخل الحدود، ويتداخل النفوذ في الأراضي المُقوّسة، تُغّذيها سياسات يستطيع الجميع شَمَّها واستذواقها بشكل جيد بحكم الجيرة.


لذلك فإننا نرى أن هذه الدول تمتلك رؤية مُحددة تجاه ذلك الملف. وبعض دول الإقليم بدأ فعلياً في معالجة مشاكله السياسية والاقتصادية عبر التقرّب أكثر من ذات النقطة التي كانت تُشكّل في السابق "فوبيا" لا يُمكن تماسها.


اليوم نجد أن دولة قطر وسلطنة عُمان قاطعتا الاجتماع المذكور. وهو موقف يُعبّر عن سياسة واقعية. سياسة تُدرك بأن منطق الأشياء يفرض خيارات أخرى. سياسة تفهم أن المعادلات الإقليمية لا يُمكن الاعتماد عليها ما دامت قاصرة عن استيعاب الصِّيَغ التوافقية المبنيّة على مباريات غير صفريّة.


قطر تشتري الماء العذب من إيران عبر الأنبوب الأخضر وتتشارك معها في حقل الشمال، ولها روابط تنسيق معها بشأن القضيتين الفلسطينية واللبنانية وأيضاً حول شؤون العراق وسوريا حيث مواضع النفوذ الإيراني.


سلطنة عُمان يفصلها عن الحدود الإيرانية مضيق مائي لا يزيد عرضه عن خمسة وأربعين كيلومتر.  وسيُستخدم لتصديق مليار قدم مُكعّب من الغاز الإيراني يومياً إلى السلطنة عبر محطّة عُمانية للغاز الطبيعي المُسَال. بالإضافة إلى كونه ممر يُوصل العُمانيين إلى استثماراتهم في مُجمّع أنابيب النفط في بحر قزوين والتي تُقدّر بـ 7 بالمائة.


ربما الولايات المتحدة لا تتفهّم هذه الأمور مُطلقاً. هي لم تَجِد غضاضة في أن تُحاور الإيرانيين في ثلاث جولات تفاوضية بشأن العراق عندما كان أمنها يتمايل. وهي لا تَجِد حَرَجَاً في أن تستورد سلعاً إيرانية طاقية وغذائية عبر سماسرة عالميين لتقليل خسائر مقاطعتها والتي تُقدّر بسبعة مليارات دولار سنوياً.


لكنها اليوم تدعو إلى "عدم منح أي دور إقليمي لإيران في المنطقة، وتحويل السلوك الإيراني من سلوك سلبي إلى سلوك إيجابي، وإمكانية فرض عقوبات جديدة على طهران إذا واصلت سلوكها وطموحاتها النووية".


وهي بذلك لا تنصت ولا تستمع لرغبات دول المنطقة الراغبة وغير المعارضة لدعوة إيران للمشاركة في اجتماع نيويورك (راجع تصريحات وزير الخارجية البحريني لصحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 17 ديسمبر الجاري). بل إنها تزيد من تعزيز لغة المحاور عندما تستدعي مصر والأردن للمشاركة في قِبال دول أخرى.


ما يُقلّل من صِدقيّة حديث الأميركيين أنهم يتفوهون مع الجميع وباسم الجميع وكأن المجتمعين كُتلة صمّاء. لكننا نجد أنه وفي ذات الوقت الذي كانت تتحدث فيه كونداليزا رايس عن أمن المنطقة والموقف من إيران، كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقول كلاماً مُختلفاً وهو يُمثّل إحدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.


لافروف قال "ليست هناك أيّة نيّة لفرض عقوبات جديدة على إيران، وليس من مصلحة الجميع زيادة تفاقم الوضع في المنطقة، وأن الدول الست قد اتفقت في الأصل على أن تبذل كل ما في وسعها لدعم عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية" وفي ذلك إشارة إلى إعطاء المنظمات الدولية دوراً أكبر من الدول العظمى.


إذاً فالموضوع لا يزيد عن زَعِيْق أميركي يأتي في نهاية ألم الإدارة المنتهية ولايتها. فالروس بعد أحداث القوقاز وانكفاء النفوذ الغربي فيه بعد "تأديب" تبليسي أصبحوا يُفكرون بشكل مختلف. تفكير لا يقبل بأقل من تحطيم أسوار نفوذ الخصوم.


بل الأكثر أنهم بدأوا يمدّون أعناقهم صوب قاعدة طرطوس السورية، والتواجد في كوبا على غرار ما جرى قبل ثمانية وأربعين عاماً في جزيرة "الحرية". وأيضاً بدأوا في تمتين دول أميركية لاتينية بسلاح روسي متطور.


اليوم يُوجد من لم يستوعب بعد حقيقة الولايات المتحدة. هي لا ترغب في أكثر من ضمان مصالحها. هذا ليس هراء، إنه خطاب أميركي يتم البوح به جهاراً في كل التصريحات. ومن لا يستطيع إدراك ذلك بالسّمع فعليه أن يُدركه بالفعل.


فإذا كانت واشنطن حريصة فعلياً على مصير هذا العالم وناسه وشعوبه فلماذا لا تحرص على أربعة ملايين طفل كوري شمالي مُصابون بسوء التغذية بسبب عقوبات قاسية تفرضها هي. لكنها تحرص على رعاية مشاعر الزعيم اليهودي النمساوي آرييل موزيكانت من هجوم اليمين المتطرف.


ولماذا لا تحرص على مليون ونصف مليون غزّاوي في الأراضي الفلسطينية المحتلّة ليس لديهم لا ماء ولا كهرباء ولا دواء. لكنها لا تستحي من دفع نصف مليون دولار للفنزويلي يون غويكوتشييا بحجّة دفاعه المستميت عن "الحريات الفردية والسوق الحرة والسلام" أمام نظام شافيز.


اليوم يطمح الجميع في أن لا تُثقل هذه الإدارة الأميركية الراحلة كاهل باراك أوباما بمزيد من الأتعاب والملفات المُؤجّلة، وخصوصاً لمنطقة الخليج. فالطموح السياسي للرئيس الجديد في العلاقات الخارجية مهما بلغ فإنه لن يساوي كولونيالية هذه الإدارة المتصقّرة.


 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع