الولاية العامة للفقيه في نظر الإمام الخميني (قد)
بقلم الشيخ يحيى زلغوط
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسوله الكريم وأهل بيته الأطهار
إن الفقهاء يقصدون من هذا الإصلاح هو أن للفقيه (وهو القادر على استنباط الحكم الشرعي من المدارك الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل) حق الأمر والنهي على الناس ووجوب الإطاعة وحق التصرف في البلاد لتنفذ جميع أحكام الإسلام على الأرض فله هذا الحق وهذه الصلاحية بالمقدار الواسع والشامل الذي كان للأنبياء والرسل والأوصياء «عليهم السلام» إلا بعض الأحكام التي قام الدليل الخاص على أنها من مختصات المعصوم، فالفقيه يتصدّى لكل ما تصدى له الرسول «ص» والأئمة «عليهم السلام» في مختلف الشؤون السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية وغيرها لتشمل كل أحكام الإسلام. وفي مقابل هذا الرأي هناك من ذهب إلى الولاية الخاصة ويعنون بها «في أضيق دائرة» الحق في الإفتاء والقضاء، وبين هذين المصطلحين درجات عديدة تبيِّن من يوسِّع عن الدائرة الضيقة فيزيد على الإفتاء والقضاء وبين من يضيّق من الدائرة الواسعة فينقص منها بعض الصلاحيات.
ثم إنهم «رضوان الله عليهم» قد ناقشوا في دليل الولاية العامة بين من ذهب إلى القول بها بناءاً على الدليل النقلي الذي يحمل شمولاً وعموماً ليدخل في دائرته موارد الشك، وهذا ما ذهب إليه الإمام الخميني «قدس سره الشريف» ،فلو شككنا في مورد ما هل أنه من صلاحيات الفقيه أم لا، فإنه «بناءاً على دليله» يجب إدخاله في صلاحياته ويجب على المسلمين إتباعه فيه، بينما ذهب الإمام الخوئي«قدس سره» إلى الولاية العامة معتمداً على الدليل اللّبي ودليل الحسبة، وهذا الدليل لا إطلاق ولا عموم له، ففي موارد الشك لا نستطيع ـ أن ندخلها في إطار صلاحياته، لأن الدليل اللّبي يقتصر فيه على القدر المتيقن.
وقد بيَّن الإمام الخميني «قدس سره الشريف» بالأدلة النقلية الولاية بالمعنى الشامل والواسع الذي كان للمعصوم «عليه السلام» في مختلف المجالات من خطاباته قبل الثورة وبعدها وفي بياناته ومؤلفاته ومن جملتها في كتابه «الحكومة الإسلامية» الذي هو مجموعة دروس فقهية ألقاها في النجف الأشرف قبل انتصار الثورة الإسلامية المباركة.
فمن أبرز الأدلة التي اعتمد عليها في الدلالة على الشمول والعموم في ولايته ما يلي:
الأول: التوقيع الصادر عن الإمام الحجة «عجل الله تعالى فرجه الشريف» في كتاب «إكمال الدين وإتمام النعمة» عن محمد بن محمد بن عصام، عن محمد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان «عجل الله تعالى فرجه الشريف» أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك-إلى أن قال- وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله، وأما محمد بن عثمان العمري فرضي الله عنه وعن أبيه من قبل فإنه ثقتي وكتابه كتابي.
فإن رجال الحديث ثقاة، أما الراوي المباشر وهو إسحاق بن يعقوب وإن لم نجد له ترجمة في كتب الرجال، لكنه شخص حدّث الكليني بورود التوقيع إليه، وافتراء توقيع على الإمام في ظرف غيبته، وفي زمن للتوقيعات قيمتها العظيمة في النفوس، وعدم ورودها إلا على الأعاظم من المؤمنين أمر في غاية البعد أن يمر على الشيخ الكليني وعلى الطوسي من بعده من دون أن يقدحا في هذا الرجل، فعدم الجرح في هكذا مورد يكون دليلاً على الوثاقة، لأن أمر هذا الرجل دائر بين أمرين: إما في أعلى درجات الوثاقة أو في أسفل دركات الكذب والافتراء، فلو كان الثاني لما خفي على هذين العلمين على ما هما عليه من الضبط والدقة والتمحيص خصوصاً في التوقيعات وبالأخص في زمن كثر فيه الافتراء وادّعاء البابية والمقامات عند غيبته «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، إذاً فالتوقيع من حيث السند تام، وقد استفاد الإمام الخميني «قدس سره الشريف» الولاية العامة من هذا التوقيع، قال ما نصّه (فالسائل المعاصر لأوائل غيبة الإمام «عجل الله تعالى فرجه الشريف» وهو على اتصال بنوابه، ويراسل الإمام ويستفتيه – لم يكن يسأل عن المرجع في الفتوى، لأنه كان يعرف ذلك جيداً، إنما كان يسأل عن المرجع في المشكلات الاجتماعية المعاصرة، وفيما يجد من تطورات في حياة الناس، فهو إذ تعذر عليه الرجوع في تلك الأمور إلى الإمام بسبب غيبته، يريد أن يعرف المرجع في تقلبات الحياة وتطورات المجتمع والحوادث الطارئة، وهو لا يدري ماذا يفعل. وقد كان سؤاله عامّاً لا يخص جهة معينة بالذكر فكانت الإجابة عامة كذلك مناسبة للسؤال، وكان الجواب كما عرفتم: ارجعوا إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله. حجة الله تعني ماذا؟ ماذا تفهمون منها؟ هل تعني خبر الواحد؟ هل معنى «حجة الله» أن صاحب الأمر «عجل الله تعالى فرجه الشريف» إذا أخبر عن الرسول «ص» بخبر فعلينا أن نأخذ به كما نأخذ بخبر زرارة؟
هل هو حجة الله في بيان المسائل والأحكام فقط؟
إذا قال الرسول «ص» إني جعلت علياً «ع» حجة عليكم، فهل معنى ذلك: إنني سأذهب وأخلف فيكم علياً يبيِّن لكم المسائل والأحكام ويوضحها؟ أم ماذا؟
حجة الله تعني أن الإمام مرجع للناس في جميع الأمور، والله قد عينه، وأناط به كل تصرف وتدبير من شأنه أن ينفع الناس ويسعدهم، وكذلك الفقهاء فهم مراجع الأمة وقادتها.
فحجة الله هو الذي عينه الله للقيام بأمور المسلمين، فتكون أفعاله وأقواله حجة على المسلمين، يجب إنفاذها، ولا يسمح بالتخلف عنها، في إقامة الحدود، وجباية الخمس والزكاة والخراج والغنائم وإنفاقها، وذلك يعني أنكم إذا رجعتم – مع وجود الحجة- حكام الجور فأنتم محاسبون على ذلك ومعاقبونه عليه يوم القيامة.
فالله-سبحانه- يحتج بأمير المؤمنين «ع» على الذين خرجوا عليه، وخالفوا عن أمره، كما يحتج على معاوية وحكام بني أمية وبني العبّاس وأعوانهم ومساعديهم، بما غصبوه من الحق، وبما أشغلوه من المنصب الذي ليسوا له بأهل). «انتهى كلامه قدس سره»(1)
فالحاصل من كلامه «قدس سره الشريف» أن في التوقيع إطلاقاً من جهتين:
الجهة الأولى: شمول الحوادث وإطلاقها حيث لم ترد مخصصة أو مقيدة بحادثة معينة فهي تشمل كل الحوادث الواقعة، فلو أراد الإمام الحجة «عجل الله تعالى فرجه الشريف» بعضها لقيّد أو خصص فكانت الإجابة عامة، والرجوع للفقهاء عاماً في مختلف شؤون الوقائع والحوادث.
الجهة الثانية: إطلاق الحجية وشمولها، فإنه لم يقل «ع» إنهم حجتي عليكم في الإفتاء أو في القضاء، بل جعلها عامة وشاملة فهم المرجع في كل الشؤون، وهم الحجة على الناس كما كان الإمام المعصوم ومن قبله النبي الأكرم «ص».
الثاني: مقبولة عمر بن حنظلة، وسميت هذه الرواية بالمقبولة لأن الفقهاء قد تلقوها بالقبول والرضا، وهذا عامل مساعد على تقوية سند ها حتى ولو كان بعض رجالاته لم يترجم له.
عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحي، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحي، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة:
قال: سألت أبا عبد الله «ع» عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذه سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به،
قال الله تعالى: «تريدن أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، قلت كيف يصنعان»؟
قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا... فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً..»
قال: «قدس سره الشريف» ما نصه: وكانت هذه المقبولة حكماً سياسياً يحمل المسلمين على ترك مراجعة السلطات الجائرة وأجهزتها القضائية، حتى تتعطل دوائرهم، إذا هجرها الناس، ويفتح السبيل للأئمة «ع» ومن نصبهم الأئمة للحكم بين الناس.
والغرض الحقيقي من هذه الرواية هو أن لا يكون حكام الجور مرجعاً للناس في أمورهم وانحرافهم عن سوء السبيل.
وقال: «قدس سره الشريف» في بيان الفقرة: فإني قد جعلته عليكم حاكماً فعلى الناس أن يرضوا به حاكماً يرجعون إليه في قضاياهم ومنازعاتهم، ولا يحق لهم الرجوع إلى غيره، وهذا الحكم الشرعي يعم المسلمين جميعاً، وليست المشكلة تخص عمر بن حنظلة ليكون الجواب الصادر عن الإمام جواباً خاصاً به.
وكما كان أمير المؤمنين «ع» يعيِّن الولاة ويأمر الناس بالرجوع إليهم وطاعتهم.
فكذلك الإمام الصادق «ع» باعتباره ولياً حاكماً على المسلمين وعلى العلماء والفقهاء، فقد عيّن في أيام حياته ولما بعد وفاته حكاماً وقضاة، وذلك ما عبّر عنه «ع» بقوله: «جعلته عليكم حاكماً».
والحكم هنا لا يقتصر على الأمور القضائية، بل يشتمل عليها وعلى غيرها، ويستفاد من هذه الآية والآيات المتقدمة والرواية أن جواب الإمام لا يخص تعيين القضاة فقط، وإنما هو شيء أعم من ذلك، والرواية من الواضحات ولا تشكيك في سندها أو دلالتها.
ولا شك أن الإمام قد عيَّن الفقهاء للحكومة والقضاء، وألزم المسلمين كافة أن يأخذوا ذلك بنظر الاعتبار) «انتهى كلامه قدس سره» (2)
فإن الجعل الظاهري في الحاكمية يقابل حكم السلطان، فالإمام حكم ببطلان حكم سلطان جائر وسمّاه بالطاغوت.
والطاغوت بمعناها اللغوي مأخوذ من الطغيان وهو الخروج عن الحد والزيادة على المتعارف قال تعالى: «إنّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية» فإنها ظاهرة في ذلك والحكم مأخوذ من الحكمة وهي التي تستعمل للدابة وتشد على رقبتها لمنعها من التقحم، والطاغوت بضاد الحكم تماماً، فالطاغوت كل جور وفساد ومنكر، والحكم هو الوقوف على حدود الله وقوانينه وسننه، وبناءاً عليه تكون جملة «أني جعلته عليكم حاكماً» شاملة لكل قوانين الإسلام وأحكامه، ويكون الجعل عاماً لها، فيكون الإمام الصادق «ع» قد نصّبه على إقامة جميع أحكام الدّين وتنفيذها، وأبطل كل نفوذ للطاغوت وسلاطين الجور، وحينئذٍ لم يعط الفقيه العارف بالأحكام والناظر والمدقق في الحلال والحرام خصوص جهة القضاء أو الإفتاء، بل كما لسلطان الجور شمول لكل قضايا الحياة بحكم الطاغوت فللفقيه شمول وعموم لكل قضايا الحياة بحكم الله، وهذا المعنى هو الذي دعت إليه الآيات ومنعت عن التخلف عنه، واعتبرت المتخلف عنه، واعتبرت المتخلف عنه كافراً وفاسقاً وظالماً.
قال تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون».
وفي آية ثانية: «فأولئك هم الكافرون». وفي آية ثالثة: «الفاسقون».
الثالث: محمد بن يحي، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر «ع» يقول: «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة، وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها...».
قال «قدس سره» معلقاً على فقرة لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام ما هذا نصه: يعني أنهم مكلفون بحفظ الإسلام بكل ما يستطيعون.
وحفظ الإسلام من أهم الواجبات المطلقة بلا قيد ولا شرط. وهذا مما يجب على المجاميع والهيئات العلمية الدينية أن تفكر في شأنه طويلاً لتجهز نفسها بأجهزة وإمكانات وظروف يحرس فيها الإسلام ويصان ويحفظ: أحكاماً وعقائد وأنظمة، كما حافظ عليه الرسول الأعظم«ص» والأئمة الهداة «ع» انتهى كلامه قدس سره(3).
ولا يضر في السند وجود علي بن أبي حمزة البطائني فإن النهي عن الأخذ برواياته كان نهياً عن الروايات التي رواها بعد الوقف لا قبله، فما أثبته الكليني وأخذه العلماء من بعده كان ذلك قبل الوقف. وأمّا من حيث الدلالة فكما أفاد «قدس سره» فإن الحصن تعبير دقيق واستعارة من حصن القلاع والمدن الذي يشكل حفظاً تاماً لكل ما تحويه القلاع والمدن من جميع الجهات، فالفقيه يجب أن يكون حافظاً لكل أحكام الإسلام وقوانينه، والمنفذ لها، فهذه الرواية أوضح وأظهر دلالة على الولاية العامة، فإن التخلف عن تنفيذ أي حكم حين يكون الفقيه قادراً على ذلك يؤدي إلى عدم كونه حصناً من هذه الجهة.
الرابع: موثقة السّكوني، عن أبي عبد الله «ع» قال: «قال رسول الله «ع»: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: إتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم».
فإنه استفاد «قدس سره» الولاية العامة بأن كل ما أمن الله تعالى الرسل عليه فقد أمن الفقيه المجتهد عليه من أحكام وقوانين وإجراء وتنفيذ لها، فما كانوا يقومون به في رسالاتهم يجب المحافظة عليه من قبل الفقهاء فيشمل كل الواجبات والصلاحيات والوظائف على نحو الإطلاق، فلو تخلف الفقيه عن بعضها لَعُدَّ خائناً.
الخامس: اعتمد «قدس سره» على عدة روايات وآيات تتحدث عن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي ليست مقيدة بزمان أو مكان، بل هي شاملة للأعصار والأمصار وعامة لكل أمر ونهي منزل، وأولى الناس بقيام المعروف وعلى إجرائها وهذه الآيات والروايات هي المعروفة بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تدل على الشمول والعموم في الولاية لتتسع جميع أحكام الله تعالى، قال عز وجل: «ومن لم يحكم بما أنزل الله هم الكافرون»، فالحاكم بما أنزل الله هو العالم بما أنزل، المؤتمن على ما أنزل، وتنفيذ كل ما صدر من الشارع فأولئك بحسب القدرة المتوفرة لديه، والإمكانات المادية والمعنوية، ونصرة المؤمنين وجهادهم.
وقد استعرض «قدس سره» الأحاديث الواردة عن سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين «ع» حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل انطلاقته من مكة وبيانه الذي أصدره صلوات الله عليه في منى يحث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالحاصل أن كل ما هو معروف وفرض لدي الشارع يكون داخلاً في إطار ولاية الفقيه، وبحسب التصدّي لإقامته وكل منكر نهى الشارع المقدس عنه، يجب على الفقيه ردعه وهدمه في كافة الأمصار والأعصار بما يسعه ويقدر عليه، فتكون هذه الأدلة فيها العموم والشمول لكل أحكام الله تعالى.
تنبيهات ضرورية حول البحث
الأول: إن هذا العموم للولاية بناء على ما ذهب إليه «قدس سره» لا يعني أنه لم يرد أي تخصيص أو تقييد أو استثناء في بعض الموارد، فإن هناك موارد يختص بها المعصوم وليست من صلاحيات الفقيه وذلك لقيام الدليل الخاص على اختصاصها به، ومن جملتها البدء بالجهاد في قتال المشركين، فإنه جعلها «قدس سره» من مختصات المعصوم بناء على الرواية المخصصة ومنها أن المعصوم «ع» يعيِّن الإمام الذي بعده بأمر من الله تعالى، وليس للولي الفقيه أن يعيِّن الفقيه الذي يليه، فالإمام الخميني «قدس سره» يقول بعموم الولاية عن عدم ورود متخصص في بعض الصلاحيات، فإذا ورد المتخصص في مورد ما فإننا نستثنيه من العموم كالمثالين المتقدمين.
الثاني: إن الولاية التكوينية ثابتة للمعصومين «عليهم السلام» بالنطاق الواسع، فقد قال «قدس سره» ما نصّه:
(فإن للإمام «ع» مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وأن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرّب ولا نبي مرسل) «انتهى كلامه قدس سره»(4)
فهذه المقامات وهذه الولاية وهي التصرف في شؤون الكون من الذرة حتى المجرة لا تكون للفقيه، فولايته تشريعية فحسب، فلا يقاس الفقهاء بهم في علومهم أو عصمتهم أو مقاماتهم أو درجاتهم أو أنوارهم.
الثالث: الولاية التشريعية المقصودة للفقيه ليس معناها أنه مشرع كالرسول «ص»، بل هو يستنبط الحكم من المدارك الأربعة، فالفرق واضح بينهما، فالفقيه مستنبط للحكم من المدارك أمّا المعصوم «عليه السلام» فهو نفس المدارك، فالمعنى الدقيق لولاية لفقيه أن للفقيه حق الأمر والنهي فيما فهمه واستنبطه من الكتاب والعقل والإجماع والسنة، (فالسنة هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره).
الرابع: هناك خطأ شائع عند العوام وقد يستفيد منه بعض أعداء الولاية ويُطرح هذا على الدوام في محافل المنازعات والخصومة والجدل وهو أنكم تقولون بأن الفقيه أولى بك من نفسك يعني إذا قال لك أقتل نفسك لوجب عليك ذلك، أو قال لك أقتل أباك لوجب أن تنفذ ذلك، في الوقت الذي لا نجد عند جيلنا المثقف من يوضح لهم ويبيِّن هذا الأمر بالشكل المطلوب، وإذا أراد أحدهم أن يوضح ردّوا عليه بأنكم تقولون بالولاية العامة فهي تشمل هذه الموارد،
ويمكن دفع هذه الشبهات أو توضيح الحال بأن الفقيه ومن قبله الأئمة «عليهم السلام» ومن قبلهم النبي «ص» كلهم مكلفون بإجراء أحكام الله تعالى على الأرض، ويستحيل أن يصدر منهم حكم مطابق للهوى، فإن الله تعالى بيَّن ذلك في كتابه بأن يحكموا بما أنزل وأن لا يتبعوا الهوى، فهم جميعاً يسيرون في إطار قوله تعالى: «إن الحكم إلا لله»، فالحكم لله وحده لا شريك له فيه، فهم يقومون بتنفيذ هذا الحكم لا أن يحكموا من تلقاء أنفسهم، فإن كان أمرهم لزيد بقتل نفسه بمعنى العمل الإستشهادي في قافلة عدو تكون بقتله حياة المسلمين والحفاظ على عزتهم وشعوبهم وبلادهم وأعراضهم فهو حكم الله تعالى وكان أمرهم لزيد بقتل أبيه لأن أباه قاتل للنفس التي حرّم الله أو لأنه كافر حربي معتدٍ مفسدٍ فهو حكم الله لأنه أمر مبني على الموازين الشرعية، وأمّا أن أمره بقتل نفسه تشهياً وهوى فإن ذلك يستحيل على المعصوم«عليه السلام» ومسقط العدالة للفقيه أو دليل على جهله وعدم فقاهته ومهما يكن من أمر فقد نبّه الإمام الخميني «قدس سره» إلى أن الفقيه ليس بديكتاتور يحكم كما يريد بل هو حاكم بحكم لله تعالى لا يحيد عنه فإذا حكم بغير حكمه فلا شرعية ولا اعتبار لحكمه، فإنّ الجور والظلم والتجبر في طرف حكام الطاغوت لا حكام الحق والعدل، فإن من مواصفات الولي الفقيه العدالة والعلم، فالولاية العامّة عمومها لأحكام الله، كل أحكام الله، لا لأحكام الله وأحكام الطاغوت، فأمر الله منهي عنه عند الطاغوت، والمنهي عنه عند الله تعالى مأمور به عند الطاغوت.
فلا تداخل بين الظلمات والنور والحق والباطل، ومن هنا إذا علم المكلف بمخالفة حكم الحاكم للواقع على نحو القطع واليقين كان من مستثنيات وجوب الإطاعة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
----------------------------
(1) الحكومة الإسلامية صفحة 78-79.
(2) الحكومة الإسلامية صفحة 88-89.
(3) الحكومة الإسلامية صفحة 65.
(4) الحكومة الإسلامية صفحة 53.
التعليقات (1)
أم حسن
تاريخ: 2008-12-01 - الوقت: 21:50:25الموضوع رائع وعلمي .. رحم الله هذا العالم والعارف الكبير الذي زلزل أركان الكفر