شارك هذا الموضوع

مسألة الهلال وإمكانية الرؤية

مسألة الهلال وإمكانية الرؤية


نقدم فيما يلی رأی سماحة المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله دام ظله بالنسبة لتولد الهلال و وحدة الأفق التی بنى عليها رأيه الفقهی باعتماد الحسابات الفلكية المفيدة للاطمئنان مع إمكانية الرؤية لتحديد بدايات الشهور القمرية.


كيف يتولد الهلال:


يتمّ القمر دورة حول الأرض فی مدّة تستغرق تسعة وعشرين يوماً واثنتی عشرة ساعة وأربعة وأربعين دقيقة، فإذا أخذنا بعين الاعتبار تغييرات تحصل لهذا التقدير تصل إلى حوالی ثلاث عشرة ساعة، فإنَّ ذلك يعنی أن الشهر القمری یُرى مرة بعد مضی ثلاثين يوماً منه ومرة بعد مضی تسعة وعشرين يوماً منه، كما هو متعارف عند النّاس، ولا يكون ثمانية وعشرين يوماً، وهو من الناحية العلمية صحيح، وله آثار شرعية تظهر خلال البحث.


وفی مرحلة من دورة القمر يغيب قرصه تماماً فی الظلّ ما بين الشمس والأرض، فتحجبانه عن الناظرين من جهتيه، وهو الموقع الذی يسمى بـ(المحاق)، فإذا خرج من دائرة الظلّ هذه وانعكس ضوء الشمس على ذلك الجزء الذی ظهر سمی هذا الخروج "ولادة" حيث تتحقّق بهذه الولادة بداية الشهر القمری الطبيعی الذی يأخذ ذلك الشكل المعروف بـ (الهلال).


وظهور الهلال فی أول الشهر يكون عند غروب الشمس، ویُرَى فوق الأفق الغربی بقليل، ولا يلبث غير قليل حتى يختفی تحت ذلك الأفق، ولهذا لا يكون واضح الظهور، وكثيراً ما تصعب رؤيته، بل قد لا يمكن أن يرى بحال من الأحوال لسبب أو لآخر، كما إذا تمت مواجهة ذلك الجزء المضیء من القمر للأرض ثُمَّ غاب واختفى تحت الأفق قبل غروب الشمس، فإنه لا تتيسر حينئذ رؤيته ما دامت الشمس موجودة، أو تواجد بعد الغروب ولكن كانت مدّة مكثه بعد غروب الشمس قصيرة جداً بحيث يتعذر تمييزه من بين ضوء الشمس الغاربة القريبة منه، أو كان هذا الجزء المنير المواجه للأرض من القمر (الهلال) ضئيلاً جداً لقرب عهده بالمحاق إلى درجة لا يمكن رؤيته بالعين الاعتيادية للإنسان، ففی كلّ هذه الحالات تكون الدورة الطبيعية للشهر القمری قد بدأت على الرغم من أن الهلال لا يمكن رؤيته.


ولكن الشهر القمری الشرعی فی هذه الحالات التی لا يمكن فيها رؤية الهلال لا يبدأ تبعاً للشهر القمری الطبيعی، بل يتوقف ابتداء الشهر القمری الشرعی على أمرين: أحدهما: خروج القمر من المحاق وابتداؤه بالتحرّك بعد أن يصبح بين الأرض والشمس، وهذا يعنی مواجهة جزء من نصفه المضیء للأرض. والآخر: أن يكون هذا الجزء مما يمكن رؤيته بالعين الاعتيادية المجرّدة أو بالوسائل المقربة وإن لم یُر فعلاً، وعليه فإذا أثبت العلم بوسائله التقنية الدقيقة إمكان رؤيته، لولا وجود بعض الأمور الطارئة المانعة من الرؤية، فإنه يمكن الحكم بالهلال حينئذ.


 
المرجع السيد محمد حسين فضل الله
وعلى هذا الأساس قد يتأخر الشهر القمری الشرعی عن الشهر القمری الطبيعی، فيبدأ هذا ليلة السبت مثلاً ولا يبدأ ذاك إلاَّ ليلة الأحد، وذلك فی كلّ حالة خرج فيها القمر من المحاق، ولكن لم يكن بعد قد مرّ الوقت الكافی الذی يكون فيه الهلال قد اختزن الكمية من الضوء التی تساعد على الرؤية.


وبتعبير آخر: إنَّ وجود حاجب يحول دون الرؤية، كالغيم والضباب، لا يضرّ بالمقياس، لأنَّ المقياس إمكان الرؤية فی حالة عدم وجود حاجب من هذا القبيل. ولذا فإنه يصح فی هذه الحالة وفی غيرها الاعتماد على قول الفلكی الخبير الثقة بخروج القمر من المحاق إلى الدرجة التی يمكن رؤيته فيها بالعين المجرّدة، ويكفی ذلك فی ثبوت الهلال الشرعی حتى لو لم يقدر أحد على رؤيته، لوجود الموانع أو لعدم استهلال النّاس.


أفق واحد أم آفاق متعدّدة:


المراد بالأفق هو الموقع المتقارب للبلدان المتعدّدة الواقعة على خطّ واحد، بحيث يكون لها غروب وشروق واحد متقارب جداً، ولما كانت الأرض كروية والبلاد منتشرة عليها فإنَّ البلدان تختلف فی آفاقها باختلاف مواقعها.


ولما كان ظهور الهلال بعد ولادته مرتبطاً بغروب الشمس فإنَّ اختلاف الغروب فی البلدان قد يمنع من رؤية الهلال فی بعضها، فهل يكون الشهر القمری فی كلّ منطقة من الأرض مرتبطاً بإمكان الرؤية فيها بالذات، فيكون لكلّ أفق شهره القمری الخاص، فيبدأ فی هذا الأفق الغربی فی ليلة متقدّمة وفی أفق شرقی فی ليلة متأخرة، أو أنَّ الشهر القمری له بداية واحدة بالنسبة إلى الجميع، فإذا رُؤی الهلال فی جزء من العالم كفى ذلك للآخرين؟


وبكلمة أخرى: هل حلول الشهر القمری الشرعی أمرٌ نسبی يختلف فيه أفق عن أفق، فيكون من قبيل طلوع الشمس، فكما أنَّ الشمس قد تطلع فی سماء بغداد ولا تطلع فی سماء ميتشغن فيكون الطلوع بالنسبة إلى بغداد ثابتاً والطلوع بالنسبة إلى ميتشغن غير متحقّق، أو أنَّ بداية الشهر القمری الشرعی أمر مطلق وظاهرة كونية مستقلة لا يمكن أن تختلف باختلاف البلاد؟


وفی مقام الجواب نقول: إننا كنّا قد ذكرنا أنَّ الشهر القمری الشرعی تتوقف بدايته على مجموع عاملين: أحدهما كونی وهو الخروج من المحاق، والآخر أن يكون الجزء المنير المواجه للأرض ممكن الرؤية، وإمكان الرؤية يمكن أن نأخذه كأمر نسبی يتأثر باختلاف المواقع فی الأرض، ويمكن أن نأخذه كأمر مطلق محدّد لا يتأثر بذلك، وذلك لأننا إذا قصدنا بإمكان الرؤية إمكان رؤية الإنسان فی هذا الجزء من الأرض وفی ذاك كان أمراً نسبياً، وترتب على ذلك أنَّ الشهر القمری الشرعی يبدأ بالنسبة إلى كلّ جزء من الأرض إذا كانت رؤية هلاله ممكنة فی ذلك الجزء من الأرض، وإذا قصدنا بإمكان الرؤية إمكان الرؤية ولو فی نقطة واحدة من العالم، فمهما رؤی فی نقطة بدأ الشهر الشرعی بالنسبة إلى كلّ النقاط، كان أمراً مطلقاً لا يختلف باختلاف المواقع على الأرض.


وبذلك يتضح أنَّ الشهر القمری لما كان مرتبطاً ـ إضافة إلى الخروج من المحاق ـ بإمكان الرؤية، وكانت الرؤية ممكنة أحياناً فی بعض المواضع دون بعض، كان من المعقول أن تكون بداية الشهر القمری الشرعی نسبية، وحينئذ لا بُدَّ من الرجوع إلى الشريعة التی ربطت شهرها القمری الشرعی بإمكان الرؤية لنرى أنها هل ربطت الشهر فی كلّ نقطة بإمكان الرؤية فی تلك المنطقة أو ربطت الشهر فی كلّ المناطق بإمكان الرؤية فی أی موضع كان؟


والأقرب على أساس ما نفهمه من الأدلة الشرعية هو الثانی، وعليه فإذا رؤی الهلال فی بلد ثبت الشهر فی سائر البلاد التی تشترك معه فی جزء من الليل.


كيف يثبت أول الشهر؟


اتضح أنَّ بداية الشهر القمری الشرعی تتوقف على أمرين: خروج القمر من المحاق، وكون الهلال ممكن الرؤية وإن لم ير فعلاً، فإذا اقترن هذان الأمران بالرؤية الفعلية كان ذلك خيراً على خير.


 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع