شارك هذا الموضوع

نداء سماحة الإمام الخامنئي لحجاج بيت الله الحرام

أصدر سماحة ولي أمر المسلمين آية الله العظمى الحاج المجاهد السيد علي بن الجواد الحسيني الخامنئي نداءً لحجاج بيت الله الحرام هذا نصّه:



بسم الله الرحمن الرحيم


إن أرض الوحي قد جمعت مرة أخرى، حشود المؤمنين في ضيافتها السنوية. وقد جاءت النفوس التّواقة من أرجاء العالم إلى مهد الإسلام والقرآن بهدف أداء المناسك التي تُجسد وجهاً للدرس الأبدي الذي يعلمه الإسلام والقرآن للبشرية ـ إذا أمعِن النظرُ فيها. كما أن تلك المناسك تشكل بدورها خطى رمزية لترجمة هذا الدرس إلى حيز العمل والتطبيق.


إن الهدف من هذا الدرس العظيم، هو فلاح الإنسان وعزته الأبدية؛ وطريق تحقيق ذلك  يتمثل في تربية الإنسان الصالح وتكوين المجتمع الصالح:


ـ ذلك الإنسان الذي يعبد الله الواحد الأحد بقلبه وسلوكه، ويطهر نفسه من الشرك والأدران الأخلاقية والأهواء المنحرفة،


ـ وذلك المجتمع الذي يعتمد ـ في تكوينه ـ على العدالة والحرية والإيمان والحيوية والنشاط  وجميع معالم الحياة والتقدم.


إن العناصر الرئيسية لتحقيق هذه التربية الفردية والاجتماعية مُدرَجة ومضمَّنة في فريضة الحج؛ فمنذ لحظة الإحرام والخروج من حيز المميزات الفردية وترك الكثير من اللذائذ والأهواء النفسانية، إلى عملية الطواف حول رمز التوحيد، وإقامة الصلاة في مقام إبراهيم المضحّي ومحطّم الأصنام، ومن السعي المتسارع بين الجبلين، إلى الاستقرار والاطمئنان في رحاب وادي عرفات بين حشد كبير من الموحدين من كل لون وعرق، إلى قضاء ليلة مصحوبة بالذكر والابتهال في المشعر الحرام حيث يأنس كل قلب إلى الله بانفراد، رغم تواجده بين ذلك الحشد المكثف، ثم الحضور في منى ورجم رموز الشيطان، ثم تجسيد عملية التضحية المفعمة بالمعاني العميقة، وإطعام الفقير وابن السبيل، كل ذلك يشكل عملية تعليم وتدريب وتذكار.


وتنطوي هذه المجموعة المتكاملة على الإخلاص والصفاء والانقطاع عن الشواغل المادية من جهة، وعلى السعي والجهد والمثابرة من جهة أخرى؛ كما تنطوي على الأنس إلى الله والاختلاء لذكره من جهة، وعلى التلاحم والإخلاص والتناغم مع المخلوق من جهة؛... على الاهتمام بتنقية القلب والروح من جهة، وتعليق الأمل على انسجام الأمة الإسلامية بكيانها العظيم من جهة؛ على الخشوع أمام الحق جلَّ وعلا من جهة، والوقوف بعزيمة صلبة أمام الباطل من جهة؛ وعلى العروج  شوقاً إلى نعيم الآخرة من جهة والعزيمة الراسخة لإضفاء الجمال والحلاوة على الحياة الدنيا من جهة أخرى. إن كل تلك الأمور الشائكة يتم تعليمها والتدريب عليها جملةً واحدةً :


﴿وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾


وهكذا تكون الكعبة المشرفة ومناسك الحج مصدراً لقوام المجتمعات البشرية وقيامها، كما أنها مفعمة بالمنافع والمكاسب للناس: ﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾ و ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾


على المسلمين ـ من أي بلد وأي عرق كانوا ـ أن يقدّروا أكثر من أي وقت مضى هذه الفريضة الكبرى حق قدرها، وأن يستفيدوا منها. إذ إن الأفق اليوم قد أصبح أكثر وضوحاً وإشراقاً من أي وقت مضى أمام الأمة الإسلامية، كما أنَّ الأمل في تحقيق الأهداف التي رسمها الإسلام للمسلمين ـ أفراداً ومجتمعات ـ قد ازداد أكثر من أي وقت مضى.


فإذا كانت الأمة الإسلامية تعاني خلال القرنين الماضيين من الانهيار والهزيمة أمام الحضارة المادية الغربية والمدارس الإلحادية بنوعيها اليميني واليساري، فإن المدارس السياسية والاقتصادية الغربية هي التي باتت اليوم ـ في القرن الخامس عشر الهجري ـ متورطة في الأوحال ومعرّضة للضعف والانهيار والهزيمة. وإن الإسلام قد بدأ مرحلة جديدة من ازدهاره وعزته بفضل صحوة المسلمين واستعادتهم هويتهم، ومن خلال طرح الفكر التوحيدي ومنطق العدالة والقيم الروحية.


إن الذين كانوا في الماضي القريب يعزفون على وتر اليأس، معتبرين أنه قد ضاع الإسلام والمسلمون، بل ضاع أساس التدين والقيم الروحية، أصبحوا اليوم يرون بأم أعينهم  انتعاش الإسلام وعودة حياة القرآن والإسلام، كما يرون بالمقابل ما يعتري تدريجياً أولئك المهاجمين من ضعف وزوال. إنهم يصدّقون فعلاً هذه الحقيقة باللسان كما بالقلب.


إنني أقول وبكل ثقةٍ إن هذا ليس إلا بداية الطريق، فإن الوعد الإلهي ـ أي انتصار الحق على الباطل وإعادة بناء أمة القرآن والحضارة الإسلامية الحديثة ـ على وشك التحقق بصورة كاملة‌ :


﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.


إن انتصار الثورة الإسلامية في إيران  وتشييد صرح النظام الإسلامي الذائع الصيت، كان دليلاً على تحقق هذا الوعد المحتوم وذلك في أول مرحلة له وأهمها، ما حوّل إيران إلى قاعدة متينة لفكرة سيادة الإسلام والحضارة الإسلامية.


 فقد انبعث أمل جديد في العالم الإسلامي واندفع  حماس في النفوس مع بزوغ هذه الظاهرة الشبيهة بالمعجزة، سيما في ذروة صخب المادّية وتعرض الإسلام لمهاجمة اليمين واليسار ـ الفكري منهما والسياسي ـ ثم صمود هذه الظاهرة وصلابتها أمام الضربات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية الموجَّهة إليها من كل حدب وصوب. وكلما مرت الأيام، ازدادت هذه الصلابة، بحول الله وقوته، وتجذَّر ذلك الأمل أكثر فأكثر. فخلال العقود الثلاثة التي مرت على هذا الحدث، ظلت منطقة الشرق الأوسط والبلدان الإسلامية في آسيا وأفريقيا مسرحاً لهذه المواجهة الظافرة. فإن في كل من:


فلسطين والانتفاضة الإسلامية وتشكيل الحكومة الفلسطينية المسلمة؛ ولبنان والانتصار التاريخي الذي سجله حزب الله والمقاومة الإسلامية ضد الكيان الصهيوني المستكبر السفاح؛ والعراق وإرساء أسس حكومة مسلمة شعبية على أنقاض حكم الطاغية صدام ونظامه الدكتاتوري الملحد؛ وأفغانستان والهزيمة المخزية للمحتلين الشيوعيين والنظام المحلي العميل لهم؛ وفشل جميع المشاريع  الاستكبارية الأمريكية الرامية إلى السيطرة على الشرق الأوسط؛


وما يشهده الكيان الصهيوني الغاصب من تورط واضطراب لا علاج لهما في داخله؛ والانتشار الواسع للمد الإسلامي في معظم دول المنطقة أو جميعها، وبوجه خاص بين الشباب والمثقفين؛ والتقدم الهائل الذي أحرزته إيران الإسلامية في المجالات العلمية والتقنية على الرغم من تعرضها للمقاطعة والحصار الاقتصادي؛ وهزيمة الذين يدقون طبول الحرب في أمريكا سياسياً واقتصادياً؛ والشعور بالهوية والتمايز بين الأقليات المسلمة في غالب الدول الغربية...


في كل ذلك أدلة واضحة على انتصار الإسلام وتقدمه في ساحة مواجهة الأعداء خلال هذا القرن، أي القرن الخامس عشر الهجري.


أيها الإخوة والأخوات، إن هذه الانتصارات كلها حصيلة الجهاد والإخلاص. فعندما سُمع صوت الله من حناجر عباده، وعندما دخلت المعادلة هممُ مجاهدي سبيل الحق وقوتُهم، وعندما وَفى المسلمُ بعهده مع الله، ... عندئذ حقق العليّ القديرُ وعده وتغير مسار التأريخ : ﴿أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾. ﴿إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ﴿إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾.


إن هذا ليس إلا بداية الطريق، فهناك عقبات كأداء مازالت تعترض طريق الشعوب المسلمة. وإن اجتياز هذه العقبات لن يكون ممكناً إلا بالإيمان والإخلاص، وبالأمل والجهاد، وبالبصيرة والصبر والصمود. فلا يمكن طيّ هذا الطريق باليأس والتعامل السلبي، أو باللامبالاة وضعف الهمة، أو من خلال التسرّع والتهور، أو إساءة الظنّ بصدق ما وعد به الله تعالى.


إن العدو المنكوب قد دخل الساحة بكل ما لديه وبما سيعدّ من قوة. فلابد من يقظة وعقلانية وشجاعة مع معرفة بالفرص المتاحة. وفي هذه الحالة ستبوء كل محاولات العدو بالفشل. كما أن خلال هذه العقود الثلاثة، ظل العدو ـ المتمثل بشكل رئيسي في أمريكا والصهيونية ـ  يمارس التحديات في الساحة مستخدماً كل ما كان بحوزته من حول وقوة. ولكن لم يكن نصيبه سوى الفشل. كما أنه سيفشل في المستقبل أيضاً، إن شاء الله.


إن قسوة العدو تنم في أغلب الأحيان عن ضعفه وعدم حكمته. أنظروا إلى الساحة الفلسطينية وإلى قطاع غزة خاصة. إن التحركات الهمجية الفظيعة التي يقوم بها العدو هناك، والتي قل مثيلها في تاريخ الاضطهاد البشري، إنما تدل على ضعفه وعجزه عن التغلب على الإرادة الصلبة لدى أولئك الرجال والنساء والشباب والأطفال الذين وقفوا ـ وبأيدٍ خالية من السلاح ـ بوجه الكيان الغاصب وحاميته أمريكا وهي قوة عظمى، وداسوا بأقدامهم إرادة هؤلاء الأعداء الذين يريدون منهم الإعراض عن حكومة حماس.


سلام الله على هذا الشعب الصامد العظيم. لقد فسّر أهالي غزة وحكومة حماس عملياً هذه الآيات القرآنية الخالدة :


﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿155﴾ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إنَّا لِلّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعونَ ﴿156﴾ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾، و﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾.


ولن يكون المنتصر النهائي في هذا الصراع القائم بين الحق والباطل إلا الحق.  إن الشعب الفلسطيني الصابر المظلوم هو الذي سينتصر على العدو في نهاية المطاف. ﴿وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾.


وحتى في يومنا هذا، يلاحَظ أنه بالإضافة إلى فشل هؤلاء في تحطيم مقاومة الفلسطينيين، تعرضت مصداقية النظام الأمريكي ومعظم الأنظمة الأوروبية لهزيمة نكراء في الساحة السياسية بعد ما انكشف زيف مزاعم تلك الأنظمة في دعم الحرية والديمقراطية وشعارات حقوق الإنسان، حيث لا يمكنها تدارك هذه الهزيمة بسهولة. إن الكيان الصهيوني المفضوح، بات مسودّ الوجه أكثر من أي وقت مضى، كما أن بعض الأنظمة العربية قد خسرت في هذا الاختبار الغريب ما كان قد تبقّى لها من مصداقية ـ إن كانت تملكها أصلاً.


﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾[12].


والسلام على عباد اللهِ الصَّالِحينَ


السيد علي الحسيني الخامنئي


4/12/ 1429ﻫ      


۲۰۰۸/۱۲/۷م      

التعليقات (1)

  1. avatar
    خادم أهل البيت عليهم السلام

    اللهم إحفظ وأيد وسدد بن رسولك ، واجعله في درعك الحصينة التي تحفظ فيها من تشاء ، وأيده بنصرك وأفتح له ولنا أبواب رحمتك يا أرحم الراحمين. مشكورين على هذا الموضوع. أخوكم خادم أهل البيت عليهم السلام

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع