بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين محمد و آله الطيبين الطاهرين.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى والْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ومَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ولِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).صدق الله العلي العظيم
نستقبل هذه الأيام ضيفاً كريماً، ومناسبة جليلة، فقد أطل علينا شهر رمضان، شهر الخير والبركة والسعادة، شهر الإنابة والتوبة، شهر المغفرة والعتق من النار "شهر الله العظيم"، ولقد اعتاد المسلمون في كافة الأقطار الإسلامية ومنذ أقدم العصور على الاحتفاء بهذا الشهر وتعظيمه والاستبشار لمقدمه، فهو ليس كبقية أشهر السنة التي تمر علينا مرور الكرام، بل لهذا الشهر من المكانة والاحترام ما ليس لغيره من الشهور، ولعل السر في ذلك أنه الشهر الذي نزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة وبدلها من خوفها أمناً، ومكن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة ولم تكن من قبل شيئاً، وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء، فلا أقل من شكر الله على نعمته هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي أنزل فيه القرآن ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى و الفرقان..).
وفي عظمة هذا الشهر وجلالة قدره، أنه فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فكان من المناسب جداً أن يهتم المسلمون باحترام هذا الشهر واستقباله بما يليق به، عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: قال رسول الله(ص):( شهر رمضان شهر الله عز و جل، وهو شهر يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، وهو شهر البركة، وهو شهر الإنابة، وهو شهر التوبة، وهو شهر المغفرة، وهو شهر العتق من النار والفوز بالجنة، ألا فاجتنبوا فيه كل حرام، وأكثروا فيه من تلاوة القرآن، وسلوا فيه حاجاتكم، واشتغلوا فيه بذكر ربكم، ولا يكونن شهر رمضان عندكم شهر كغيره من الشهور، فأن له عند الله حرمة وفضلا على سائر الشهور، ولا يكونن شهر رمضان يوم صومكم كيوم فطركم..).بحار الأنوار/ ج 93/ ص 339
فهنيئاً للمسلمين حقاً الذين يحيون هذا الشهر بالعبادة والتوبة إلى الله، هنيئاً لهم على هذه الفرصة الساعة من العمر، التي هيأها الله لهم لكي يتصلوا به ويفتحوا قلوبهم له ويعرضوا أعمالهم عليه، فيثيبهم على ما قدموا من عمل صالح، ويغفر لهم ما أخطاؤا فيه من ارتكاب المحارم عند توبتهم منها وطلبهم المغفرة منه..
وفي جلالة هذا الشهر وكراماته هو جمع كلمة المسلمين، ففي هذا الشهر تتمثل وحدة المسلمين على اختلاف أقطارهم وأجناسهم ومذاهبهم، في الاحتفاء بهذا الشهر والاهتمام به، والتوجه إلى الله بقلوبهم، طالبين منه العون والمغفرة، ومظهرين الخشوع والخضوع لعظمته وجلالته، وأنه المستحق للعبادة باعتباره المفضل علينا بالنعمة والرزق والإيمان، فالله سبحانه وتعالى خالق الخلق، وقاسم الرزق، وهو قادر على كل شيء، بيده أمر العباد لا يكلفهم إلا قدر طاقتهم، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، مدركاً لمصالحهم ومفاسدهم، فعلى العباد والمؤمنين به أن يوحدوه ولا يشركوا به أحدا، ويخصوه بالعبادة دون سواه ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )، وأن يجعلوا الحكم له في جميع شؤونهم، لأنه الأعلم بمصالحهم ومفاسدهم، فكان على المسلمين أن يدينوا بالإسلام لأنه النظام الصالح للحياة على هذه الأرض، ولأنه المنهج القويم الذي شرعه الله لعباده ( ففي المنهج الإسلامي وحده يتحرر الناس جميعاً في عبادة بعضهم لبعض بعبادة الله وحده والتلقي في الله وحده والخضوع لله وحده ).
فالإسلام يعني إسلام العبادة لرب العباد، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، بإخراجهم من سلطان العباد في حاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة، في هذا جاء الإسلام على يد محمد(ص) كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله جاء ليرد الناس إلى حاكميه الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس، فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم في السلطة هي التي تنظم وجوده، فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير النهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله، بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم.
فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم وحياتهم وموتهم، كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها، وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله، كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرنه، ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في جانب الإرادي من حياتهم، فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن من شؤون هذه الحياة تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقاً بين وجودهم كله نظرية هذين وبين الوجود الكوني.
وليست هناك فرصة جديرة بالإنابة والرجوع إلى الله أفضل من هذا الشهر الفضيل، الذي فتح الله فيه باب التوبة لعباده ودعاهم فيه إلى ضيافته، فعلى المسلم في هذا الشهر أن يعرض نفسه وسلوكه وأفعاله على ربه ومحاولاً الاهتداء بشريعته والاقتداء بسنة رسوله(ص) والأئمة الطاهرين من عترته الذين أمرنا بالتمسك بهم لأنهم أحد الثقلين الذي أمر الرسول بالتمسك بهما بقوله:( إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ) فالتمسك بالكتاب العزيز والاهتداء بسنة النبي الكريم(ص) من طريق الأئمة الراشدين خير وسيلة للتمسك بأهداف الإسلام وتطبيق تعاليمه وأحكامه في كافة الشؤون الحياتية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
من محاضرات العلامة الشهيد السيد أحمد الغريفي
التعليقات (0)